المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

حذرت الرئيسة السابقة للمحكمة الإسرائيلية العليا، القاضية دوريت بينيش، من المحاولات الرامية إلى ضرب صلاحيات المحكمة العليا، والجهاز القضائي، وجهاز المستشارين القانونيين في الوزارات، بهدف زيادة سطوة السياسيين على جهاز الحكم، من دون رقابة قضائية، لما في ذلك من ضرب للنظام الديمقراطي، والمساواة أمام القانون، وأيضا ضرب حقوق الأقليات.

كما حذرت بينيش، في خطاب واسع وصريح، من مخاطر "قانون القومية"، مؤكدة أن إسرائيل ليست بحاجة له، وكل التعريفات التي يسعى لها القانون قائمة بقانون آخر، والهدف من مشروع القانون المطروح هو اخضاع النظام الديمقراطي ليهودية الدولة وهذا خطر، وفق ما تقر به بينيش.

وجاء هذا كله في خطاب للقاضية المتقاعدة بينيش، التي غادرت منصبها قبل أعوام قليلة، ألقته في حفل توزيع جوائز على اسم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول دافيد بن غوريون. ونشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت". وننشر هنا مقاطع واسعة منه.

ويأتي هذا الخطاب في الوقت الذي تسارع فيه حكومة بنيامين نتنياهو، ومنذ بدء ولايتها في ربيع العام 2015، لسن قوانين، أو محاولات سن قوانين، من شأنها أن تحد من الأنظمة الديمقراطية، ومن صلاحيات جهاز القضاء، إلى جانب محاولات سن قوانين لتحمي نتنياهو شخصيا من تحقيقات الشرطة، وإبعاد قدر الامكان احتمال تقديمه للمحاكمة في قضايا فساد مشبوه بها.

وفي ما يلي مقاطع من الخطاب:

مكانة القضاء

على أساس التوجه الرسمي والقيمي أقيم جهاز قضاء مستقل، يهودي ليبرالي، ومثير للاعتزاز. وكل هذا تم في ظروف قاسية، في الأيام الأولى للدولة، وفي وقت كان فيه المجتمع الإسرائيلي منقسما، ولم يتبلور كشعب واحد. ومنذ ذلك الحين، عبرنا مسافة طويلة من الانجازات الكثيرة. ويبدو أننا في هذه الأيام في أوج عملية قد تؤدي لضرب هذه الانجازات، لأن هدفها إضعاف مؤسسات القانون.

والهدف الماثل أمام أعيننا هو إضعاف أجهزة التحقيق، والمساس بمكانة المستشار القانوني للحكومة، ومراقب الدولة، والمستشارين القضائيين في الوزارات؛ والأخطر من كل هذا، المساس بالمحكمة العليا كمصدر لفرض القانون على الجمهور ومؤسسات الحكم. وهذا التوجه يعني ضرب الجهاز الذي مهمته الدفاع عن شكل نظام الحكم الديمقراطي، وعن حقوق الإنسان، وابقاء القوة بين السلطات التنفيذية: الحكومة، والمؤسسة التشريعية: الكنيست، دون رقابة وتوجيهات قضائية. وهذا يتم تحت شعار مضلل، "استقرار الحكم"، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يتم نشر معلومات مضلِلة عن المحكمة العليا والقضاة، والمسار القضائي.

إن اقتراحات القوانين الجديدة، التي قسم منها يهدف إلى حل مشاكل شخصية وعينية، بدلا من الاهتمام بالمصلحة العامة للجمهور، من شأنها أن تمس في المدى الأبعد بمكافحة الفساد، وبضرورة عمل كافة مؤسسات الحكم، بموجب القانون.

ومن هذا مثلا، مشروع القانون الذي يمنع اجراء تحقيق مع رئيس الحكومة خلال ولايته، واقتراح منع الشرطة من نقل استنتاجاتها وتوصياتها للنيابة، ومشروع قانون آخر يضع حدا لاستقلالية المستشارين القانونيين في الوزارات، إذ بموجب الاقتراح سيتم اختيارهم على أيدي الوزراء، وهناك سلسلة اقتراحات تغيب وتظهر من جديد، تهدف لتقليص صلاحيات المحكمة العليا، ومنع التوجه إلى المحكمة، ومنع منظمات مدنية من الالتماس للمحكمة، والغاء الحق الواسع في المثول أمام المحكمة، وأيضا تغيير طريقة اختيار القضاة.

كذلك هناك مسودة قانون لقانون أساس: "التشريع"، وحتى الآن لم تتم صياغته لمشروع قانون ودفعه لمسار التشريع، وكما يظهر لدوافع حزبية. وأساس الخلاف حول هذا القانون هو مسألة غالبية أعضاء الكنيست، الذين بمقدورهم الغاء قرار محكمة عليا، في حال الغت قانونا أقره الكنيست، وابقاء القانون على حاله على الرغم من قرار المحكمة العليا. وهذا اقتراح يهدف إلى تفوق الهيئة التشريعية على الهيئة القضائية، وهو نمط قائم في كندا، ولكنه ليس مناسبا لإسرائيل.

ولا أساس للانتقاد القائل إن المحكمة العليا لا تحترم الهيئة التشريعية، وتمس بمكانة الكنيست. فالمحكمة تمارس صلاحياتها بموجب القوانين التي أقرها الكنيست. وفي كل الأنظمة الديمقراطية التي نعرفها، فإن للمحكمة العليا صلاحيات بالنظر في قوانين يقرها البرلمان، وهذا نمط مضمون في الكثير من دساتير الدول. وبنظرة معمقة لقرارات المحكمة العليا يتأكد أن المحكمة العليا لم تمس بمكانة الكنيست.

"يهودية الدولة"

اليوم ونحن في السنة السبعين للدولة، لم نصل إلى اجماع في مواضيع جوهرية حول كيان الدولة. فالخلافات السياسية مهما كانت صعبة هي شرعية، وتميّز المجتمع الإسرائيلي، ولكن الحديث هنا يجري عن مبادئ أساسية، من دونها لا نستطيع أن نكون مجتمعا واحدا. فلا حاجة للوصول إلى وحدة، لأن الوحدة هي مجرد شعار، ولكن من الضروري ضمان قاعدة أساسية مشتركة للمجتمع في إسرائيل، أيضا في ظل خلافات.

لا يوجد توافق حول ماهية هوية إسرائيل اليهودية والديمقراطية، لا بالمفهوم القضائي، ولا بالمفهوم القومي المجتمعي. فمنذ عدة سنوات، يحلّق في أجوائنا اقتراح قانون أساس: "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي". ومن حظنا الكبير أن مشروع القانون بصيغته الأصلية لم يتم اقراره، وهو ما يزال موضع خلاف، ولربما أن الوقت ليس متأخرا كي نأمل إعادة النظر في سن قانون كهذا.

لا حاجة حقيقية لما يعلنه المبادرون للقانون، بأن غايته هي تثبيت وتعزيز الرموز القومية اليهودية. فمكانة اللغة، والرموز، والعلم، والأعياد اليهودية، وقانون العودة، كلها مضمونة بالقانون. والقانون المقترح يطلب التعريف من جديد لهوية الدولة اليهودية وطابعها. وأساس الاقتراح، إذا لم يتم تغييره، هو جعل طابع الدولة الديمقراطي خاضعا أولا لطابع الدولة اليهودي، وهذا أمر خطير على طابع الدولة الديمقراطي.

لقد اقيمت إسرائيل بكونها البيت القومي للشعب اليهودي، وهذه كانت هويتنا القومية، التي ظهرت في وثيقة الاستقلال. والمحكمة العليا تعاملت مع هذا التعريف، حتى من دون دستور يضمن هذا التعريف. واحترمت المحكمة يهودية الدولة، بموجب وثيقة الاستقلال، وبهذا تم الاعتراف بيهودية الدولة بالمفهوم الصهيوني، الثقافي والقيمي، الذي كان أساس ولادة الدولة.

إن يهودية الدولة، وأيضا نظامها الديمقراطي، كانا نقطة ارتكاز في قرارات المحكمة العليا. والمؤيدون لمشروع قانون أساس: "الدولة القومية" يفسرون حاجتهم للقانون، بادعاء أنه في السنوات الأخيرة تفضل المحكمة العليا قيم الديمقراطية على الطابع اليهودي للدولة، إلى جانب ادعاءات أخرى. وهذا عرض يشوه قرارات المحكمة العليا.

ما هي الدولة اليهودية؟. إن الفرضية الأساس التي ارتكزت عليها وثيقة الاستقلال هي أن إسرائيل تأسست على أساس أنها الدولة القومية للشعب اليهودي. وبكونها دولة قومية، فإنها تحترم القيم الأساسية، اللغة والأعياد والرموز. ولكن ليست كل التيارات الممثلة بالسياسة الإسرائيلية تتقبل هذا وتكتفي به. وهذا خلاف قائم منذ ما قبل قيام الدولة، ولكن الحركة الصهيونية، ومؤسسي الدولة، حسموا مسألة الطابع اليهودي للدولة ورفضوا صيغة "دولة الشريعة".

وما تزال أسئلة كثيرة متعلقة بالالتزام بالقيم اليهودية للدولة. فبالمفهوم القضائي، منذ سن قانون أساس يضمن قيم دولة إسرائيل، كدولة يهودية وديمقراطية، ألقيت على المحكمة العليا مهمة تفسير قوانين، واضفاء طابع قضائي على صيغة تعريف الدولة.

ما هي الدولة الديمقراطية؟ حسب تعريف سياسيين كثيرين، ومؤثرين على الحكم لدينا، فإن القصد هو دولة تُحكم بالأغلبية. وهذا تفسير صحيح، ولكنه لا يكفي، ولا يحقق ذاته. هذا شرط ضروري لكنه ليس وحيدا. فالدولة الديمقراطية هي أيضا الدولة التي يتم فيها الحفاظ على القانون، إن كان في المجتمع أو في مؤسسات الحكم؛ دولة تحترم حقوق الإنسان، وبضمن ذلك حقوق الاقلية، دولة تعمل على الفصل بين السلطات، بموجب مبادئ الحكم.

ومن يراقب من الخارج ما يجري لدينا، سيؤمن بأن المشكلة الحقيقية والوحيدة لدينا هي سيطرة المحكمة العليا على كل الأجهزة، وأن المحكمة تخطف الحكم ليديها. كما أن المستشارين القانونيين يشوشون على حكم منتخبي الجمهور.

في الثقافة القضائية، والمجتمعية الإسرائيلية، يُنظر إلى المحكمة العليا كمؤسسة ذات قوة كبيرة جدا. وهذا على خلفية مهمة المحكمة في الرقابة القضائية على عمل سلطات الدولة، بما في ذلك رقابة على سن القوانين في الكنيست، وعلى أساس هذا نسمع كثيرا عن تدخل المحكمة العليا في الحكم، ونسمع أصداء جدل شعبي وسياسي، حول نشاط وعمل المحكمة. ولا أساس للادعاء بأن المحكمة تريد أن تأخذ ليديها صلاحيات من الحكومة والكنيست. هذا ادعاء يهدف إلى تقويض صلاحيات المحكمة واستقلالية القضاء. هذا ادعاء مضَلل ومضلِل، فالذراع القضائية هي الذراع الوحيدة من بين أذرع الحكم المحررة من المصالح الحزبية، وهذه مصالح لها شرعية وعينية في أذرع الحكم الأخرى.

إن رئيسي المحكمة العليا الأسبقين، مئير شمغار وأهارون باراك، عملا على توسيع امكانيات التوجه إلى المحكمة، حينما يكون الأمر متعلقا بخرق القانون. وتوسيع الحق في المثول أمام المحكمة سمح لمنظمات حقوق الإنسان بتقديم التماسات باسمها، وباسم مجموعات أقلية مستضعفة، التي أفراد منها لا يستطيعون ممارسة حقهم في التوجه إلى المحكمة العليا بشأن المس بهم. وعلى أساس هذا الحق تم التداول في المحكمة في قضايا والتماسات في غاية الأهمية.

إن التوجه لتقييد الحق في التوجه للمحكمة وبأن يكون توجه الفرد مباشرة للمحكمة، يشكل ضربة قاصمة لمنظمات حقوق الإنسان، ولعمل القطاع المدني الثالث أمام السلطة والقانون.

لا أساس لما يسمى "الثورة القانونية"

من الممكن الإشارة إلى عدة مواضيع يحاول الساسة مقارعة المحكمة بسببها. وما من شك في أن التعبير الأبرز الذي يلوح به سياسيون، وبشكل خاص وزيرة العدل أييليت شاكيد، هو تصفية "الثورة القانونية" التي بادر لها رئيس المحكمة الأسبق أهارون باراك، وهو تعبير للتغطية على هدف ضرب جهاز القضاء.

فالثورة التي يجري الحديث عنها ويريدون تصفيتها هي ثمرة سلسلة قوانين أساس أقرها الكنيست، وبضمنها ما يحصّن حقوق الإنسان. ففي هذه القوانين تم تحصين الحق بالحياة، وسلامة الجسد، واحترام الإنسان، وحقوقه كمستهلك، والحق بحريته، وخصوصيته، وجوانب أخرى في الإنسان وحياته.

وعلى أساس مصالح ومواقف لدى أطراف في الائتلاف الحاكم حاليا، فإن القوانين التي تضمن حقوق الإنسان، مثل قانون المساواة، لم يتم شملها في "قانون القومية"، ما يعني أنه لا توجد حقوق مؤكدة في النهج الجديد، بمعنى أنه بالإمكان ضرب حقوق الإنسان في ظروف معينة.

إن ضرب حقوق الإنسان بات أمرا منهجيا في مجالات معينة. فمثلا الاعتقال والسجن هما مساس بالحق في الحرية، ولكنه يتم وفق القانون، وهو أمر حيوي، في الحالات التي تستحق؛ لكن من الذي سيفحص إذا ما تم الاعتقال والسجن بموجب القانون، وبشكل لا يتعارض مع حقوق الإنسان، كما نصّ عليه قانون أساس احترام الإنسان الذي أقره الكنيست، إذا لم تكن المحكمة؟ إن هذه هي المهمة الطبيعية للمحكمة.

إن المحكمة ليست قادرة على كل شيء. ففي حين تلغي المحكمة قانونا، فإن الهيئة التشريعية قادرة على سن القانون من جديد، وفق القيود التشريعية. والذراع التنفيذية، الحكومة، هي التي تنتج القوانين، كما أن كل صلاحياتها مثبتة بقانون. وهذا التقاسم الوظيفي يجب الحفاظ عليه، من أجل الحفاظ على مبنى سلطوي يضمن الرقابة القضائية على نهج النظام الديمقراطي.

وخلافا لما يقال في الآونة الأخيرة، فإن مبادئ الديمقراطية لا تأتي على حساب الطابع اليهودي للدولة. ومن المهم أن نتوصل إلى توافق بشأن الطابع اليهودي، بموجب القيم القومية التي وضعها مقيمو الدولة بروح الصهيونية وقيم المجتمع الذي نشأ في إسرائيل.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات