المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

علامات الغضب التي كانت بادية على وجه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عند صدور قرار مجلس الأمن الدولي 2334، الذي يقضي بعدم شرعية الاستيطان، لم تكن مصطنعة، لغرض الظهور الإعلامي المسرحي الذي يجيده، بل هذا غضب حقيقي، نابع من ضرب عنجهيته السياسية أساسا. لكن إلى جانب هذا، فإن نتنياهو تملكه القلق من احتمال تحميله مسؤولية صدور القرار، كونه يأتي بعد مصادقته على قانون نهب الاراضي الفلسطينية، الذي أراده أكثر من أي جهة استيطانية أخرى، حتى وإن حاول تأجيل التصويت عليه.

ويصر الكثير من المحللين الإسرائيليين، ومعهم أيضا ساسة من أحزاب المعارضة، على أن نتنياهو يخضع لـ"ابتزازات المستوطنين"، وأن هدفه هو ثبات حكومته. وهذا اتهام ليس واقعيا، إذ يمكن تفسير هذا التحليل بأن أجندة نتنياهو أقل تطرفا ومغامرة من غيره في معسكر اليمين، إلا أن حقائق تاريخ مسيرة نتنياهو السياسية منذ ما يقارب ثلاثة عقود، تثبت أن سياسة الحكومة الحالية نابعة من توجهات نتنياهو شخصيا وفريقه السياسي، وكنا في ما مضى قد استعرضنا محطات في مسيرة نتنياهو السياسية، ومن المفيد التذكير بها حاليا.

"قانون التسوية"

الجولة الأخيرة من الجدل حول الاستيطان كان في مركزها ما يسمى "قانون التسوية"، القاضي بنهب كلي لجميع الأراضي الفلسطينية بملكية خاصة في الضفة المحتلة، التي أقامت عليها عصابات المستوطنين بؤرا استيطانية على مر السنين، لغرض تثبيت هذه البؤر. ولا يمكن لأحد أن يدعي أن هذا القانون ظهر فجأة، بل هو الأداة الفعلية لتطبيق بند اتفاق الائتلاف بين حزب "الليكود" وكتلة تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي".

وينص البند 84 في الاتفاقية بين هذين الحزبين، على اقامة طاقم "مهني" يعمل على تثبيت كافة المباني والأحياء الاستيطانية التي أقيمت في الضفة، بقصد البؤر الاستيطانية التي اقامتها عصابات المستوطنين، وعمليا تحويلها إلى مستوطنات ثابتة. وبعد أقل من ثلاثة أشهر بدأت الحكومة في ترتيب أمور هذه البؤر الاستيطانية. نذكر من بينها أنه في شهر تموز من العام 2015 قبل الماضي، أي بعد شهرين من اقامة الحكومة الحالية، قررت الحكومة شطب ديون على مجالس المستوطنات، تعادل 146 مليون دولار. وتبين في التفصيل أن غالبية هذه الديون نابعة من تمويل اقامة وتسيير حياة البؤر الاستيطانية، مثل مدها بالبنى التحتية وما إلى ذلك.

وفي الشهر التالي، آب 2015، أقرت الحكومة ميزانية بقيمة 90 مليون دولار، في غالبيتها الساحقة لغرض شق شوارع جديدة للمستوطنات، وكان واضحا أن الحديث يجري عن شق شوارع نحو عشرات البؤر الاستيطانية، التي ما تزال الشوارع نحوها غير منظمة كليا.

أما "مشروع قانون التسوية"، الهادف إلى الاستيلاء كليا على الأراضي الفلسطينية بملكية خاصة وتمليكها للمستوطنين الذين استولوا عليها، فقد جاءت المبادرة الأولى له من عضو الكنيست يوآف كيش، من حزب "الليكود"، الذي بات لاحقا رئيس للجنة الكنيست. وفقط بعد بضعة اشهر بدأت تظهر مبادرات من كتلة "البيت اليهودي". وهذا يعني أن الاهتمام بتثبيت البؤر الاستيطانية لم يكن حكرا على "البيت اليهودي" صاحب القوة الأكبر في مستوطنات قلب الضفة، بمعنى المستوطنات الأيديولوجية، بل أيضا يشمل "الليكود".

ولم يبد نتنياهو أي اعتراض منذ أن بدأ مشروع القانون يطفو على السطح، سوى أنه بعد أن عرض المستشار القانوني للحكومة أفيحاي مندلبليت موقفه المعارض للقانون، نظرا لتعارضه مع القوانين الدولية، وأيضا قوانين إسرائيلية، وحتى قرارات محاكم إسرائيلية، طلب نتنياهو تأجيل عرض القانون. ونقل خلال المداولات ما يقوله المستشار القانوني من أن هذا القانون قد يجر إسرائيل نحو المحكمة الجنائية الدولية.

لكن نتنياهو لم يلق بثقله لمنع التصويت، بل على العكس اصدر تعليماته لتجنيد الائتلاف كاملا، وألغى زيارات الوزراء والنواب إلى الخارج، لضمان الأغلبية لهذا القانون لدى التصويت عليه في الهيئة العامة للكنيست في القراءة التمهيدية، ولاحقا في القراءة الأولى. كما اهتم نتنياهو بتواصل مباشر مع مستوطني البؤر الاستيطانية، وخاصة بؤرة "عمونة" في منطقة رام الله، التي من المفروض اخلاؤها حتى النصف الأول من شهر شباط المقبل، بموجب مصادقة المحكمة العليا على طلب لتأجيل الاخلاء تقدمت به الحكومة.

أكثر من هذا، فإن نتنياهو هو من صادق على وضع مخطط نقل بؤرة "عمونة" إلى أراضي مهجّرين فلسطينيين، قريبة جدا من الأراضي بملكية خاصة لفلسطينيين في الضفة، استولت عليها عصابة "عمونة". وهذا نهج يأتي في سياق نهج نتنياهو بشأن الاستيطان، ورفضه الفعلي على الارض لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة.

وحتى الآن ليس واضحا، ما إذا ستواصل الحكومة تشريع "قانون التسوية".

ونحن أمام ادعاءين: الأول صرّح به الوزير تساحي هنغبي من حزب "الليكود" قائلا إن عملية تشريع القانون ستتوقف لغرض ايجاد حلول بديلة لتثبيت هذا القانون، الذي ستكون له انعكاسات أخطر من تثبيت البؤر من ناحية المستوطنين وأيضا من حيث تفسيرات المستشار القانوني للحكومة، وهي ضم الضفة إلى ما يسمى "السيادة الإسرائيلية".

أما الادعاء الثاني، الذي تتمسك به كتلة "البيت اليهودي"، وأعضاء كنيست من كتلة "الليكود"، فهو أن عملية التشريع ستتواصل، وسيتم طرح القانون للتصويت عليه بالقراءة النهائية قريبا.

وكلا الاحتمالين واردان، لكن لكل واحد منهما ستكون اشكالية. ففي حال توقفت عملية تشريع القانون، فإن هذا سيكون موضوع خلاف مع كتلة "البيت اليهودي" التي رغم مشاركة كتلة "الليكود" في هذا القانون، إلا أنها ستسجله لصالحها امام المستوطنين.

أما في حال تواصلت عملية التشريع، فإن هذا قد يؤدي إلى خلاف مع كتلة "كولانو" بزعامة وزير المالية موشيه كحلون، الذي كان قد ادعى في وقت سابق أنه حصل على وعد من نتنياهو بعدم استكمال تشريع القانون. ولكن اعتمادا على تجارب العامين الأخيرين، لا يمكن توقع أن يقود كحلون أزمة قد تجعله يغادر الحكومة، خاصة وأنه في صلب المعسكر اليميني المتشدد، وأعضاء كتلة حزبه مشاركون بكل قوة في طرح القوانين العنصرية والمناهضة لانهاء الاحتلال، ومن أكثر كتل الائتلاف الحاضرة في عمليات التصويت على هذه القوانين.

نهج نتنياهو وحساباته

ظهر نتنياهو على الحلبة السياسية الإسرائيلية أول مرة موظفا مسؤولا في البعثة الإسرائيلية في الأمم المتحدة، ولاحقا نائبا لوزير الخارجية في النصف الثاني من حكومة إسحاق شامير (1990- 1992)، ثم رئيسا لحزب الليكود، ابتداء من العام 1993 ولاحقا رئيسا للحكومة بين 1996 و1999. وبعد عودته إلى السياسة، ظهر وزيرا للمالية في حكومة أريئيل شارون الثانية 2003- 2005. ثم رئيسا مرّة أخرى لحزبه. وابتداء من العام 2009 وحتى اليوم كان رئيسا لثلاث حكومات متعاقبة. وطوال هذه المدة لم يشذ نتنياهو يوما عن الخط اليميني الأشد تطرفا في السياسة الإسرائيلية، وكل نهجه يصب في صالح "أرض إسرائيل الكاملة".

كذلك، فإن نتنياهو قاد عملية تغيير طابع حزب "الليكود" من حزب ايديولوجي يميني، وفق نظرية وضعها زئيف جابوتينسكي، وقام عليها حزب "حيروت" الذي اسس "الليكود" في العام 1974، إلى حزب يسيطر عليه شخص نتنياهو، مستندا إلى مجموعات استيطانية منفلتة تغلغلت في هيئات الحزب تدريجيا، حتى باتت القوة المركزية. وبموازاة ذلك تهميش كل التيار الأيديولوجي، القديم، ومكملي طريقه، الذي فلت منه حتى الآن بنيامين بيغن، والذي رغم مواقفه المتشددة وتمسكه بمبدأ "ارض إسرائيل الكاملة"، إلا أنه تحدى وصّوت ضد "قانون التسوية".

ويشعر نتنياهو أنه في مركز قوة، ولا منافس له في حزبه وفي معسكر اليمين، وهو على يقين أن ليس له منافس حقيقي يهدد مكانته في صفوف المعارضة، التي تؤكد يوما بعد يوم أنها تنافس اليمين على مواقفه، ولا تطرح البديل. وهذا تأكد من رد فعل رئيس حزب "العمل" إسحاق هيرتسوغ، ورئيس حزب "يوجد مستقبل" يائير لبيد، اللذين هاجما بشدة مجلس الأمن والقرار الصادر عنه، بينما كان تحميلهما لنتنياهو مسؤولية ما جرى بعبارات خجولة، غرقت في عبارات الانتقاد لمجلس الأمن.

ورغم ذلك، إلى جانب الغضب الذي تملك نتنياهو من مجرد صدور القرار، تملكه القلق من احتمال أن يواجه حملة شديدة تحمله مسؤولية ما جرى في مجلس الأمن، وأن إدارة باراك أوباما ردت على عربدته ضدها على مدى سنين، وأن يرى الشارع الإسرائيلي ما جرى نسفا لكل ادعاءاته بأن مكانة إسرائيل في تقدم مستمر في الحلبة الدولية، وأن موازين القوى تعمل لصالح إسرائيل. وهذا ما سعى نتنياهو بشكل دائم إلى اظهاره، خاصة على صعيد العلاقات بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إلا أن هذا القلق زال في غضون يومين وثلاثة، على ضوء ضعف خطاب المعارضة الصهيونية، الذي تمسك بالدفاع عن إسرائيل في مواجهة الخارج.

في المقابل، فإن نتنياهو صعّد خطاب القوّة في الأيام التي تلت صدور القرار، وكان هذا بهدف مزدوج: الظهور على الحلبة الدولية كشخص قوي في "إسرائيل القوية"، مستفيدا من توجهات الإدارة الأميركية المقبلة بزعامة دونالد ترامب. وثانيا، الظهور بقوة استثنائية أمام معسكر اليمين المتشدد، الذي في صدارته المستوطنون. وبالإمكان القول إن نتنياهو يستثمر قرار مجلس الأمن ليعزز مكانته أكثر في المستوطنات، الجمهور الأكثر والأشد حراكا في معسكر اليمين المتشدد ككل.

وكنا في تقارير سابقة أشرنا إلى أن نتنياهو وضع هدفا بتوسيع نفوذ حزبه في المستوطنات، بما فيها الأيديولوجية، في اطار السعي إلى الحفاظ على الكتلة الأكبر بعد أي انتخابات، وثانيا لأنه يعي حقيقة أن المستوطنين هم الصوت الأعلى، والأكثر تأثيرا في معسكر اليمين، وتزايد الدعم له بين المستوطنين ينعكس مباشرة على قطاعات اليمين الأخرى في إسرائيل.

ونذكر أن انتخابات 2015 كانت بمثابة انذار "خطر" من حزب "الليكود" على تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي" الذي سجل تراجعا في كمية أصواته في المستوطنات من دون القدس، بنسبة وصلت إلى 5ر3%، بينما حزب "الليكود" ارتفعت أصواته في هذه المنطقة بنسبة زادت عن 24%. وبالنسبة للبيت اليهودي فإن الخسارة أكبر بكثير، لأن نسبة الأصوات ارتفعت في تلك المنطقة بين انتخابات 2013 و2015 بما يزيد عن 8% (الزيادة في سجل إجمالي ذوي حق الاقتراع أقل من 4%)، نظرا للتكاثر الحاد بين المستوطنين. وعدا هذا من المفترض أن تكون المستوطنات قاعدة التمدد الأكبر للبيت اليهودي. ونتنياهو معني بتثبيت هذا الانجاز الانتخابي مستقبلا، خاصة وأن استطلاعات الرأي تشير إلى احتمال حدوث تراجع عام لقوة حزب "الليكود"، مقابل استرجاع تحالف "البيت اليهودي" القوة التي خسرها في انتخابات 2015، ليعود بقوة 12 مقعدا بدلا من 8 مقاعد اليوم، ما يشكل ضغطا حزبيا أكبر على نتنياهو وحزبه.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات