المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

اتفق عدد من المراقبين والمحللين الإسرائيليين على أن الرؤية التي عرضتها وزيرة العدل الإسرائيلية، أييلت شاكيد (من حزب "البيت اليهودي")، في مقالها المنشور مؤخرا، ستشكّل، إذا ما تحققت بترجمتها إلى خطوات وإجراءات تشريعية فعلية، "أعتى عاصفة سياسية تجتاح إسرائيل، على الإطلاق" (كما قالت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 5/10/2016)! لأن هذا المقال "ليس مجرد تفسير شخصي لواقع ما، بل هو خطة عمل"، كما رأت كيرن هابر ("هآرتس"، 6/10/2016) معتبرةً أن "الثورة التي تحاول الوزيرة شاكيد إحداثها في وزارة العدل هي جزء مكمل للثورة التي ينفذها زعيم حزبها، الوزير نفتالي بينيت، في وزارة التربية والتعليم ولا مجال للفصل بين الأمرين. فبيان شاكيد هذا يمثل، إلى حد كبير، الوسائل العملية لتطبيق وتكريس التوجه الرامي إلى جعل اليهودية القيمة المركزية في (المواطنة) الإسرائيلية. ذلك أن القدرة على تقييد المحكمة، سواء بوسائل دستورية أم من خلال تغييرات تدريجية في التركيبة الشخصية للقضاة في المحكمة العليا، هي عنصر جوهري ومركزي يوازيه الشعار الذي يرفعه بينيت عن أن "اليهودية أكثر أهمية من الرياضيات". وإذا ما استعنّا بتحليل الأسباط الذي وضعه رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، فسنجد أنفسنا أمام عملية غسل دماغ ومذهبية يهودية مرسومة في جهاز التعليم ترمي إلى إنتاج مجموعة من القيم تسبق وتتقدم على أية قيم أخرى ولا تتفق، بالضرورة، مع مفهوم "العيش المشترك"، إلا إذا كان معنى "العيش المشترك" المقصود هو خلق وتكريس نوعين متمايزين من المواطَنة"!

ورأى د. رام برومان، رئيس "المنتدى العلماني"، أن مقال شاكيد هذا "يجب أن يثير القشعريرة لدى أي مواطن في إسرائيل"، لأن "ما تطرحه عن الدولة اليهودية هو خطير جدا"، برغم حرصها على "عدم تقديم وصف تفصيلي للدولة اليهودية التي تحلم بها" ("هآرتس"، 9/10/2016).

"اليهودية هي منبع الديمقراطية العالمية وأصلها"!

المقال الذي نشرته وزيرة العدل الإسرائيلية، أييلت شاكيد، وهو الأول من نوعه باسمها الشخصي، جاء تحت عنوان "الطريق إلى الديمقراطية والحوكمة" ونُشر في عدد شهر تشرين الأول الحالي من مجلة "هشيلواح"، وهي مجلة شهرية إسرائيلية "لشؤون الفكر والسياسة". وقد وصفت شاكيد مقالها بأنه "بيان تاتشريّ" وعرضت من خلاله ما اعتُبر أنه "رؤيا شاكيد وتصورها" في قضايا ومجالات مختلفة، وخصوصا قضايا الحكم والتشريعات والعلاقة بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية (الفصل الأول من المقال) وتقليص صلاحيات المحكمة العليا في إسرائيل (الفصل الثاني من المقال).

لكنّ الموضوع المركزي والطاغي في هذه الرؤية هو، بدون شك، موضوع إسرائيل كدولة يهودية، وهو الذي خصصت له الفصل الأخير من مقالها.

وبدا واضحا حرص شاكيد، في أكثر من موقع وسياق في المقال، على تأكيد انتمائها الفكري إلى "مدرسة اليمين المُحافظ"، وخصوصا اليمين الأميركي المحافظ، الذي تأخذ عنه انطلاقه من قاعدة أن "جوهر الديمقراطية هو الحرية الاقتصادية" وأن "الوسيلة الضرورية لإنتاج الحرية هي الحرية الاقتصادية" (بكلمات ميلتون فريدمان، أحد أبرز علماء الاقتصاد في هذا التيار).

ويمكن، إجمالا، تحديد العناوين التالية التي عالجتها شاكيد في مقالتها هذه (التي تأتي بعد سنة وخمسة أشهر من بدء مزاولتها منصب وزيرة العدل في حكومة بنيامين نتنياهو الحالية): الدعوة إلى تعزيز وتعميق الطابع اليهودي لدولة إسرائيل والتقليل من "التوتر بين اليهودية والديمقراطية"، الدعوة إلى التقليل من التشريعات القانونية، المزيد من الفصل بين السلطات، تحديد وتقييد صلاحيات المحكمة العليا (وخصوصا في مجال إلغاء قوانين يسنّها الكنيست). وتُجمل شاكيد رؤيتها بالقول: "الكنيست يعقد حياتنا بتشريعاته الكثيرة، المحكمة العليا تضطلع بمهام ليست لها، أداء بعض السلطات يشكل خطرا متزايدا، أكثر فأكثر، على حرياتنا وعلى قدرة منتخَبينا على الحكم. علينا إعادة قاطرات الحوكمة إلى مساراتها، بأقصى الشرعة الممكنة".

غير أن موضوع يهودية الدولة ووزن طابعها اليهودي، مقابل طابعها الديمقراطي، احتل ـ كما أشرنا ـ حيزا مركزيا في مقالة شاكيد هذه: "في رؤيتي، يهودية الدولة لن تبقى رمزاً فارغاً، بل ستكتسب حياة وحيوية نابعتين من داخلها"، كما كتبت، وأضافت أنها تؤمن، شخصيا، بأنه "كلما كانت دولة إسرائيل أكثر يهودية، كانت أكثر ديمقراطية". وأعلنت أنها "وضعت هدفاً يتمثل في طرح مشروع قانون أساس ليزيد من ثقل الهوية اليهودية لدولة إسرائيل ويعمل على إرسائها ضمن مفاهيم عملية، توازي في قوتها وأهميتها القوانين الأساسية الليبرالية والشمولية الأخرى"، لأنه "يجب على قطار القضاء الإسرائيلي أن يأخذ بالحسبان يهودية الدولة، كمركّب أساس في هويتها".

وكتبت شاكيد أنها ترفض وجهة النظر القائلة بأن ثمة تناقضاً بين يهودية الدولة وديمقراطيتها. ذلك أن "المنظّرين السياسيين الذين وضعوا أسس الديمقراطية المعاصرة، مثل جون لوك وتوماس جيفرسون، ارتكزوا في ذلك على التوراة"!، كما كتبت، وأن "المبادئ الغربية الشاملة الخاصة بحرية التعبير عن الرأي ومبدأ تغليب الأكثرية تنبع، كلها، من التقاليد اليهودية"!! وعليه، فثمة "توافق تام بين اليهودية والقيم الديمقراطية، طبقا لما أوضحته تفاسير المدرسة اليمينية المُحافظة، على الأقل"! وبما أن "اليهودية هي منبع الديمقراطية العالمية ومصدرها، فإن تعزيز الطابع اليهودي لدولة إسرائيل سيؤدي إلى تعزيز طابعها الديمقراطي"!

ولتدعيم ما ذهبت إليه وإسناده، تطرح شاكيد ثلاث حجج تاريخية هي التالية: أولا، كل ما تعرفه البشرية عن الديمقراطية اليوم هو من إنتاج اليهودية، بصورة حصرية؛ ثانيا، جميع الفلاسفة والمفكرين السياسيين غير اليهود الذين وضعوا أسس الديمقراطية المعاصرة، مثل جون لوك وتوماس جيفرسون، ارتكزوا على المصادر اليهودية، وفي مقدمتها التوراة، لتطوير مفاهيمهم وتوجهاتهم الديمقراطية؛ ثالثا، التقاليد اليهودية، وليس نموذج أنظمة الحكم الأخرى التي كانت قائمة في القرنين الـ 19 والـ 20، هي التي أتاحت قيام ووجود الديمقراطية في إسرائيل!

تزوير للتاريخ الإنساني واتفاق على "فائض التشريع"!

وعن هذه الحجج، قال رئيس "المنتدى العلماني"، رام برومان (في مقاله المشار إليه آنفا)، إنها "ليست أكثر من تزوير لتاريخ الإنسانية، سواء بتجاهل جميع مصادر الإلهام غير اليهودية لليهودية، طوال تاريخها، أو بتجاهل التقاليد الثقافية التي تطورت بعيدا عن اليهودية وبدون علاقة بها وتأثيراتها على عدد من اليهود الذين أوجدوا الصهيونية، وفي مقدمتهم هرتسل نفسه، ممن لم يكونوا على احتكاك ومعرفة بالمجتمعات اليهودية، بل تأثروا بثقافة التنوير الأوروبية".

ونفى برومان، أيضا، زعم شاكيد بأن "الديمقراطية هي جزء أصيل من التقاليد اليهودية" وسخّفه. وقال إنه "مقابل كل مثال عن الديمقراطية والقيم السامية في التقاليد اليهودية، يمكن أن نجد مثالا عكسيا عن قيم صادمة ومثيرة للغضب في كل ما يتعلق بالعلاقة مع الآخر وطرق معاملته. يمكن للديمقراطي الليبرالي أن يجد في التقاليد اليهودية ما يدعم موقفه، لكن ليس في ذلك ما يجعل هذه التقاليد، بأوجهها المتعددة، وثيقة ديمقراطية ـ ليبرالية متماسكة. ذلك أنه حتى العنصري الأكثر ظلامية يستطيع، أيضا، أن يجد في هذه التقاليد، وبالسهولة نفسها، ما يسند مواقفه هذه"!

على مستوى آخر، كان من الواضح أن الانتقادات في موضوع "الفائض التشريعي" الكبير جدا في إسرائيل تحظى بإجماع تام، وهو ما عكسته أيضا تحليلات وتعليقات المحللين والمراقبين على مقالة شاكيد، بينما بقيت أسباب هذا "الفائض" موضع اختلاف.

وتشير المعطيات إلى أن 25 ألف مشروع قانون خاص (وهي مشاريع القوانين التي يقدمها أعضاء الكنيست بشكل شخصي، خلافا لمشاريع القوانين الحكومية) وُضعت على جدول أعمال الكنيست خلال العقد ونصف العقد الماضيين، وهو ما ليس له أي مثيل في أي من دول العالم قاطبة، وفي دول العالم الديمقراطي خاصة، حيث تتحدث الأرقام هناك عن بضع مئات أو بضع آلاف فقط. وتدل المعطيات المقارنة، أيضا، على أن عضو كنيست واحدا، مثلا، نجح في تمرير وسنّ 78 قانوناً خاصاً خلال دورتين من دورات الكنيست، بينما قد لا ينجح عضو برلمان في غالبية دول العالم في تمرير وسن ولو قانون شخصي واحد خلال حياته البرلمانية كلها! ونظرا لأن اقتراحات القوانين التي يتقدم بها أعضاء الكنيست بصورة فردية خاصة تسجل أعدادا كبيرة جدا، كذلك أيضا القوانين التي يتم تشريعها: فخلال الدورات الأربع الأخيرة من دورات الكنيست، سنّ الكنيست نحو 400 قانون في كل واحدة من هذه الدورات الأربع (!)، نصفها قوانين بمبادرات (اقتراحات) فردية خاصة.

وتعكس هذه المعطيات ما تلقيه عملية التشريع هذه من أعباء ثقيلة جدا على الكنيست، أعضائه وموظفيه وطواقمه المختلفة، مما يسيء في نهاية الأمر إلى عملية التشريع، برمتها.

وقال البروفسور مردخاي كريمنيتسر، أستاذ القانون في الجامعة العبرية في القدس سابقا ونائب الرئيس الحالي للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية، إنه "ما من شك في أن ثمة في إسرائيل غريزة مبالغا فيها للتشريع، لكن ينبغي النظر إلى الموضوع من زاوية أوسع.... تخطئ الوزيرة عندما تضع الحرية كقيمة عليا وحيدة لا ينافسها أي شيء آخر. هذا فهم تبسيطي جدا للحرية. لأن ثمة أمورا أخرى هامة جدا في سياق الحديث عن الحرية، مثل قيمة الحياة وقيمة المساواة. لكي نقرر أن قانونا ما يمسّ بالحرية، ينبغي أن نرى ما يبتغي تحقيقه، ما إذا كان هدفه جديراً وما إذا كان يسعى إلى ذلك بصورة تناسبية".

وقال وزير السياحة، ياريف ليفين (ليكود) ـ وهو من أكثر أعضاء الكنيست نشاطاً في مجال تقديم وسن اقتراحات قوانين خاصة ـ إن المشكلة الأساسية في هذا الموضوع تنبع من حقيقة أن غالبية البرلمانات في العالم تصب جل جهدها وعملها في ممارسة الرقابة على الحكومة بصورة جارية ومتواصلة، بينما هذه الرقابة معدومة في إسرائيل، تماما تقريبا. ولهذا، يبقى تقديم مشاريع القوانين ومحاولة سنها الطريقة الوحيدة أمام أعضاء الكنيست للتعبير عن أنفسهم وللبروز، وكذلك من أجل إعلاء قضايا ومواضيع يرونها هامة لكنهم عاجزون عن التأثير عليها.

من جهة أخرى، رأى آخرون أن حديث الوزيرة شاكيد عن كثرة التشريعات هو "ذر للرماد في العيون، رغم كونه صحيحا من حيث المبدأ". وقال هؤلاء إن من ينتقد كثرة التشريعات عليه أن ينظر، أولا، إلى الوزارات الحكومية المختلفة ليتأكد من حقيقة أن ليس لديها أي استعداد للتغيير ولذلك يبقى التشريع السبيل الوحيد لإحداث التغييرات المطلوبة واللازمة. فالحديث يدور، أحيانا، عن قضايا هامة جدا في مجالات الصحة، الرفاه والمجتمع، يرى أعضاء الكنيست أن الحكومة لا تحرك ساكنا بشأنها ولذلك يتقدمون باقتراحات قوانين خاصة من طرفهم، علهم يضطرون الحكومة إلى معالجة الموضوع العنيني.

وذكّر هؤلاء بأن شاكيد نفسها كانت ـ قبل تسلمها حقيبة وزارية ـ من أكثر أعضاء الكنيست نشاطا في تقديم مشاريع القوانين ومحاولة سنها، وفي مقدمتها قانون فصل أعضاء الكنيست، قانون "الشفافية" (لمحاصرة تمويل وعمل جمعيات حقوقية يسارية في إسرائيل) وغيرهما.

واستبعد المعلق في القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي، رافيف دروكر ("هآرتس"، 10/10/2016) أن يكون "خوف شاكيد على يهودية الدولة" مفصولا عن حملة الانتساب التي تجرى في حزب "البيت اليهودي" هذه الأيام وأكد أنه "ربما- ربما فقط- تريد الوزيرة تجنيد بعض التعاطف والتأييد من ناخبي الحزب الذين ينظرون بريبة دائمة إليها بصفتها "المرأة العلمانية" في حزب المتدينين"!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات