المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يتواصل في إسرائيل عرض حلقات مسلسل وثائقي إسرائيلي اسمه "صالح، هنا أرض إسرائيل"، موضوعه شكل تعامل مؤسسة دولة إسرائيل مع اليهود الذين هاجروا، أو دُفعوا للهجرة، من دول شمال أفريقيا العربية إلى البلاد، ومنطلقات هذا التعامل الذي اتّسم أكثر شيء بالاستعلاء العنصري. وهذا لأن النظرة إليهم كانت غربية- أشكنازية نحو يهود عرب،

مختلفين عن الصورة التي شكلتها المؤسسة الصهيونية لليهودي الذي "ينبعث من جديد"، كما رُسمت معنوياً في النصوص الإيديولوجية والأدبية، وكما رُسمت فعلا في الملصقات الدعائية الشهيرة: الأبيض الأشقر الشعر، طويل القامة ومفتول العضلات، الذي يقبض على معول بيد وبندقية باليد الثانية.

هذا المسلسل، الذي سبق أن عُرض بصيغة فيلم قبل أشهر، يقدِّم تلك القصة غير الجديدة بأدوات فنية نجحت في إعادتها إلى مركز الاهتمام، إذ ينوّه أحد المقالات النقدية الى أن منتجي الفيلم قد نجحوا في كشف بروتوكولات واقتباسات غير معروفة من الأرشيفات التي كان من شأنها أن تصدم المشاهدين. ويشيد المقال بتقنية خلق موازاة سينمائية بين هذه البروتوكولات وبين قصص حياة سكان بلدة يروحام الجنوبية، وهو ما أنتج تجربة جديدة ولغة جديدة لقصة قمع الشرقيين.

مع ذلك، فإن قوّة الجدل الذي ثار ويتواصل تكمن في عمق وتجذّر هذه القضية في المجتمع الإسرائيلي. فالقمع الذي تم إنتاجه في خمسينيات القرن الماضي لم يكن "خطأ تطبيقياً"، كما يزعم قباطنة المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية، بل كان عملياً تشييداً لبنية تحتية لما سيؤسس لدائرة مقفلة من القمع الإثني- الطبقي لهذه الشريحة من اليهود.

وبين تلك الردود على المسلسل ما عاد وأكد العنصرية التي تعرّض لها هؤلاء اليهود، وهم في الحقيقة وكما يقول بعض محاوَري الوثائقي، يهود عرب؛ وكذلك الجانب المتعلق بإقدام اليمين السياسي الحاكم على استغلال إعادة نبش هذه الذاكرة الإشكالية بعنصريتها، في محاولة لاستغلالها لمآربه ومصالحه، وعلى رأسها الإمعان في الاستفراد باليهود العرب، وتعميق الشرخ بينهم وبين "النخب القديمة الإسرائيلية" من جهة، وتأجيج شعور العداء تجاه العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل، وإبقائهم مخزونا انتخابيا سهلا ومربحا لليمين من جهة أخرى.

لفهم مدى الغضب يجدر التمعّن في بعض المواد الأرشيفية الصارخة. فمثلا كتب رئيس قسم الاستيطان في "الوكالة اليهودية"، رعنان فايتس، إلى أحد مرؤوسيه (حينذاك) ببرود: لقد طلبتُ منك في حينه أن تفتح كتاباً أسود لتسجّل فيه كل العائلات التي غادرت الإطار الاستيطاني الجديد (موقع التوطين) بدون ترتيب وبدون تصريح. وأطلب منك بناءً عليه أن تجمع كل هذه الأسماء وترسل نسخاً من القوائم إلى مكاتب العمل لكي نمنع عنهم العمل... وإلى قسم الاستيعاب حتى نمنع عنهم ترتيبات الاستيعاب والسكن في المواقع التي يتواجدون فيها اليوم، وإلى قسم التأهيل الحكومي لإخراجهم من دور الانتظار للإسكان.

والصيد في هذه المياه العكرة تتقنه، مثلا، وزيرة العدل اليمينية أييلت شاكيد، التي أعلنت أيضا أنها تنوي فتح وثائق أرشيف الوكالة اليهودية أمام الجمهور، وذلك في محاولة مكشوفة لممالأة شرائح من اليهود الشرقيين. وهي تقول، وفقاً لبيان رسمي: "ليس هناك أي سبب في أن لا تُكشف المواد التي تتناول تاريخ الدولة. سوف نستعرض المادة ونوصي بكشفها ونشرها طالما لم يكن هناك ما يشكل حساسية من ناحية أمن الدولة". ولكن كما يشير من عمل مستشاراً للمسلسل، فمن غير المؤكد أن هناك مواد سرية في هذا الإطار، وهو ما تعلمه الوزيرة (مع التأكيد على وجود مواد بكميات هائلة لا تزال مؤسسات الدولة تتكتم عليها بذرائع الأمن).

أخيراً، والأهم ربما، هو الحقيقة المركزية والهامة التي طرحها المسلسل، وتتمثل في أن شكل توطين اليهود العرب المهجرين من دولهم والمستقدمين إلى إسرائيل الصهيونية، جاء ضمن خطة واضحة ومعلنة ومكتوبة ومفصلة لجعل هؤلاء المهاجرين بمثابة حاجز أمام عودة اللاجئين الفلسطينيين، إذ تم توطينهم باعتراف المؤسسة في المناطق التي عُرّفت "خاوية" ويكتنفها خطر "اجتياح" اللاجئين الفلسطينيين المهجرين إليها. حتى أن أحد المتحدثين في المسلسل يقول بصراحة كاملة إن من حدد نقاط ومناطق ومواقع توطين اليهود العرب كان الجهاز الأمني بنفسه، إذ وضع الجيش تقارير مفصلة للمناطق التي تقتضي "الحاجة الأمنية" توطين يهود فيها. وتكفي نظرة سريعة إلى الخارطة لرؤية أن ما سمي بـ "بلدات التطوير" النائية أقيمت بمعظمها ليس فقط في مناطق طرفية "خاوية"- أي تم إخلاء الفلسطينيين منها بالتهجير- بل على أنقاض قُراهم الفلسطينية نفسها: مجدال هعيمك على أنقاض المجيدل، العفولة على أنقاض الفولة، بيت شآن على أنقاض بيسان... وهذه أمثلة فقط من قائمة طويلة.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, يروحام, الوكالة اليهودية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات