المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقي في المنطقة التي أقيمت فيها إسرائيل قرابة 160 ألف فلسطيني، بعد أن هجّرت المنظمات الصهيونية والجيش الإسرائيلي حوالي 800 ألف فلسطيني أثناء نكبة العام 1948. وتحول الفلسطينيون في إسرائيل من أغلبية إلى أقلية داخل أغلبية يهودية. وسعت السلطات الإسرائيلية، منذئذ وحتى يومنا هذا، إلى التعامل مع هذه الأقلية العربية الفلسطينية بشكل شرس، حيث فرضت حكما عسكريا، امتد فعليا حتى حرب العام 1967، عندما احتلت إسرائيل باقي فلسطين التاريخية إضافة إلى هضبة الجولان من سورية وشبه جزيرة سيناء من مصر.

وسعت السلطات الإسرائيلية خلال الـ68 عاما الماضية، بتوجيه وإشراف حكوماتها المتعاقبة، من دون استثناء، إلى تطبيق مخططات عدوانية ضد مواطنيها العرب الفلسطينيين، في محاولة لسلخهم عن هويتهم القومية العربية وطمس ملامحهم الوطنية الفلسطينية. كما مارست السلطات سياسات اتسمت بالعنصرية والتمييز بحق الأقلية. وتصاعدت شراسة هذه السياسات في أعقاب عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، في العام 2009، وخلال حكوماته الثلاث التي شكلها منذئذ، وبخاصة حكومته الأخيرة، التي شكلها العام الماضي، من ائتلاف يضم أحزاب اليمين المتطرف والحريديم.

وصدرت مؤخرا عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، دراسة بعنوان "أنماط المقاومة لدى الأقلية العربية – الفلسطينية في إسرائيل: استعراض تاريخي ونظرة إلى المستقبل"، أعدها الباحث دورون ماتسا، الذي وصف الأقلية العربية في إسرائيل بأنها "إحدى القضايا المركزية المتعلقة بالأمن القومي الإسرائيلي".

وأشار ماتسا إلى أن اختيار مصطلح "مقاومة" لم يكن صدفة، وإنما استخدم في هذه الدراسة لأنه "في البحث الأكاديمي ينظر إليه على أنه مصطلح يشمل نطاقا واسعا من الظواهر الاجتماعية، بدءا من العنف السياسي والخطوات الاحتجاجية المدنية، التي تستخدمها أقليات قومية وآخرون من أجل الحفاظ على هويتهم وتحدي القوى السياسية المهيمنة".

وأضاف أنه "على الرغم من أن العنف كان مشمولا في سلة إستراتيجية المقاومة للأقلية العربية، لكنه كان استثنائيا، خلافا للانطباع السائد (لدى الإسرائيليين). وكان ضلوع هذه الأقلية في الإرهاب منذ قيام الدولة ضئيلا والمناوشات العنيفة في يوم الأرض في العام 1976 وأحداث أكتوبر في العام 2000 لم تكونا خطوة عربية مخططة. ورغم ذلك، فإن الأقلية العربية بادرت إلى إستراتيجيات مقاومة متنوعة، سياسية ومدنية وثقافية، عبرت من خلالها عن سعيها إلى تغيير الواقع القائم من جهة، وعكست خطوات اندماجها في الدولة وعدم رغبة بالوصول إلى مواجهة مع السلطات من الجهة الأخرى".

ورأى ماتسا أن "الأقلية العربية موجودة في العامين الأخيرين في بداية بلورة مشروع مقاومة جديد، في مركزه إستراتيجية المقاومة الاجتماعية، ويستند إلى تسخير الخطاب الاجتماعي في إسرائيل من أجل دفع مجمل رغبات المجتمع العربي قدما. والتعبير السياسي له هو تشكيل القائمة العربية المشتركة. ويأتي هذا المفهوم على خلفية تزايد قوة الخطاب القومي (الإسرائيلي) وميل الحكومة إلى إقصاء العرب من الحيز السياسي – الاجتماعي في إسرائيل. وفي هذا الواقع، قد تضع الإستراتيجية الاجتماعية وجها جديدا وتتطور إلى عملية انطواء اجتماعي للمجتمع العربي، كنوع جديد من التقوقع الاجتماعي – القومي".

وتابع أن مسألة العلاقات بين دولة إسرائيل والأقلية العربية الفلسطينية "موجودة في السنوات الأخيرة على الأجندة السياسية والعامة في الدولة، وبرزت بشكل كبير على خلفية تدهور الوضع الأمني منذ خريف العام 2015"، في إشارة إلى اندلاع الهبة الشعبية الفلسطينية. واعتبر أن هذه الهبة الشعبية سلطت الضوء على ما يحدث داخل المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، "وذلك بعد أن شارك شبان عرب، لفترة قصيرة، في الأحداث الاحتجاجية ذات الطابع الشعبي في بلدات الجليل والمثلث".

"مشروع مقاومة ليس عنيفا"

اعتبرت الدراسة أن "أهمية مشروع المقاومة الاجتماعية للأقلية العربية في إسرائيل يمكن أن يشكل مشروعا ذكيا، يوفر ردا للتوترات التي تواجهها هذه الأقلية، ويجاري السياق السياسي – الاجتماعي الخاص الذي تخضع له، وليس فقط السياقات الإقليمية والعالمية الأوسع. ويضع هذا المشروع الذكي معضلة ليست هينة أمام دولة إسرائيل. وتتعلق هذه المعضلة باللقاء المعقد بين ميل إسرائيل إلى رؤية أفضليات نموذج المقاومة الاجتماعية على أنها تنسجم مع السياسة الحكومية الحالية تجاه الأقلية العربية، التي تستند إلى إقصاء سياسي، وبين المخاطر البعيدة المدى التي تنعكس من هذا النموذج على العلاقات بين اليهود والعرب في الدولة. وهذه المخاطر هي بالأساس بناء واقع ’دولة داخل دولة’ أو ’مجتمع داخل مجتمع’، ما سيعزز عمليا الاختلاف القومي للأقلية العربية".

لكن الدراسة قالت إن "مشروع المقاومة الاجتماعية من شأنه أن يخدم أهداف إسرائيل الإستراتيجية" من النواحي التالية:
أولا: "الحديث يدور عن مشروع مقاومة ينسجم مع السياسة القائمة، ويستند إلى تقليص حضور الأقلية العربية في الحيز السياسي والثقافي الإسرائيلي. ومن هذه الناحية فإنه يستند إلى استيعاب عميق للأقلية العربية نفسها لأسس السياسة الحكومية والعامة تجاهها".

ثانيا: "مشروع المقاومة الاجتماعية يسمح للمستوى السياسي في إسرائيل بمواصلة إقصاء الأقلية العربية عن الحقل الاجتماعي – السياسي الإسرائيلي، والاستمرار أيضا في دمجها بالاقتصاد الإسرائيلي. وذلك لأن عملية التصحيح الداخلية ليست مقرونة ببناء أسوار متينة بين الحيز العربي والحيز اليهودي، وإنما بأسوار قابلة للتغلغل جزئيا، وسيستمر في إطارها التكافل الاقتصادي المطلوب للأقلية العربية وحتى لغرض مشروع الانطواء".

ثالثا: "يدور الحديث عن مشروع مقاومة ليس مقرونا بعنف سياسي، أي العنف الذي تعتبره المؤسسة الإسرائيلية كابوسا. بل على العكس، إذ أن مشروع المقاومة الاجتماعية يستند إلى مفهوم رافض للعنف السياسي ويعترف بحدوده. لذلك، فإنه من وجهة النظر المؤسساتية بالإمكان النظر إلى هذا المشروع على أنه توجه إيجابي للسكان العرب في كل ما يتعلق بعملية تبنيهم لقواعد اللعبة الديمقراطية والمدنية في دولة إسرائيل".

رابعا: "مشروع المقاومة الاجتماعية طويل الأمد ولا يتعلق بحدث واحد. ولهذا السبب بالذات، فإنه يوفر طول نفس واضح للمؤسسة الإسرائيلية من دون أن يتطلب ذلك خطوات متعاقبة وتدخلا دائما في ما يحدث في المجتمع العربي. وهذا تمسك بأداء المؤسسة السائد منذ قيام الدولة، أي تقليص الانشغال بشؤون الأقلية العربية كتعبير عن مكانتها المتدنية في سلم الأولويات القومي (الإسرائيلي)".

خامسا: "مشروع المقاومة ينقل عمليا مشروع تأهيل المجتمع العربي من الدولة والمؤسسة الإسرائيلية إلى أيدي الأقلية العربية نفسها. وهذا يخدم سياسة الحكومة، التي تسعى إلى تقليص تدخلها الاقتصادي – الاجتماعي في الوسط العربي، وتقليص مساهمات الحكومة الدائمة له".

لكن الدراسة اعتبرت أن "مشروع المقاومة الاجتماعية" للأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل ينطوي أيضا على "مساوئ بالنسبة للمستوى السياسي في إسرائيل":

أولا: "هذا مشروع يناقض المبادئ الأساسية الطويلة المدى للسياسة الإسرائيلية تجاه الأقلية العربية منذ العام 1948، وخاصة المجهود الكبير من أجل منع تبلورها كأقلية قومية مستقلة ومنفصلة في الحيز الإسرائيلي".

ثانيا: "مشروع المقاومة الاجتماعية قد يحدث، في نهاية الأمر، واقع ’دولة داخل دولة’، لأنه إلى جانب تصحيح العيوب الداخلية، سينمي الاستقلالية الداخلية للوسط العربي ويقلص بمفاهيم معينة التعلق بالدولة. وقد يستخدم الوسط العربي هذا التصحيح وتعزيز قوته الاجتماعية كرافعة لاستقرار متجدد ضد الدولة، وتشمل مطالب حازمة من أجل تغيير نموذج العلاقات بين اليهود والعرب، بروح أفكار وثائق الرؤى المستقبلية. وبكلمات أخرى، ربما يسمح مشروع المقاومة للأقلية العربية، تحت غطاء مشاريع اجتماعية، بدفع موارد طبيعية وتكافل مع الدولة لصالح دفع مشاريع قومية، بمعنى تنمية الاختلاف القومي العربي وتحويل الوسط العربي إلى أقلية قومية حازمة وعنيدة، بعيون دولية أيضا".

ورأت الدراسة أن "مشروع المقاومة الاجتماعية يمنح إسرائيل أفضليات في المدى القريب، لكنه لا يخدمها في المدى البعيد. وقد تجد إسرائيل نفسها في واقع سعت إلى منعه طوال سنوات وجودها، أي بناء أقلية عربية قوية لها هوية قومية – جماعية بصورة ذكية وبواسطة رافعة اجتماعية. ورافعة كهذه، تستند إلى تعزيز القوة الداخلية، ستمنح الأقلية العربية الأدوات من أجل مطالبة الدولة في مرحلة ما بالاعتراف بمطالبها وحقوقها، بحزم متزايد، لدرجة المطالبة بتغيير بنية النظام والأساس الدستوري للدولة. فهذا نموذج اجتماعي يعكس عمليا نموذجا انفصاليا".

توصية: الحفاظ على "توازن" بين الإقصاء والدمج

في الختام، اقترحت الدراسة توصيات "لا تتناقض مع أنماط السياسة المتبعة اليوم من جانب حكومة إسرائيل، إنما على العكس. ونقطة البداية لما ينبغي تنفيذه هو السياسة المتبعة اليوم"، معتبرة أن "هذه السياسة المتبعة ليست غير معقولة... وليس مفاجئا أن سياسة حكومة الوسط – يسار برئاسة ايهود أولمرت وحزب ’كديما’ تجاه الأقلية العربية بعد نشر وثائق الرؤى المستقبلية، التي استندت إلى فكرة الاحتواء الاقتصادي من خلال منع النقاش حول مطالب قومية، استخدمت كأساس صلب للسياسة التي تبنتها بعدها حكومة اليمين لحزب ’الليكود’، برئاسة بنيامين نتنياهو".

ورأت الدراسة بسياسة الإقصاء السياسي والاحتواء الاقتصادي تجاه الأقلية العربية أنها تشكل "نقطة الانطلاق لمناقشة الالتقاء بينها وبين السيناريو، الذي بموجبه يسير الوسط العربي باتجاه تبني إستراتيجية مقاومة جديدة، تستند على انطواء اجتماعي. والسؤال هو كيف ستتمكن إسرائيل من اتباع سياسة تمكنها من العيش مع إستراتيجية مقاومة اجتماعية للوسط العربي من جهة، وتسمح لها بمراقبة التطورات فيه ومنع السيناريوهات المرغوب بها أقل".

وأشارت الدراسة إلى أن مجهود الحكومة الإسرائيلية من أجل إقصاء الأقلية العربية سياسيا، في السنوات الأخيرة ومن خلال سن قوانين وطرح مشاريع قوانين عنصرية ومعادية للعرب وإخراج الحركة الإسلامية – الجناح الشمالي عن القانون وطرح قانون إقصاء النواب العرب في الكنيست، كان أكبر بكثير من مشاريع دمج العرب بالاقتصاد الإسرائيلي.

لذلك رأت الدراسة أن "انعدام التوازن بين هذين التوجهين يعني تقويض أسس نموذج السياسة المركب، وقد ينتهي بانهياره المطلق". ولفتت الدراسة نظر صناع القرار الإسرائيليين إلى أن "الفجوات التي ظهرت في دول عربية مجاورة بين اتجاهات النمو الاقتصادي وانعدام المشاركة السياسية أدت إلى ثورات، وينبغي الافتراض أن تصعيد خطوات الإقصاء، من دون إنشاء عامل مضاد إيجابي، قد يسرع توجهات الاختلاف لدى الأقلية العربية وحتى أنه يمكن أن يدفعها نحو الحائط، في ظل غياب بديل ملائم لتحقيق الذات".

بناء على هذه الرؤية، دعت الدراسة الحكومة الإسرائيلية إلى "تسريع جهود الاندماج الاقتصادي للوسط العربي، وفي هذا الإطار إخراج خطط المساعدات الاقتصادية للمجتمع العربي التي جرى إقرارها مؤخرا إلى حيز التنفيذ، وذلك بواسطة سلسلة من المشاريع".

وكانت الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو قد صادقت مؤخرا على خطة خماسية للمجتمع العربي في إسرائيل بحجم 12 مليار شيكل، لكنها تراجعت عن دفعها ولم تشملها ميزانية العامين المقبلين، بادعاء أنه يجب تنظيف المدن والبلدات العربية من السلاح غير المرخص. لكن الدراسة رأت أن هذا التوجه للحكومة هو "خطوة خاطئة، لأنها لا توفر بديلا لإقصاء الوسط العربي من الحقل الثقافي – السياسي. ومن الناحية العملية، فإن اشتراطا كهذا يمس بجدلية السياسة الحكومية، ويخرق التوازن بين عنصريها، خاصة وأن خطط مساعدات اقتصادية سابقة للوسط العربي لم تخرج إلى حيز التنفيذ".

كذلك دعت الدراسة إلى "القيام بحوار مع جهات في المجتمع العربي من أجل منع الانطواء من تفكيك كامل لنسيج الاتصال بين هذا المجتمع والمجتمع اليهودي في الدولة، وخلق وضع أشبه بأن يكون نوعا من ’التعايش’".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات