المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تشير التقارير الأخيرة إلى أن مشروع نقل القواعد العسكرية الإسرائيلية من وسط البلاد إلى شمال صحراء النقب ما زال يتعثر، بالرغم من الميزانيات الضخمة التي رصدت لهذا الغرض على مر السنين. ويستدل من هذه التقارير أن مشكلة الإسرائيليين الأكبر هي في نقل الوحدات الاستخباراتية، والعاملة في مجال التقنية العالية (الهايتك)، لأن العاملين فيها، وهم بغالبيتهم الساحقة من الأجيال الشابة ذات المؤهلات العلمية العالية، ترفض مغادرة الحياة العصرية في وسط البلاد والسكن في صحراء النقب.

 

وقد ظهر هذا المشروع منذ سنوات طويلة، لكن منذ سنوات الألفين الأولى، في ظل حكومة أريئيل شارون الأولى، دخل مسار القرارات الحكومية، وتم وضع سلسلة من الأهداف الزمنية، وبالإمكان القول إنه لم يتم تحقيق شيء منها. وخلال ولاية حكومة نتنياهو قبل السابقة كان العام الجاري 2018 هدفا لإنهاء عملية الانتقال، والآن لا يبدو أن بالإمكان انجاز هذا المشروع حتى نهاية العام المقبل 2019، بل وحتى بعده.

وحسب التقارير، التي وردت في الصحافة الاقتصادية، ومنها "ذي ماركر" و"كالكاليست"، فإن الحكومة كانت قد رصدت 300 مليون شيكل، أي قرابة 84 مليون دولار، لغرض تخطيط وتنظيم المنطقة المخصصة لنقل القواعد العسكرية، بالقرب من مدينة بئر السبع. لكن كما يبدو فإن الانتقال لمرحلة البناء سيتأجل، إلى حين ضمان عملية الانتقال. وهذا على ضوء حالة الاعتراض على الانتقال للعيش في النقب، لدى الغالبية الساحقة من حوالي 19 ألفا، معظمهم من الجنود في الجيش النظامي.

وكان رئيسان سابقان لجهاز المخابرات العسكرية، أفيف كوخافي وهيرتسي هليفي، قد حذرا الحكومة من أن عملية الانتقال هذه قد تدفع بأعداد كبيرة من العاملين في القواعد العسكرية لمغادرة صفوف الجيش نحو الحياة العملية المدنية. وقالت "ذي ماركر" إن جهاز المخابرات أجرى استطلاعات بين الجنود والضباط والعاملين في الوحدات الاستخباراتية والهايتك، وكان الانطباع الناشئ من نتائج الاستطلاعات أن نقل القواعد سيجبي ثمنا باهظا من الجيش، كون أن العاملين المتفوقين في مجالهم لن يقبلوا العيش في النقب، برغم المغريات التي ستعرض عليهم، خاصة وأنهم في اللحظة التي يغادرون فيها العمل في الجيش، ستُعرض عليهم فرص عمل في السوق، وقد تكون بشروط أفضل.

وتقول التقارير إنه من المتبع أن يتنقل ضباط وجنود الجيش النظامي للعيش في مناطق قريبة من معسكراتهم، ولكن هذا صعب حينما يكون الحديث عن الوحدات ذات الاختصاص التكنولوجي والهايتك، لأن أمامهم مغريات أكبر في السوق المفتوحة. وتبين أن رفض الانتقال كان حتى حينما يجري الحديث عن منطقة تبعد عن مدينة بئر السبع الكبرى بحوالي 10 دقائق سفر بالسيارة. لكن من ناحيتهم فإنه لا يمكن المقارنة بين الحياة في مدينة تل أبيب ومنطقتها الكبرى، وبين مدينة بئر السبع.

وفي اجتماع عقد قبل أيام، بمشاركة عدد من المسؤولين في دوائر القرار، طُرحت فكرة مد سكة حديد مباشرة، إلى المنطقة التي تم التخطيط لنقل القواعد العسكرية اليها. وتبين أن كلفة المشروع قد تصل إلى 4ر2 مليار شيكل، وهو ما يعادل 667 مليون دولار. وكان اللافت أن وزير المالية موشيه كحلون وافق على هذه الفكرة، برغم كلفتها العالية، وعرض ميزانية تقارب 28 مليون دولار لغرض تخطيط سكة الحديد. ويرى كحلون بفكرة كهذه كجزء من الاستثمار في النقب. وأعلن ممثلو الجيش في الاجتماع أنهم سيفحصون ما إذا كان مشروع سكة الحديد سيغير من حالة الرفض القائمة لدى العاملين.

خلفيات نقل القواعد ودوافع الرفض

من الواضح، كما ذكر، أن الجانب العسكري كهدف لنقل القواعد العسكرية من مركز البلاد إلى شمال منطقة الجنوب، في هذه الحالة العينية، هو جانب ضعيف للغاية، إذ أن طول الخط الهوائي بين المنطقة المخصصة للقواعد العسكرية في الجنوب، وبين مواقعها في مركز البلاد، هو في حدود 80 كيلومترا بالمعدل، لذا فإن لهذا المشروع هدفين مركزيين: الأول، إخلاء أراض ذات قيمة من الصعب تقديرها بثمن، في قلب منطقة تل أبيب الكبرى، لاستغلالها لأغراض تجارية واسكانية، والثاني له ارتباط بالأول، وهو السعي لنشر اليهود في شمال البلاد وجنوبها، فهذا هو التوزيع الديمغرافي الذي تسعى له إسرائيل منذ قيامها، ويفشل في تحقيق أهدافه بالحجم المطلوب.

وتشهد منطقة مركز البلاد، وبشكل خاص منطقة تل أبيب، ما يشبه حالة تفجر سكانية، كونها المنطقة الاقتصادية الأضخم، من دون منافس، وهي وجهة الأجيال الشابة، نظرا لطبيعة الحياة العصرية، وخاصة الشبابية منها. وكذا هي عنوان العاملين في الصناعات العصرية، وخاصة الهايتك. وهذا الاكتظاظ السكاني ينعكس في ارتفاع حاد في أسعار البيوت، التي ترتفع بالمعدل بنسبة 250% عما هي عليه الأسعار في المدن والبلدات البعيدة عن مركز البلاد، شمالا وبالذات جنوبا. وكذا أيضا بالنسبة لظاهرة الاختناقات المرورية، التي باتت أزمة حادة جدا، تؤثر على جودة الحياة.

وعلى سبيل المثال يصل الاكتظاظ السكاني في مدينة تل أبيب، حسب معطيات العام 2016، إلى حوالي 8500 نسمة على الكيلومتر المربع الواحد، مقابل 1750 نسمة في مدينة بئر السبع، وإذا بحثنا عن معطيات على مستوى المنطقة الواسعة، سنجد الفجوة أكبر بكثير، كون أن بئر السبع تقع في صحراء النقب (شمال جنوب البلاد).

ولذا فإن جهات التخطيط الاستراتيجي شرعت منذ سنوات عديدة في البحث عن أراض جديدة في وسط البلاد، وبالذات في مدينة تل أبيب ومنطقتها. وتم وضع مشروعين مركزيين: الأول، إخلاء مرافق ضخمة من منطقة تل أبيب، فجاءت الفكرة منذ ما يزيد عن 15 عاما بإخلاء القواعد العسكرية، وبالذات قواعد الاستخبارات، ومعها المطار الداخلي المدني المسمى "دوف"، القائم وسط الأحياء السكنية في تل أبيب. والمشروع الثاني هو ما أطلق عليه "إخلاء وبناء"، بمعنى هدم أحياء سكنية قديمة، منها ما أقيم قبل 40 و50 عاما، مقابل تعويضات لأصحاب البيوت، لغرض بناء أحياء جديدة ببنايات كثيرة الطوابق، ولهذا الغرض يتم أيضا إعادة تخطيط وتنظيم الأراضي التي يتم اخلاؤها.

وفيما أن المشروع الثاني، ومطار دوف، هو قيد التنفيذ، فإن مشروع نقل القواعد العسكرية ما زال يتعثر، وتم اقتطاع عدة سنوات من الهدف الأصلي لإنهاء عملية النقل.

والهدف الثاني، لمشروع نقل القواعد العسكرية، هو التوخي بأن يقتنع عشرات آلاف العاملين في الجيش، من عناصر الجيش النظامي، والعناصر ضمن الخدمة العسكرية الإلزامية، أو العاملين في مرافق الجيش من المدنيين، أن ينتقلوا للسكن كليا في جنوب البلاد، في منطقة بئر السبع. واستنادا لما ورد سابقا، فإن الحديث يجري عن 19 ألف عامل في الوحدات ذات الطابع الاستخباراتي والهايتك، والغالبية الساحقة من هؤلاء لها عائلات، ما يعني أن الحديث، من جهة المخططين، بات عن عشرات الألوف، ينتقلون للسكن فرضيا إلى صحراء النقب.

إلا أن هذا، واستنادا للوقائع على الأرض على مدى السنين، سيبقى فرضية صعبة المنال، على الأقل في السنوات القريبة، لأن المنطق يقول إن آلاف العائلات هذه، التي هي بغالبيتها الساحقة جدا من الأجيال الشابة ولديها أطفال، لن تقبل بالانتقال من منطقة الازدهار، والحياة النابضة، وخاصة الشبابية، من أجل العيش في منطقة صحراوية، ظروفها الاجتماعية أضعف بما لا يقاس من منطقة المركز. وكذا فإن الزوجات أو الأزواج سيكون عليهم ترك أعمالهم في المنطقة الكبرى، من اجل عمل شريك الحياة، ومن فوق كل هذا فإن الحديث يجري عن ذوي مؤهلات مهنية علمية عالية جدا، سيجدون فرص عمل في السوق المفتوحة ولربما بأجور أعلى.

وكما رأينا في ما سبق هنا، فإن دوائر القرار تستوعب هذا الحال، ولذا جاءت فكرة مد سكة حديد حتى المنطقة المخصصة للقواعد العسكرية، بكلفة تصل إلى حوالي 667 مليون دولار، ما يعني أن هناك حالة استسلام لواقع أن آلاف العائلات تلك لن تنتقل للعيش في صحراء النقب. ولذا إذا سقط الهدف الديمغرافي في هذه الحالة، فعلى الأقل يضمنون الهدف الجغرافي، بمعنى كسب أراضي القواعد العسكرية، وهذا ما يمكن فهمه مما قاله وزير المالية، موشيه كحلون، في اجتماع عقد مؤخرا، بأنه سيعمل على إيجاد ميزانية 4ر2 مليار شيكل لإقامة سكة الحديد، لأن الجدوى أكبر.

وكما ذكر فإن الحكومات الإسرائيلية، على مدى عقود، تسعى إلى نشر اليهود في سائر أنحاء البلاد، وبشكل خاص في الشمال، حيث نسبة فلسطينيي الداخل 53%، والجنوب، صحراء النقب بالذات، حيث نسبة العرب تقارب 40%. وأقيمت لهذا الغرض مدن، والمئات من البلدات الصغيرة، من أجل جذب اليهود للسكن في هاتين المنطقتين، مع مغريات كثيرة، في صلبها امتيازات ضريبية ومالية أخرى. إلا أن واقع الحال يقول شيئا آخر، فالغالبية الساحقة من الأجيال الشابة اليهودية، التي عائلاتها تسكن في الشمال والجنوب، تزحف بشكل متواصل نحو وسط البلاد، فور إنهاء المرحلة المدرسية، ومن بعدها العسكرية. وخاصة الشريحة التي تنتقل إلى التعليم العالي، فهي تبحث عن حياة الشباب العصرية، والمنطقة الاقتصادية الأكثر ازدهارا.

وأبرز مثال على هذا مدينة نتسيرت عيليت، التي أقامها دافيد بن غوريون في العام 1956، على أراض مصادرة من مدينة الناصرة وعدة قرى مجاورة، اعتقادا منه أن هذه المدينة ستبتلع الناصرة وجوارها. وما جرى حتى الآن يمكن القول إنه العكس. فاليوم نسبة العرب الرسمية، بمعنى المسجلين في مدينة نتسيرت عيليت، تفوق 28%، من أصل قرابة 52 ألف نسمة، وفعليا تفوق 33%، بمعنى أناس مقيمين في المدينة ولكن ما زالوا مسجلين في الناصرة أو القرى الأخرى. وهذه نسب في ارتفاع متواصل. وهم قوة انتخابية جدية. والعرب ممثلون في المجلس البلدي بقائمة وحدوية، سبقت القائمة المشتركة في الكنيست بسنوات، ونائب رئيس البلدية هو عربي، الدكتور شكري عواودة.

والحال نفسه بدأ في السنوات الأخيرة في مدينة كرميئيل، الجاثمة على أراضي قرى الشاغور، في وسط منطقة الجليل، وهي أيضا تحظى بهجرة عربية نحوها، وقد نشهد قريبا تمثيلا عربيا في المجلس البلدي. ولا يقتصر الأمر على هاتين المدينتين فقط، بل يمتد حتى مدينة حيفا، من أكثر المدن العصرية، وهي المدينة الثالثة في البلاد، التي تشهد هي أيضا هجرة يهودية منها نحو المركز أساسا.

وتُعد منطقة الشمال أكثر تطورا من الجنوب، وأجواؤها أفضل بما لا يقاس من صحراء النقب، فإذا هذا هو الحال في الشمال، فكيف سيكون الحال جنوبا؟. وتسعى الحكومات الإسرائيلية لمقاومة هذه الظاهرة، من خلال تطوير ضخم وواسع النطاق لشبكات الطرق، بزعم أن هذا قد يساعد على التوزيع الجغرافي، إلا أن المنطق يقول إن العاملين يفضلون دائما أن يكونوا بالقرب من أماكن عملهم.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, كرميئيل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات