المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أكدت النتائج التي توصل إليها بحثان جديدان حول اليهود في الولايات المتحدة الأميركية حقيقتين أساسيتين "ينبغي الانتباه إليهما جيدا"، كما يشير شموئيل روزنر، الباحث في "معهد سياسات الشعب اليهودي" والمحرر السياسي في "جويش جورنال"، وذلك في تقرير خاص حول أوضاع اليهود الأميركان نشره في صحيفة "معاريف" الإسرائيلية أمس الأول الأحد تحت عنوان "إصلاحيون أقل، محافظون أكثر: المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية يتغير". الحقيقة الأولى ـ أن تغيرات جوهرية تطرأ على هذه المجموعة السكانية باستمرار وبوتيرة مرتفعة "قد تكون أسرع بكثير مما كنا نتوقع"، كما يلاحظ روزنر. أما الحقيقة الثانية فهي أن اليهود الأميركان لم يكونوا معرضين من قبل قط لما يتعرضون له اليوم من مظاهر اللاسامية في الولايات المتحدة ولم يشعروا من قبل قط بمثل ما يشعرون به اليوم من قلق شديد حيال اتساع هذه المظاهر.


يستهل روزنر تقريره بالإشارة إلى بحثين جديدين أجريا حول اليهود الأميركان مؤخرا ـ الأول تناول المجتمع اليهودي الأميركي من ناحية عددية، بينما تناوله الثاني من ناحية المواقف والآراء. وكان الأول جزءا (بسيطا) من بحث أوسع أجرته مؤسسة ليس لها شأن خاص باليهود تحديدا، بينما كان الثاني البحث السنوي الثابت الذي تجريه "اللجنة اليهودية الأميركية" حول مواقف اليهود الأميركان وآرائهم في قضايا عديدة ومختلفة. ("اللجنة اليهودية الأميركية" هي منظمة يهودية أميركية أنشأتها في نيويورك في العام 1906 مجموعة من اليهود الأميركان من أصل ألماني بغية حماية حقوق اليهود في الدول الأخرى ـ خارج الولايات المتحدة ـ وهي مكونة من بضع عشرات من الأعضاء المنحدرين من النخب اليهودية، الاجتماعية والاقتصادية، الأميركية).

فوارق جوهرية تعكس تغيرات عميقة

أظهرت نتائج البحث الذي أجراه معهد الأبحاث PPRI، المتخصص في شؤون الدين، الثقافة والسياسات العامة في الولايات المتحدة، أن 3ر2% من مجمل المواطنين الأميركيين يعرّفون أنفسهم بأنهم "يهود". وهذه نسبة مماثلة لتلك (2ر2%) التي أظهرها بحث شامل آخر أجراه معهد PEW قبل أربع سنوات. ولكن، رغم تقارب النسبتين إلى حد كبير جدا، إلا أن ثمة فارقا جوهريا هو: النسبة العامة لليهود للأميركان متماثلة، تقريبا، لكن التركيبة السكانية ـ الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ الثقافية ـ الدينية مختلفة. أي أن التقسيم الداخلي لليهود الأميركان حسب قطاعات ومجموعات مختلف تماما، وهو ما قد يعكس ـ حسب روزنر ـ حقيقة التغيرات التي تطرأ على هذه المجموعة السكانية بوتائر سريعة جدا.

ومن بين الفوارق اللافتة التي يشير إليها روزنر ارتباطاً بالتركيبة السكانية ـ الاجتماعية، ثمة "فارقان اثنان مركزيان يستحقان الإمعان"، كما يقول: الأول ـ تقسيم اليهود إلى "يهود حسب الدين" و"يهود ليس حسب الدين". والثاني ـ تقسيم اليهود حسب التيارات المختلفة: يهودية إصلاحية، يهودية محافِظة، يهودية تقليدية، و"مجرد يهود" (لا ينتمون إلى أي تيار).

يدل الفارق الأول على أن من بين جميع اليهود الأميركان، ثمة نسبة آخذة في الازدياد باستمرار من الـ "يهود ليس حسب الدين". وبينما كان هؤلاء يشكلون قبل أربع سنوات، حسب البحث الذي أجراه معهد PEW، نحو رُبع العدد الإجمالي لليهود الأميركان، أصبحوا يشكلون الآن ـ حسب بحث معهد PPRI، نحو ثُلث مجمل اليهود الأميركان. وهو ما يشكل تغييرا عميقا وجوهريا بالغ الأهمية. بل وأكثر من هذا، أيضا، أن نسبة الشباب اليهود الذين يعرفون أنفسهم بأنهم "يهود ليس حسب الدين" زادت عن النصف ـ 53%.

قد لا يرى كثيرون الأهمية البالغة التي تنطوي عليها مثل هذه المعطيات وتعكسها، وهو ما يدفع روزنر إلى محاولة توضيح هذه الأهمية. لكن، من أجل الإجابة عن سؤال الأهمية وتوضيحها، "ينبغي الخوض في عدد من التوضيحات ذات الطابع التقني"، كما يقول، موضحاً أنه "ينبغي أن نفهم كيف يتم الاهتداء إلى اليهود والعثور عليهم في أميركا". فهم غير مسجلين كذلك في أي بنك معلومات رسمي، حكومي أو بلدي، وهم لا يبرزون بصفتهم هذه غالبا، كما أنهم لا يختلفون في مظهرهم الخارجي وملامح وجوههم عن الأميركيين غير اليهود. وعليه، "لكي نعرف اليهودي ونتعرف عليه، يجب أن نسأل". لكن طبيعة السؤال تحدد، في غالب الأحيان، طبيعة الجواب.

فاليهودية في الولايات المتحدة هي ديانة، بالدرجة الأولى وشبه الحصريةـ مثل المسيحية، الإسلام، البوذية، أو سواها. ولهذا، فإن السؤال التقليدي المتبع لكشف ما إذا كان الشخص يهوديا أم لا هو: "ما هي ديانتك؟". من يجيب على هذا السؤال بالقول: "أنا يهودي"، فهو "يهودي حسب الدين".

لكن دراسات عديدة أجريت في السنوات الأخيرة كشفت أن ثمة مجموعة أخرى من اليهود غير "اليهود حسب الدين"، وهي مجموعة تزداد عدديا ونوعيا باستمرار بين مجمل اليهود الأميركيين ـ مجموعة الـ "يهود ليس حسب الدين". هنا ينبغي التحذير من الخلط بين هذه المجموعة من جهة، وبين مجموعة أخرى هي "العلمانيون في إسرائيل" من جهة أخرى، إذ ثمة فرق كبير وجوهري بين هاتين المجموعتين. "اليهودي ليس حسب الدين" يجيب على سؤال "ما هي ديانتك؟" بالقول: "لا ديانة لي" أو "علماني". وحين يُطرح عليه سؤال آخر إضافي، تكميلي، من قبيل "هل تعتبر نفسك يهوديا لأي سبب؟"، يكون جوابه أحد التاليين: "نعم" أو "جزئيا". هؤلاء هم "اليهود ليس حسب الدين".

نوعان من اليهود مختلفان تماماً

هنا، يعاد طرح السؤال مرة أخرى: ما هي أهمية هذا؟ والجواب: تكمن الأهمية (البالغة) في حقيقة أن "اليهود حسب الدين" و"اليهود ليس حسب الدين" ليسوا متشابهين على الإطلاق، بل ثمة اختلافات جوهرية وعميقة بينهم لدرجة أنهم يشكلون "نوعين من اليهود"، كما يقول روزنر. فاليهود حسب الدين يميلون، عادة وغالبا، إلى الزواج من يهود، إلى المحافظة على علاقة قوية ووثيقة مع إسرائيل، إلى الانخراط في عضوية وقيادة مؤسسات يهودية جماهيرية، إلى التأكيد على حرصهم على أن يكون أولادهم يهودا أيضا وأن يصونوا "هويتهم" هذه، إلى الاحتفال بالأعياد اليهودية وإحياء المناسبات الدينية المختلفة. وفي الإجمال، يمكن القول إن "اليهود حسب الدين" يعيشون ويتصرفون بكل ما يؤكد حقيقة أنهم يهود.

في المقابل، لا يفعل "اليهود ليس حسب الدين" إلا القليل القليل جدا مما ذكر، بل إن الجزء الأكبر منهم لا يفعل أي شيء مما ذكر، مطلقا. هؤلاء يعتبرون أنفسهم "بطريقة ما"، لا يخجلون بها ولا يُخفونها، لكنها في المقابل ليس ذات أهمية خاصة بالنسبة لهم، إنها "حقيقة قائمة وليس مكوّنا ذا أهمية من مكونات هويتهم". ولهذا، فهم ليسوا جزءا من المجتمعات اليهودية المختلفة في المدن الأميركية المختلفة، ليسوا أعضاء في أي من مؤسساتها، لا علاقة تربطهم بدولة إسرائيل، لا يبحثون عن شريك/ة حياة يهودي/ة ولا يحرصون على تربية أولادهم "تربية يهودية".

بالبناء على هذا التوضيح للفوارق الجوهرية العميقة بين هذين "النوعين" من اليهود، تبرز أهمية الزيادة المتواصلة في عدد "اليهود ليس حسب الدين" ونسبتهم المئوية من بين مجمل اليهود الأميركان. وهذا، إضافة إلى ما أظهره البحث الأخير بشأن التغيرات المتسارعة بوتيرة مرتفعة جدا ("مذهلة"، بتعبير روزنر) في التقسيم الداخلي لليهود حسب التيارات المختلفة. وهو ما يثبت، في المحصلة، أن "اليهود الأميركان يتغيرون بصورة واضحة: إصلاحيون أقل، محافظون أقل وأقل، "مجرد يهود" أكثر وتقليديون أكثر وأكثر".

وما يلفت الانتباه بصورة حادة، بل "يشكل مفاجأة"، كما يقول روزنر، "ليس منحى التغيير ووجهته، بل وتيرته المذهلة". ففي البحث الذي أجراه معهد PEW قبل أربع سنوات، تبين أن 35% من اليهود الأميركان كانوا إصلاحيين ـ أي، أكثر من الثُلث. أما في البحث الجديد، فقد تبين أن نسبتهم هذه انخفضت إلى 28%، أي أكثر من الرُبع بقليل. وبينما أظهر البحث الماضي، قبل أربع سنوات، أن الإصلاحيين كانوا يشكلون 18% من مجمل اليهود الأميركيين، أظهر البحث الجديد أن نسبتهم انخفضت إلى 14% فقط، وهو ما يعني "ضربة قاسية جدا للتيار (الإصلاحي) الذي كان يشكل التيار الأكبر والأقوى من بين جميع التيارات اليهودية حتى قبل بضعة عقود مضت".

في المقابل، يظهر ازدياد حاد جدا في عدد ونسبة الذين يعرفون بأنهم "مجرد يهود"، أي الذين لا يتماثلون مع أي من التيارات اليهودية المعروفة والناشطة. وهم اليهود الذين يبدون درجة متدنية جدا من الالتزام حيال اليهودية والشعب اليهودي. كما يظهر ازدياد في عدد اليهود التقليديين الذين "رغم عدم انعكاس هذا الازدياد في عددهم الإجمالي بين مجمل اليهود الأميركيين، إلا أن النظر إلى التقسيم حسب الأجيال يثبت أن التغيير يحصل بينهم بقوة كبيرة ووتيرة مرتفعة".

بينت نتائج البحث أن اليهود التقليديين يشكلون 3% فقط من بين اليهود المسنين في الولايات المتحدة، بينما يشكلون 15% من اليهود الأميركيين في سن 18 – 29 عاما. أما اليهود المحافظون فيشكلون 8% من اليهود الأميركيين، مقابل 20% للإصلاحيين.

تعكس هذه النتائج، برأي روزنر، "لعبة أطراف" في جوهرها: ازدياد التقليديين في المعسكر المحافظ ـ اليميني، مقابل ازدياد الـ "مجرد يهود" و"اليهود ليس حسب الدين" في المعسكر الليبرالي ـ اليساري. وبين هذين المعسكرين، تتراجع نسبة وقوة "يهود الوسط" الذين كانوا يشكلون "أساس يهود أميركا خلال الـ 100 سنة الماضية".

العلاقة مع إسرائيل والقلق من اللاسامية

لم يطرأ تغيير ملحوظ في مسألة "العلاقة مع إسرائيل" بين اليهود الأميركيين إجمالا، كما بينت الدراستان الجديدتان: نحو نصف اليهود الأميركيين البالغين زاورا إسرائيل، مرة واحدة على الأقل، وهو ما يعكس ارتفاعا كبيرا عما كان قبل 20 ـ 30 سنة. نحو نصف اليهود الأميركيين "موافقون"، ونحو الرُبع منهم "موافقون تماما"، على أن "الاهتمام بإسرائيل والحرص عليها هما جزء هام من كوني يهوديا". غير أن اهتمام اليهود الأميركان الأساسي منصب الآن على الحلبة الداخلية، وليس على إسرائيل.

نحو 41% من اليهود الأميركيين يعتقدون بأن اللاسامية تشكل "مشكلة خطيرة جدا" في الولايات المتحدة اليوم، وهو ما يعكس ارتفاعا كبيرا وحادا جدا عما كان قبل بضع سنوات. فقبل ثلاث سنوات فقط، في نهاية ولاية الرئيس باراك أوباما، لم يعبر سوى 14% فقط من اليهود الأميركيين عن قلق أيا كان من اللاسامية، بينما تعكس نتائج البحث الجديد قفزة إلى رقم قياسي لم يسجل منذ ثلاثين عاما.

"مطلوب: إصلاح العلاقات بين إسرائيل ويهود أميركا"

في السياق ذاته، وبالتزامن مع نتائج الأبحاث الجديدة هذه، نشرت ياعيل باتير، مديرة فرع "جي ستريت" في إسرائيل، مقالا (موقع واي نت ـ 18/9) طالبت فيه بـ"إصلاح العلاقات ما بين إسرائيل واليهود الأميركيين"، لأن الأخيرين "لم يعودوا مستعدين لأن يكونوا مطواعين لنتنياهو. إنهم يتحملون المسؤولية، يريدون أن يكونوا شركاء، أن يساهموا في إحداث التغيير وأن يتم الإصغاء إليهم، بدلا من التآمر على مجرد شرعية آرائهم ومواقفهم".

يشار هنا إلى أن "جي ستريت" هي منظمة أميركية مكونة من يهود أميركيين أقيمت في العام 2008 بمبادرة من جيرمي بن عامي للعمل "من أجل حل الصراع الإسرائيلي ـ العربي بطرق سلمية ، من خلال إحداث تغيير في الموقف الأميركي حيال الشرق الأوسط وتعزيز المواقف المؤيدة لإسرائيل وللسلام، مع دعم دولة إسرائيل وحقها في الأمن، مقابل حق الفلسطينيين في دولة مستقلة".

تقول ياعيل باتير إنه "يبدو، خلال الأشهر الأخيرة، أن حكومة إسرائيل قد اختارت، عن وعي تام، الشراكة مع قوى اليمين المتطرف والأقلية الجمهورية في الولايات المتحدة، مفضلة إياها على الشراكة مع يهود الولايات المتحدة. وبهذا، تقود حكومة إسرائيل خطوة انغلاقية تقوم في جوهرها على اعتبار كل من لا يقول لسياستها الراهنة سمعاً وطاعة بمثابة عدو، مما يجعل الجمهور اليهودي في الولايات المتحدة، الذي تتعزز فيه المواقف النقدية حيال السياسة الإسرائيلية الحالية، هدفا للهجوم المباشر".

وتشير باتير إلى أن "الأيام التي اعتُبر فيها تأييد إسرائيل صنواً للدعم الأعمى وغير المشروط لأية سياسة تعتمدها حكومة إسرائيل قد ولت إلى غير رجعة"، معتبرة أن غياب التنديد الرسمي المحلي (من حكومة إسرائيل) للرسم الكاريكاتوري اللاسامي الذي نشره يائير نتنياهو، النجل البكر لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنامين نتنياهو مؤخرا وأثار ضجة محلية ودولية واسعة، "يشكل علامة واضحة على الصدع العميق والآخذ في الاتساع والتعمق بين حكومة إسرائيل ويهود أميركا"، بل إن "الصمت الذي برز حيال هذا الرسم اللاسامي يشكل صفعة مدوية لكل اليهود الأميركان الذين يرون كيف يعود النازيون الجدد ويرفعون رؤوسهم من جديد".

وطالبت باتير بإصلاح العلاقة بين إسرائيل واليهود الأميركيين على قاعدة أن "تأييد إسرائيل لا يعني الدعم التلقائي لحكومة إسرائيل وسياساتها وإنما يعني الدعم لدولة إسرائيل ولإسرائيليين"، وإلا ـ إن لم يحصل هذا الإصلاح ـ فستتعمق الفجوة بين الطرفين و"قد تفقد حكومة إسرائيل قاعدة دعم كبيرة ومتينة وهامة بين يهود الولايات المتحدة".

 

المصطلحات المستخدمة:

اللاسامية, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات