المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

حين كانت أواخر ظلمات الفجر تلف "موشاف بيت إلعازاري"، في منتصف شهر آب الماضي، أطلق أحد سكانها الستّينيين عدة رصاصات على من سيدّعي لاحقًا أنهم حاولوا سرقة معدّات زراعية من كرومه، بل أن أحدهم هدده بقضيب مصنوع من الحديد (لاحقًا سيتحدث عن عصا أو قطعة خشب استلّها شخص من المكان).

بيانات الشرطة الرسمية نقلت عن لسانه عدم استهدافه أحدًا بالرصاص، بل قيامه بإطلاق النار في الهواء كخطوة دفاع عن النفس. والشرطة صدقته فورًا كما يتبيّن، بدليل إطلاق سراحه رغم إطلاقه الرصاص، إلى ما يُعرف بالاعتقال المنزلي.

قد تكون الجملة السحرية التي دفعت الشرطة إلى قرارها، هي التالية: "لقد تحدثوا بالعربية"، كما قال للمحققين واصفًا وضعًا كان فيه مُطلق الرصاص، كما يدّعي، يتراجع للوراء محاولا حقن الدم بينما هم يتقدمون. "فأطلقت النار في الهواء وهربوا"، لخّص.

لكن، مع الاحترام للأوراق الرسمية المختومة، فالمعطيات في ساحة الحدث تناقضت بوضوح مع احتمال إطلاق النار في الهواء، لأن بقعًا من الدماء قادت إلى جثة شخص نزف حتى فارق الحياة على بعد عشرات الأمتار. مع هذا، فالشرطة سعت بمثابرة مستَخلَصَة إلى التخفيف من شدّة ذاك التناقض، إذ وضعت أمامها فرضية عمل لافتة الانتباه: ربما كان إطلاق النار فعلا لغرض الدفاع عن النفس وتم توجيهه للأعلى، لكن ليس بما يكفي للأعلى، مما أصاب الشخص الهارب.

صوّر سكان المستوطنة هذا الحادث/ الفعلة بمصطلحات تراوحت بين التحليل الميداني الواثق وبين الفخر القومي. وكما نقلت عن بعضهم مواقع عبرية دون الإشارة إلى أسمائهم، فإن مُطلق النار برأيهم "ليس قاتلا" بل إنه "ملح هذه الأرض، وخدم في الجيش برتبة ضابط". كذلك، أطلقوا رسالة لمن يهمه الأمر مفادها: "نحن لا نخشى أن يأتي أصدقاء المُصاب للانتقام، واذا جاءوا فنحن مستعدون". يحتاج المرء إلى فهم هذا الكلام بوضعه في سياق أفلام هوليوودية مشهورة.

الصورة المتشكلـة!

إن الصورة المتشكلة من القليل الذي سبق لا تحتاج عناءً كثيرًا لتركيبها: من جهة هناك مقتحمون سارقون يتحدثون بالعربية، وكهل مسلّح أطلق النار لديه تاريخ عسكري يفاخر به جيرانه، من جهة أخرى.

هذا الوصف كافٍ كي تتعاطف الشرطة مع مُطلق النار وكي تتلقف بعدها وسائل الإعلام المهيمنة القصة ضمن خانات "الوطنية". فمرة أخرى، تلمّح مقدمة برنامج اذاعي في إحدى ساعات قيظ الظهيرة في آب: لدينا مواطنون يفتقدون الأمن ويضطرون للدفاع عن أنفسهم بأنفسهم أمام مقتحمين يهددونهم وسط العتمة. هنا، سيكون من الصعب العثور على شريحة عريضة من المتلقّين الذين يتعاملون مع هكذا قصة بشيء من النقد أو بعض التشكيك الضروري السليم.

هذا الحادث ليس فريدًا طبعًا. وتكررت مثله حوادث مشابهة في مستوطنات تقع عادة على مقربة من حدود 1967 المسوّرة بغالبيتها بجدار الفصل العنصري الذي بناه جهاز الاحتلال الإسرائيلي، بل قُل بجهاز مزدوج من الجدران الغنية بكاميرات التصوير وأجهزة الانذار. وبرغم الحداثة التقنية لتحصين الجدران، لا تزال هذه المستوطنات الميسورة نسبيًا تتعرض لسرقات. كأن على الإنسان أن يتعلم استحالة صد نتائج الاحتلال بأكوام الاسمنت والحديد.

الأجهزة الرسمية تدّعي من جهتها أن معظم الفاعلين فلسطينيون من مناطق 67. يمكن القول بلغة أخرى، إن هناك أشخاصا يتوجهون من معازل الفقر التي يُسجنون فيها للسرقة ممن يملكون في طرف السادة. ليست هذه ظاهرة فلسطينية "جوهرانية" فريدة طبعًا. ولكن في الحالة الإسرائيلية، يجري ربط الظاهرة بمفاهيم مغموسة حتى خطر الغرق في الآبار الجوفية للمشروع القومي- الصهيوني. تلك التي يحبون تسميتها "مفاهيم مؤسِّسة". حجارة الزاوية، ليس للجدران المادية وحدها، لو أردتم.

إحدى حكايات البطولات الدافئة الباعثة على الشعور بمشروعية الفكرة وممارستها والتي يتناقلها الصغار عن الكبار في إسرائيل هي: "حوما ومجدال" (السور والبرج). يُقصد الفترة الاستيطانية التي أقيمت في إطارها 52 مستوطنة محصّنة في فلسطين خلال ثورة 1936، وخصوصًا في مناطق حدودية وأخرى بعيدة عن مراكز المستوطنات اليهودية في السهل الساحلي والشمال (الفلسطيني). ويروي مؤرخون أن الهدف من هذه المستوطنات كان توسيع رقعة الدولة اليهودية المقترحة دوليًا في اطار فكرة تقسيم فلسطين. وبنظر سادة مشروع استعمار البلاد، من منظمة "الهاغناه" خصوصًا، كانت إقامة تلك المستوطنات ملحّة تقتضي السرعة في العمل وإنهائه، واحيانًا خلال ليلة واحدة. رمزها المذكور، السور والبرج، يشير إلى موقع محصّن كل ما يقوم به هو الدفاع والمواجهة بوجه المقتحمين (البرابرة؟ شيء شبيه بهذا).

إن اللغة المستخدمة لوصف وتكريس حوادث سرقة ينتجها واقع الاحتلال المُفقِر السالب الناهب، لا تزال مغموسة هناك؛ حاملة معها شحنة ثقيلة من التاريخ والدافعيّة الأيديولوجية. وقبل هذه الحادثة/ الجريمة المشار إليها، سبق أن بادر عدد من السياسيين إلى سن قانون يحمي كل من يُطلق النار على شخص يشتبه في أنه ينوي السرقة من ممتلكاته. إنه: قانون درومي. وجاء على أثر حادثة مشابهة، في شتاء 2007، أطلق فيها مزارع يُدعى يشاي درومي النار على أشخاص قال إنهم اقتحموا منزله، في مزرعة خاصة للأغنام في النقب، فقتل أحدهم. والنقب في الخطاب الإسرائيلي المهيمن هو بمثابة موقع يجب "تحريره". ومن جاءه مستوطنين في مزارع فردية ومستوطنات شبه عائلية خاصة، هم أبطال ومكملو درب جماعة الـ"حوما ومجدال" أعلاه. هكذا ترتبط الخيوط الأيديولوجية.

وسُرعان ما نجح اليمين في رص صفوف الالتفاف الشعبي حول مُطلق النار، الكاوبوي درومي. بدوره، شمّر الإعلام العبري المهيمن عن ساعديه وساقيه وغاص في المستنقع الشعبوي بانتعاش. ودخله معه أيضًا سياسيون من أحزاب اليمين رافعين مقترحًا "ثوريًا": قانون لحماية ذاك المزارع القاتل ومن سيأتون بعده في الملابسات ذاتها.

تم تقديم أربعة اقتراحات قوانين متشابهة، تقضي كلّها بإعفاء من يطلق النار على مقتحمي منزله من المسؤولية عن إصابتهم لحدّ قتلهم بالرصاص أو سواه. عمليًا، يسمح مثل هذا القانون للمواطنين بأخذ القانون إلى أيديهم، تنفيذ محكمة ميدانية ضد مقتحمي منازل، الخروج بقرار وتنفيذ أقسى العقوبات - بالنار. كذلك، فهو قانون يعفي الشرطة وسائر أجهزة الأمن من مسؤولياتها، ومن مسؤولية الدولة برمّتها عن توفير الاستقرار لدافعي الضرائب. بجملة مقتضبة يمكن القول إن هناك من تعوّد وعشق الاستيطان والخصخصة فجمعهما هنا معًا، في ذروة من اليمينية السياسية والاجتماعية- الاقتصادية.

نصّت الصيغة التي تم إقرارها الأخير في الكنيست بكل مراحل التشريع على ما يلي: "لا يتحمّل الشخص مسؤولية جنائية عن فعل كان مطلوبًا بشكل فوري لغرض صد من يقتحم بيتًا، مصلحة تجارية أو مزرعة مسوّرة (...) بملكيته أو بملكية شخص سواه، بقصد تنفيذ مخالفة، أو من يحاول الدخول أو الاقتحام كالمذكور".

وماذا كان مصير درومي؟

في مطلع أيلول 2009 أعلنت النيابة العامة الإسرائيلية، عن التوصل إلى "صفقة ادعاء" مع القاتل، تقضي بتأديته 'خدمات للجمهور' لمدة ستة شهور، وكانت تهمته: حيازة سلاح غير مرخص. رئيس المحكمة كتب في قراره أن تبرئة درومي سببها الشكوك، بادعاء أنه كان اشتكى من اقتحام مزرعته في السابق، وأطلق النار عندما أحس أن حياته في خطر.

أحد المبادرين للقانون، الذي صار وزيرًا لاحقا، اعتبر تشريع القانون "يومًا تاريخيًا" وتغنّى زميل له به بمفردات عالية: "إنه قانون مشروع، أخلاقي وقيمي". هكذا ينظر متشددو السياسة الإسرائيلية إلى قانون يستعيد أمجاد الغرب المتوحش ويكرّسها ناظمًا إياها في تشريعات.

أما حركة "السلام الآن" فرأت على لسان مديرها العام حينذاك: ليس من العجب أن من بادر إلى "قانون درومي" وقدمه هم أعضاء كنيست من اليمين المتطرف، ليس أعظم ما يهمهم موضوعات مثل حقوق المواطن وقيمة حياة ال‘نسان. "قانون درومي" خطر وغير أخلاقي، سيفضي إلى تصعيد العنف في المجتمع الإسرائيلي ويدوس الحق الأساس في الحياة. بدلا من مواجهة مشكلات عدم المساواة، والفقر والجريمة وعدم فرض القانون، على نحو جدي وأساس، اختارت الكنيست رفع يديها وجعل إسرائيل نسخة حديثة من الغرب المتوحش (حزيران 2008).

"منطق عصابة وليس منطق دولة"!

النواب العرب في الكنيست حينذاك أجمعوا على وصف القانون السالف بقانون الغاب الذي يهدر دم العرب، بمنطق العصابة وليس منطق الدولة، وجاء خصيصًا لاستهداف العرب.

وبالفعل، فمن فهم جيدًا "الفرص" التي يتضمنها القانون كانوا زعماء المستوطنين. وأولئك المستعمرون منهم في احياء القدس العربية المحتلة، طالبوا في أيلول 2011، بتفعيل قانون "درومي" في نواحيهم، لإطلاق النار وقتل المتظاهرين أمام قلاعهم - الممتلكات التي سلبوها وأقاموا فيها بؤرا استيطانية.

وفي نيسان 2013 طلبت نائبة عن حزب المستوطنين (البيت اليهودي) من لجنة القانون والدستور البرلمانية أن تجيز توسيع تطبيق "قانون درومي" ليشمل المستوطنات في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967. ومعناه المباشر إعطاء المستوطنين فرصًا أكبر لقتل الفلسطينيين تحت يافطة منح المواطنين الحق بـ "الدفاع عن أنفسهم".

ويبدو أنه حتى جيش الاحتلال والبطش نفسه قد أدرك خطورة منح هذا السلاح للمستوطنين. ففي كانون الثاني 2016، وقّع الجنرال نيتسان ألون، القائد العسكري السابق لـ"المنطقة الوسطى" في جيش الاحتلال الإسرائيلي، على قانون ينص على تطبيق القوانين الإسرائيلية على الضفة الغربية، "حتى لا يكون هناك تمييز بين المستوطنين وبين بقية الإسرائيليين" وفقًا لمنطق الاحتلال. وتضمن ذلك فرض القانون الجنائي الإسرائيلي على الفلسطينيين الذين تجري محاكمتهم في الأراضي المحتلة، لكنه وضع استثناء واضحا: ما عدا "قانون درومي"! لقد رأت المؤسسة العسكرية "المولود" لمعرفتها العميقة بأهله، المستوطنين، في حال تم منحهم هدية الاعفاء من القتل بذريعة "صد من يقتحم بقصد تنفيذ مخالفة"، وفقًا لنص القانون.

الكاتب حسن البطل كان قال تحت عنوان "إسرائيل المأخوذة بهوس الجدران" (تشرين الثاني 2013): لقد بدأ الاستيطان اليهودي في فلسطين بعقلية "سور وبرج" وحتى بعد أن صار لإسرائيل أقوى جيش، فلا تزال العقلية هي إياها! نحن نقول بدولة مجردة وبلاد بلا جدران وأسوار، وهم يقولون بدولة مسلحة حتى أسنانها، ومحمية ومسوّرة بالجدران؟.. ها، تذكرت أن إيهود باراك وصف (إسرائيل) "فيللا في غابة"؟!

فقد كرر رئيس حكومة إسرائيل السابق المذكور استعارته الكولونيالية عن دولته كـ"فيللا في غابة"، كموقع يحمي نفسه من وحوش وبالتالي يحق له إشهار البنادق والضغط على زنادها وإرداء من يشاء. أليس هذا ما كان يتقنه أوباش الغرب المتوحّش؟ ثم من قال إن الفيللات كناية عن الأخلاقيات؟ غالبًا، العكس هو الصحيح. هذا بالرغم من إلصاق تهمة التوحش بمعازل الفقر التي سيخرج منها بالضرورة مَن يَسرق من مستوطنات وبلدات السادة ميسورة الحال.

ملاحظة أخيرة: مستوطنة "بيت إلعازاري" التي كانت مسرحًا لجريمة القتل المنظّفة بقانون درومي، أقيمت على أنقاض قرية عقور الفلسطينية المهجرة. أرادوا تسميتها "عراجوت" في البداية لكن مستوطنة أخرى سبقتهم إلى الاسم. ثم أسموها "عكير هحدشاه" (الجديدة). ولكن في العام 1952 عادوا وأسموها باسمها الحالي. غير أن الاسم القديم واصل مرافقتها، كما تخيّم أصابع الجريمة على مسرحها، إلى ان أمرت لجنة التسميات الرسمية بوقف استخدام اسمها العربي. بل ونشرت إعلانات رسمية بهذا الخصوص في كانون الثاني 1957. ولكن للتاريخ منطقه. فبعد نحو ستين عامًا، وبرغم قلب التسميات، سيظلّ الموقع بحاجة إلى سن تشريعات من معاجم قانون الغاب والغرب المتوحّش حتى "يبرّر" موبقاته التي لا يزال مشروع "السور والبرج" القديم يلطّخ بها الحاضر.

المصطلحات المستخدمة:

تلم, محكمة ميدانية, الكنيست, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات