المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نشرت منظمة "يـِش دين" الحقوقية الإسرائيلية، في نهاية شهر أيلول الأخير، تقريرا بعنوان "أساليب الاستيلاء على أراضٍ في الضفة الغربية" استعرضت فيه وحللت جملة من الطرق والأساليب التي تتبعها سلطات الاحتلال الإسرائيلي المختلفة للاستيلاء على أراض فلسطينية في الضفة الغربية. كما يعرض التقرير، الذي وصفته المنظمة بأنه "ورقة موقف"، الإجراءات القانونية المختلفة التي اتخذها مواطنون فلسطينيون (بمساعدة وتمثيل "يش دين") ضد نهب أراضيهم ونتائج تلك الإجراءات.

ومن خلال العرض التفصيلي لهذه الإجراءات القانونية ونتائجها، سواء أمام المحاكم أو أمام اللجان المختلفة التابعة لجهاز "الإدارة المدنية"، تتشكل صورة شاملة عن الأساليب والحِيَل التي تلجأ إليها السلطات الإسرائيلية المختلفة بغية زيادة الاحتياطي من مساحات الأراضي المخصصة لخدمة المصالح الإسرائيلية في الضفة الغربية.

ونظراً لأنّ القانون الدولي يحظر استغلال الأراضي المحتلّة لحاجات قوات الاحتلال، تلجأ إسرائيل، مدفوعة بعزمها على مواصلة الاستيلاء على الأراضي لصالح مشاريعها الاستيطانية، إلى "حركات بهلوانية قانونية" في الظاهر أو أنها تنتهك القانون بشكل سافر، في ظلّ تغاضي الهيئات المؤتمنة على تطبيق القانون عن هذه الانتهاكات.

وقد شكّلت الإجراءات القانونية التي قادتها "يش دين" (منظمة متطوعين لحقوق الإنسان) وجِهات أخرى تحدّيًا لسلطات الاحتلال، وخاصّةً في كل ما يتعلّق بالبؤر الاستيطانية "غير الشرعية" في المناطق المحتلة. وتحت ضغط هذه الإجراءات وغيرها، اضطرت إسرائيل إلى إعادة صياغة سياستها بالنسبة للبناء غير القانوني في الضفة، ثم الكشف عن موقفها وسياستها في هذا المجال. وهكذا، فبعد سنوات طويلة ادّعت إسرائيل خلالها بـ"ضرورة إزالة أي بناء غير قانوني" (في المستوطنات)، بقطع النظر عن الوضعية القانونية للأرض التي أُنشئ عليها، شهد هذا الموقف تحولا واضحا خلال السنوات الأخيرة ليصبح الموقف الرسمي والصريح هو "ضرورة إخلاء البناء غير القانوني" المقام على أراض فلسطينية خاصة، مقابل شرعنة البناء (غير القانوني!) المقام على "أراض عامة"، بأثر رجعي!

نتيجة للموقف الرسمي الجديد هذا، تمّ التوقف كلّيا، تقريبًا، عن "البناء غير القانوني" على أراض فلسطينية خاصة خلال السنوات الأخيرة، ولكن يُلاحَظ في الفترة الأخيرة توجّه واضح نحو الإعلان الرسمي عن أراضٍ في الضفة الغربية بوصفها "أراضي عامة"، أو ما يُصطلح على تسميته "أراضي دولة". وبالرغم من أن "أراضي الدولة" يفترض أن تُخصص لخدمة السكان المحليين في المناطق المحتلة، إلا أن "الإدارة المدنية" تقوم، فعليا، بوضع هذه الأراضي تحت تصرف المستوطنين ولصالح المستوطنات، فقط.

لتحقيق هذه السياسة الجديدة، تمّ تجنيد مختلف الهيئات والأجهزة التابعة لسلطات الدولة و"الإدارة المدنية" لصالح منتهكي القانون ودعماً لهم، وسعيًا لإيجاد حلول إدارية وإجرائية تتيح شرعنة المباني أو البؤر الاستيطانية، بدلاً من تأدية واجبها والقيام بمسؤوليتها في تطبيق القانون وحماية ممتلكات المدنيين سكان المناطق المحتلة، وفق ما يمليه القانون الدولي وقرارات "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية.

يتوزع التقرير، الذي يمتد على 32 صفحة، على ثلاثة أبواب هي: أ. الخلفية؛ ب. معطيات عن السنوات من 2006 حتى 2016؛ ت. تلخيص.

في الباب الثاني (المعطيات)، يعرض التقرير تفاصيل الإجراءات القانونية التي اتخذها مواطنون فلسطينيون من الضفة الغربية ضد نهب أراضيهم والاستيلاء عليها، وذلك بمساعدة حقوقيي منظمة "يش دين"، كما يعرض نتائج تلك الإجراءات، رسميا وعلى أرض الواقع.

ويفيد التقرير بأنه خلال العقد الأخير، منذ سنة 2006 وحتى اليوم (نهاية أيلول 2016)، قامت منظمة "يش دين" بتمثيل مواطنين فلسطينيين في 64 إجراء قانونيا في هيئات قضائية أو إدارية إسرائيلية مختلفة، من بينها: 51 التماساً إلى "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية؛ 6 استئنافات أمام "لجنة الاستئنافات في عوفر"؛ 3 اعتراضات أمام اللجان الفرعية التابعة لـ"المجلس الأعلى للتخطيط" في "الإدارة المدنية"؛ 4 دعاوى قضائية في محاكم الصلح الإسرائيلية.

ويؤكد التقرير أن جميع هذه الإجراءات القانونية، أمام هيئات قضائية أو شبه قضائية مختلفة، جاءت بعد أن بقيت توجهات المواطنين الفلسطينيين المباشرة والمتكررة دون أي رد شاف ودون إيجاد حل يضمن حقوقهم ويحمي مصالحهم في أعقاب عمليات نهب متكررة تم الاستيلاء خلالها على مساحات واسعة من الأراضي التي تعود ملكيتها الخاصة لهم. ويلفت التقرير إلى أن 18 إجراء من هذه لا تزال قيد النظر ولم يتم الحسم فيها حتى الآن.

وتؤكد منظمة "يش دين" أن تقريرها هذا لا يروم ـ ولا يستطيع ـ الإحاطة بكل الأساليب التي تعتمدها إسرائيل لإقصاء الفلسطينيين عن أراضي الضفة الغربية، لكن عقداً من النشاط القضائي المتواصل يجعله كافيا لإلقاء ضوء كاشف على التشكيلة الواسعة من الوسائل التي يتم استخدامها لهذا الغرض وعلى مدى تورط السلطات الحكومية والرسمية المختلفة في هذه العملية.

مساحات من الأراضي أوسع بكثير جدا من المسجلة رسمياً!

يشكل الصراع على الأرض والسيطرة عليها أحد الجوانب المركزية والأكثر أهمية في منظومة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية. ويدور هذا الصراع، بصورة أساسية، في منطقة ج الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية ويتجسد، ضمن أشياء أخرى، في ازدهار المشروع الاستيطاني الذي أطلقته إسرائيل في هذه المناطق، فور احتلالها. وهذا، على الرغم من نصوص وأحكام القانون الدولي الإنساني التي تحظر إقامة أية "بلدات" إسرائيلية (مستوطنات أو "بؤر") في الأراضي المحتلة.

وتشير المعطيات الرسمية إلى أن في مناطق الضفة الغربية المختلفة اليوم 24 سلطة محلية، سواء كانت "مجالس محلية" أو "مجالس إقليمية"، مسؤولة عن 126 مستوطنة يقطن فيها 9ر385 ألف مستوطن إسرائيلي (حسب "كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي للعام 2016"، الصادر عن المكتب المركزي للإحصاء مؤخرا. غير أن هذه الأرقام لا تشمل 12 "حياً" يهوديا في القدس الشرقية المحتلة، إذ تعتبر هذه الأحياء أيضا مستوطنات).

وكانت عملية البناء الاستيطاني الرسمية والعلنية قد شهدت تراجعا كبيرا، بل ركودا، في سنوات التسعين الأولى من القرن الفائت، وذلك في أعقاب ضغوط وتعهدات سياسية دولية مختلفة. لكن، تم التعويض عن ذلك ـ ولمنع تجميد البناء الاستيطاني تماما ـ بإنشاء "مستوطنات "غير قانونية" (أي بدون قرارات ومخططات حكومية إسرائيلية رسمية، رغم الدعم والتمويل المكشوفين من جانب مؤسسات وهيئات "عامة" مختلفة). وقد أطلق على هذه المستوطنات صفة "البؤر غير القانونية"، لتمييزها عن المستوطنات الأخرى ("الشرعية"!)، وبلغ عددها حتى الآن نحو 100 "بؤرة" كلها في مناطق ج ويسكن فيها بالمجموع، طبقا للتقديرات، نحو 10 آلاف مستوطن إسرائيلي. 80 من هذه "البؤر" أقيمت، جزئيا أو بالكامل، على أراض فلسطينية خاصة (تعود ملكيتها لمواطنين فلسطينيين)، بينما تم تخصيص "مناطق نفوذ" واسعة جدا، نسبيا، للعديد من المستوطنات، أكثر بكثير من المساحات التي تستغلها فعليا. وقد بلغ إجمالي مساحة "مناطق نفوذ" المستوطنات، بما في ذلك "المجالس الإقليمية"، في العام 2013، نحو 2ر1 مليون دونم، تشكل 63% من المساحة الإجمالية في منطقة ج. ويُضاف إلى "مناطق النفوذ" هذه، المقرّة رسميا، المساحات التي تقوم عليها "البؤر" الاستيطانية غير المشمولة، بغالبيتها، في نطاق المجالس الإقليمية وأراضيها الزراعية، ما يعني في نهاية المطاف أن المستوطنات تستولي، فعليا وعمليا، على مساحات أوسع بكثير جدا من تلك المسجلة رسميا. كما يُضاف إلى هذا، أيضا، ما تلتهمه من الأراضي شبكة الشوارع والطرق المؤدية إلى هذه المستوطنات ومنها، علاوة على ما وُضع تحت تصرف العديد من هذه المستوطنات وبملكيتها من "أراض زراعية"، "مناطق صناعية وتجارية"، "مناطق خضراء ومتنزهات"!

والمعروف أن جميع هذه المساحات من الأراضي هي مناطق مغلقة أمام الفلسطينيين لا يستطيعون الدخول إليها، نظرا لإعلانها "مناطق عسكرية مغلقة".

المعركة المستقبلية: ضد البناء على "أراضٍ عامة"!

صحيح أن شرعنة البناء "غير القانوني" في البؤر الاستيطانية "غير الشرعية" بأثر رجعي يرمي إلى إنقاذ إسرائيل من الورطة القضائية الداخلية الناشئة عن أعمال البناء هذه، لكنها لا تحل ـ ولا تمنع ـ معضلة نهب الأراضي الفلسطينية التي هيأت الأرضية المناسبة لأعمال البناء هذه، أصلا. وقد تكشفت هذه الحقيقة، أيضا، من خلال الجواب الرسمي الذي قدمته الدولة ردا على التماس قُدم إلى المحكمة العليا الإسرائيلية في العام 2007.

وتثبت هذه الحيثيات والإجراءات مدى تورط الأجهزة السلطوية الرسمية كلها، بما فيها جهاز "الإدارة المدنية"، في عملية النهب والسلب "غير القانونية" هذه، كما تثبت مدى التفضيل الواضح لدى الأجهزة السلطوية المختلفة للوقوف في صف منتهكي القانون وإلى جانبهم، ثم السعي إلى إيجاد حلول، إدارية وإجرائية، تتيح شرعنة المباني أو "البؤر" الاستيطانية "غير القانونية" بأثر رجعي، بدلا من القيام بواجباتها ومسؤولياتها القانونية في فرض القانون وتطبيقه. والحقيقة الواضحة هي أنه رغم بعض الإنجازات العينية والجزئية في تغيير أو تأجيل إجراءات الشرعنة بأثر رجعي، إلا أن الدولة "تنجح" في نهاية المطاف، في الغالبية الساحقة من الحالات، في إيجاد حلول "قانونية" (!) تسمح بتنظيم البناء وشرعنته، وخاصة في "مواقع ذات أهمية استراتيجية، من وجهة نظرها"!

أما التغييرات التي استطاعت الإجراءات القضائية التي اتخذها المواطنون الفلسطينيون، بمساعدة "يش دين" ومنظمات وهيئات أخرى، إحداثها فمن شأنها أن تنقل المعركة القضائية المستقبلية إلى مواجهة أعمال البناء على ما يسمى "أراضي عامة" ("أراضي جمهور"). ذلك أن الجزء الأكبر من أعمال البناء الاستيطاني اليوم يجري على "أراضي جمهور" أو "أراض للمسح" (وهي أراض تخضع لعملية إعادة فحص ترمي إلى تحديد مكانتها القانونية وفحص إمكانية إعلانها "أراضي دولة"). ولهذا الغرض، تعمل الدولة كل ما في وسعها، كل الوقت، من أجل زيادة الاحتياطي من هذه الأراضي، علما بأن نهج الإعلان عن مساحات من الأراضي بوصفها "أراضي عامة" قد استؤنف وتكرس بصورة لافتة خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك بواسطة طاقم خاص تابع لـ"الإدارة المدنية" يدعى "طاقم الخط الأزرق"، الذي يقوم أيضا بإعادة النظر في قرارات سابقة (بشأن تصنيف أراض) وتعديلها، حسب الحاجة! وفي الغالبية الساحقة من هذه الحالات، يتم الإعلان عن "أراض عامة" باثر رجعي، وخاصة بالنسبة للأراضي التي تقوم فيها أبنية "غير قانونية" ترغب الدولة في "تبييضها" وشرعنتها.

وينطلق السعي إلى زيادة وتوسيع احتياطي "الأراضي العامة" من فرضية أساس تقول بأن "الأراضي العامة" هي أراض مُعدة للاستيطان اليهودي، أساسا وفقط لا غير. فرغم أن هذه الأراضي ("الأراضي العامة") مُعدة، أو يُفترض أن تكون مُعدة، بطبيعتها، لخدمة السكان المحليين في المنطقة الخاضعة للاحتلال، إلا أن جهاز "الإدارة المدنية" يخصص هذه الأراضي، كلها، لصالح اليهود وللأغراض الاستيطانية، فقط. وتبيّن معطيات قدمتها "الإدارة المدنية" إلى "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل" وجمعيات أخرى في العام 2013 أنه منذ العام 1967، تم تخصيص ما نسبته 7ر0% فقط من "الأراضي العامة" في منطقة ج لجهات فلسطينية.

وفي التلخيص، يؤكد تقرير "يش دين" أن النضال القضائي ضد محاولات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية يصطدم بسياسة مُراوغة ودينامية متحركة من جانب إسرائيل، بمختلف أذرعها وسلطاتها، إذ تستخدم القانون كأداة مرنة خاضعة لتفسيرات وتأويلات مختلفة وللتطبيق الانتقائي. ويبدو أنه كلما تم إغلاق باب ما، تظهر المناورة القضائية الرسمية المناسبة التي تتيح الاستيلاء على الأراضي، من باب آخر. وتؤكد تجربة عقد كامل من الإجراءات القانونية في الدفاع عن حقوق الملكية للفلسطينيين أنه بالإمكان تحقيق بعض الإنجازات، ولو عينيا وجزئيا، لكنها تكشف، أيضا وفي المقابل، مدى استعداد إسرائيل للمضي قدما في تعميق وتثبيت سيطرتها على المناطق التي احتلتها قبل خمسين عاما.

المصطلحات المستخدمة:

الإدارة المدنية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات