المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تبين المعطيات الرسمية لدى الجيش الإسرائيلي أن الجهات المختصة في هذا الجيش أجرت، خلال العام قبل الأخير، 2015، تحقيقات عسكرية (جنائية) في 186 حالة اعتداء تورط فيها جنود وضباط الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، سواء ضد مواطنين فلسطينيين أو ضد ممتلكاتهم. وتضيف المعطيات الرسمية ذاتها أن 120 حالة من هذه التحقيقات/ الاعتداءات انتهت بإغلاق الملفات نهائيا، فيما انتهت 7 حالات فقط باتخاذ "إجراءات تأديبية" ضد الجنود والضباط المتورطين! ولم تُقدَّم سوى 15 لائحة اتّهام بخصوص الاعتداء على فلسطينيين، تتعلّق أربعة منها فقط بحوادث وقعت خلال عام 2015.

وتؤكد منظمة "يش دين" ("يوجد قانون") الإسرائيلية أن هذه المعطيات، التي ضمنتها المنظمة في "ورقة معطيات تلخيصية" نشرتها في مطلع العام الجديد، تثبت أن الجيش الإسرائيلي "لا ينفذ سياسته المعلنة" بشأن ضرورة إجراء التحقيق في جميع الحالات التي تسفر عن وفاة مدنيين فلسطينيين في مناطق الضفة الغربية، باستثناء الحوادث ذات "الصفة القتالية الفعلية".

وتزامن نشر "ورقة المعطيات التلخيصية للعام 2015" هذه مع صدور قرار المحكمة العسكرية بإدانة الجندي إليئور أزاريا بقتل الشهيد عبد الفتاح الشريف في مدينة الخليل في آذار 2016، لتثبت أن هذا الجندي كان الوحيد الذي قدمت ضده لائحة اتهام جنائية من بين 20 حالة جرى فيها إطلاق الرصاص الحي على فلسطينيين منذ اندلاع ما سمّي بـ "انتفاضة السكاكين" في شهر تشرين الأول 2015 وخلال العام 2016. وهو ما يؤكد أن لائحة الاتهام هذه لم تأت إلا لكون هذه "الحادثة" هي الوحيدة التي تم توثيقها بالصوت والصورة!

وتشير "ورقة المعطيات" إلى معطيات جمعتها منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية تفيد بأن 99 فلسطينيا قتلوا في الضفة الغربية برصاص قوات الأمن الإسرائيلية خلال العام 2015 (23 منهم قتلوا برصاص جنود "حرس الحدود" و 76 برصاص جنود الجيش الإسرائيلي)، إضافة إلى 17 فلسطينيا آخرين قتلوا في مدينة القدس الشرقية، غير أن التحقيق لم يجر سوى في 21 حالة فقط.

وفي الإجمال، لم تتجاوز نسبة تقديم لوائح الاتهام في العام 2015 على خلفية اعتداءات الجنود على الفلسطينيين وممتلكاتهم سوى 3ر1% فقط من مجمل الملفات التي "انتهت معالجتها"، وهي نسبة متدنية جدا "تعكس فشلا عميقا ومتواصلا في استكمال التحقيقات واعتمادها لإعداد وتقديم لوائح اتهام" كما تعكس، أيضا، "وجود حصانة، مطلقة تقريبا، يحظى بها جنود الجيش الإسرائيلي من مغبة المثول أمام المحاكم". وتنوه منظمة "يش دين" إلى أنه "يمكن الافتراض بأن هذه النسبة قد تراجعت وهي أقل من ذلك (أقل من 3ر1%) اليوم، نظرا لأن ملفات عديدة أخرى جرى إغلاقها منذ حصولنا على هذه المعطيات"!

إطلاق النار بقصد القتل ـ ردة فعل مشروعة!

توضح "ورقة المعطيات" أن عدداً كبيراً من حالات قتل الفلسطينيين في العام 2015 وقع على خلفية موجة العنف التي اندلعت في الضفة الغربية خلال العام نفسه.

وتعتبر منظمة "يش دين" أن حقيقة عدم إجراء أي تحقيق جنائي في جرائم قتل 55 فلسطينيا "تضع علامة سؤال كبيرة حول تطبيق سياسة التحقيقات في حالات القتل، والتي أعلنت إسرائيل التزامها بها"، ما يعني أن "النيابة العسكرية تعتبر إطلاق النار بقصد القتل ردة فعل مشروعة على مثل هذه الحوادث" وأنها "لا تميز إطلاقا، تقريبا، بين أحداث خرق النظام (حتى لو كانت خطيرة) وبين العمليات القتالية".

بالإضافة إلى ذلك، تبين أن ملفات التحقيق في 101 حالة قتل، تشكل 54% من مجموع التحقيقات التي أجريت، قد تم فتحها في أعقاب أحداث عنف تورط فيها جنود إسرائيليون وأسفرت عن إصابة فلسطينيين بجروح مختلفة. 49 من هذه الملفات (تشكل 26% من مجموع ملفات التحقيق التي فتحتها شرطة التحقيقات العسكرية في العام 2015) تمحورت حول مخالفات ارتكبها الجنود بالاعتداء على ممتلكات فلسطينية، سواء بالتخريب أو بالسرقة، كان 42 منها في الضفة الغربية و7 في قطاع غزة. وتؤكد "ورقة المعطيات" أن هذا الرقم "مرتفع، نسبيا، بالمقارنة مع حوادث السرقة والاعتداء على الممتلكات التي تورط فيها الجنود خلال السنوات الأخيرة".

في العام 2015، تلقت شرطة التحقيقات العسكرية سبعة بلاغات فقط من قِبَل وحدات عسكرية مختلفة يشتبه في ضلوع جنودها بمخالفات بحق فلسطينيين، وذلك من أصل 187 بلاغًا عن وقوع مثل هذه المخالفات والاعتداءات. وبالمقارنة، تلقت شرطة التحقيقات العسكرية في السنة السابقة (2014) 15 بلاغًا من الوحدات العسكرية التي يشتبه في ضلوع جنودها بمخالفات كهذه.

ويشار هنا إلى أن ثمة في الجيش الإسرائيلي قوانين وأوامر وتعليمات تلزمه بإبلاغ شرطة التحقيقات العسكرية بالحالات التي يُشتبه بأنه جرى خرق تعليمات القانون الدولي خلالها. وتشمل هذه الحالات، أيضاً، مخالفات نهب وتنكيل وإطلاق النار بشكل مخالف للقانون. وتدلّ النسبة المنخفضة من الحوادث التي تم إبلاغ شرطة التحقيقات العسكرية بها على عدم تطبيق الأوامر والتعليمات المتعلّقة بواجب الإبلاغ الملقى على عاتق الجيش.


وتُظهر معطيات "يش دين" أن جنود الجيش الإسرائيلي وضباطه وسلطات تطبيق القانون العسكرية ينتهكون مسؤولياتهم ويخلّون بواجباتهم التي تقتضي التحقيق في حوادث خطيرة يقع ضحيتها مدنيون فلسطينيون في الضفة الغربية، بل يخلّون أيضاً بواجبهم بشأن ضرورة الإبلاغ عن هذه الحوادث. فـ"قانون القضاء العسكري" ينص (في المادة 225) على أن "الضابط الذي يعلم، أو لديه أساس للافتراض، بأن أحد مرؤوسيه ارتكب مخالفة يمكن تقديمه جرّاءها إلى المحكمة العسكرية [...] عليه تحرير شكوى أو إصدار أمر بتحرير شكوى بخصوص المخالفة، والتوقيع عليها وتقديمها إلى ضابط القضاء العسكري". وتنص تعليمات هيئة الأركان على أنه عندما يثير البلاغ شبهة حول انتهاك تعليمات القانون الدولي، على أثر وقوع أعمال نهب، أو تنكيل أو إطلاق نار مثلا، بشكل مخالف للقانون، على ضابط القضاء العسكري نقل المعلومات مباشرة إلى الشرطة التحقيقات العسكرية، ويحظر عليه فحص الحادث بنفسه".

وفيما يتعلق بالحوادث التي قتل أو أصيب خلالها مواطنون فلسطينيون، فقد تبنى الجيش في العام 2005 إجراء يلزم بتقديم بلاغ عن كل حادث يقتل أو يصاب خلاله فلسطيني أعزل لم يشارك في القتال، وذلك في غضون 48 ساعة من لحظة وقوع الحادث، إلى مكتب هيئة الأركان ـ قسم العمليات، والنائب العسكري الرئيسي، مع شرح تفاصيل الحادث كاملة وإرفاق نسخ عن يوميات العمليات والتقارير اليومية وكل المواد الأخرى ذات الصلة بالموضوع.
ولا تتوفر لدى الجيش الإسرائيلي معطيات رسمية موثقة عن عدد الشكاوى التي تم تقديمها جراء مخالفات الجنود تجاه الفلسطينيين، الأمر الذي يحول دون قدرة النيابة العسكرية على رصد ومتابعة نسبة فتح التحقيقات أو على وضع سياسة واضحة ومنهجية في هذا المجال.

الفلسطينيون لا يجدون طريقة لتقديم الشكاوى!

تنشر منظمة "يش دين"، عادة، معطيات سنوية حول تطبيق القانون على الجنود المتورطين في اعتداءات ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهي معطيات تستند إلى المعلومات التي يوفرها مكتب "الناطق بلسان الجيش"، بناء على طلب "يش دين"، وإلى عمليات الرصد التي تقوم بها المنظمة لمثل هذه المعطيات، وخاصة ما يتعلق منها بتقديم لوائح اتهام وبصدور قرارات إدانة قضائية (عسكرية) في لوائح الاتهام التي يتم تقديمها إلى المحاكم العسكرية ضد الجنود المتهمين بارتكاب هذه المخالفات.

ومن المعروف أن إجراءات الشروع في التحقيق ضد الجنود المشتبه بضلوعهم في مثل هذه المخالفات ضد الفلسطينيين تختلف، جوهريا، عن إجراءات التحقيق مع مدنيين إسرائيليين مشتبه بضلوعهم في مخالفات مماثلة، وخاصة في مجالين اثنين: في طريقة تقديم الشكوى (بشأن الاعتداء) وفي القرار بشأن فتح التحقيق أم لا.

ويستدل من المعطيات المتراكمة لدى "يش دين" أن نسبة ضئيلة جدا من مجموع الشكاوى التي قدمت إلى سلطات تطبيق القانون بخصوص شبهات حول اعتداءات الجنود على الفلسطينيين خلال السنوات الماضية، وصلت من الفلسطينيين ضحايا هذه الاعتداءات، مباشرة. فخلال العام 2015، بلغ عدد الشكاوى التي قدمها الفلسطينيون بأنفسهم إلى شرطة التحقيقات العسكرية 11 شكوى فقط، من أصل 187 شكوى. وكذلك الأمر في السنوات السابقة، أيضا: في العام 2014، قدم الفلسطينيون خمس شكاوى فقط من أصل 239 شكوى؛ ست شكاوى من أصل 239 شكوى في العام 2013؛ ست شكاوى من أصل 240 شكوى في العام 2012. ولهذه الحقيقة أسباب عدة، في مقدمتها عدم قدرة الفلسطينيين ضحايا اعتداءات الجنود على التوجه إلى مركز شرطة التحقيقات العسكرية وتقديم الشكاوى هناك، نظرا لأن هذه الشرطة غير متواجدة في مراكز أو محطات في الضفة الغربية، فيما يبقى الحل المتاح أمام الفلسطينيين سكان الضفة الغربية التوجه إلى مكاتب التنسيق والارتباط المنتشرة في الضفة الغربية وتقديم شكاواهم هناك، أو في مراكز الشرطة الإسرائيلية.

غير أن التجربة العملية التي تراكمت لدى منظمة "يش دين" ومنظمات حقوقية أخرى تبين، بصورة واضحة، أن هذه الشكاوى المقدمة إلى مكاتب التنسيق والارتباط نادرا ما يتم تحويلها ونقلها إلى جهات التحقيق المختصة والمعنية الملائمة، أو يتم نقلها وتحويلها بعد مرور وقت طويل. أما تقديم الشكاوى في مراكز الشرطة الإسرائيلية فيمثل عقبة كبيرة أمام الفلسطينيين، نظرا لوجود القسم الأكبر منها في داخل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، والتي يُحظر على الفلسطينيين دخولها بدون مرافقة الشرطة نفسها، ناهيك عن عدم توفر محقق يجيد اللغة العربية ويستطيع تسجيل شكوى المواطن الفلسطيني بلغته، في أغلب الحالات.

ولهذا، فعادة ما يتم تقديم الشكاوى عن اعتداءات الجنود إلى النيابة العسكرية، وغالبا ما يحدث ذلك من خلال جهات ومنظمات إسرائيلية وبواسطتها. وهكذا، فنحو 80% من الشكاوى التي قدمت إلى شرطة التحقيقات العسكرية في العام 2015 كانت، في الأصل، شكاوى قدمها فلسطينيون (بواسطة منظمات إسرائيلية) إلى النيابة العسكرية، أولاً.

وعلاوة على هذا، يجب التنويه إلى أن سلطات تطبيق القانون في الجيش لا تسارع إلى إجراء تحقيقات جنائية في الشكاوى التي تتلقاها عن اعتداءات الجنود على الفلسطينيين وممتلكاتهم. فغالبا ما يتم إجراء "فحص مسبق" بشأن هذه الشكاوى، قبل اتخاذ قرار نهائي بشأن الشروع في إجراء تحقيق جنائي أم لا. وهو قرار حصري في أيدي المسؤولين العسكريين، علما بأن السياسة العامة لإجراء تحقيقات جنائية في الجيش في هذا المجال ("سياسة التحقيقات") تنص على أنه عند الاشتباه بحصول مخالفة "كجزء من نشاط عسكري" يكون فتح التحقيق الجنائي مشروطاً بإجراء "فحص مسبق" أولاً. وفي أعقاب الالتماس الذي قدمته منظمتا "بتسيلم" و"جمعية حقوق المواطن" الإسرائيليتان إلى "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية ضد النائب العسكري الرئيسي (في العام 2003)، طرأ توسيع طفيف على "سياسة التحقيقات" هذه، شمل ضرورة التحقيق الجنائي من قبل شرطة التحقيقات العسكرية في أية حالة تؤدي إلى وفاة مدني فلسطيني نتيجة أعمال الجيش في الضفة الغربية "باستثناء تلك التي تحصل في إطار عمليات ذات صفة قتالية فعلية"!

تقريران سابقان

يذكر أن منظمة "يش دين" كانت أصدرت في أيار 2015 تقريرا خاصا بعنوان "التفاف على القانون" حول التقصير والإهمال الكبيرين في معالجة اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية أكدت فيه أن سلوك الشرطة الإسرائيلية في هذا المجال "أقرب لأن يكون نهجاً رسميا" وأن "هذا النهج هو سبب عدم ثقة الفلسطينيين بسلطات تطبيق القانون الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهو ما يفسر حقيقة أن شكاوى رسمية قدمت إلى الشرطة الإسرائيلية بشأن 23% فقط من اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين وممتلكاتهم"! (نشر عنه في ملحق "المشهد الإسرائيلي" العدد 359، الثلاثاء 2/6/2015).

وفي أيار 2016 نشرت منظمة "بتسليم" تقريرا بعنوان "ورقة التوت التي تغطي عورة الاحتلال: جهاز تطبيق القانون العسكري كمنظومة لطمس الحقائق"، أعلنت من خلاله عن قرارها وقف التعاون مع النيابة العسكرية والتوقف عن تقديم شكاوى إلى جهاز تطبيق القانون العسكري، مؤكدة أن المهمة الملقاة على عاتق هذا الجهاز محدودة أصلا وتعفي صناع القرارات والسياسات، العسكريين والسياسيين، من أية مسؤولية أو مساءلة، لكن هذا الجهاز "لا يسعى حتى إلى تنفيذ هذه المهمة المحدودة". (نشر عنه في ملحق "المشهد الإسرائيلي"، العدد 380، الثلاثاء 31/5/2016).

المصطلحات المستخدمة:

بتسيلم, حرس الحدود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات