المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تقف حركة "ميرتس" في الآونة الأخيرة أمام السؤال المصيري: استمرار وجودها في الكنيست، باجتياز نسبة الحسم في الانتخابات المقبلة. فعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي العام تتنبأ بأنها ستزيد قوتها من خمسة إلى ستة مقاعد، إلا أن هذا ليس مؤشر اطمئنان لهذه الحركة، التي قامت

في العام 1992 بواسطة تحالف ثلاثة أحزاب انصهرت لاحقا وباتت حزبا واحدا. فهذه الحركة ذات الخطاب الأكثر جرأة، نسبيا، مقارنة بالأحزاب الصهيونية، تواجه احتمال عدم تجاوز نسبة الحسم، والذي خلقته الاصطفافات الحزبية داخل جمهور الناخبين المحسوب على ما يسمى بـ "اليسار الصهيوني"، ولكن ليس فقط.

تشكلت حركة "ميرتس" قبل انتخابات 1992، بتحالف حزبين أساسيين فيها: حزب "مبام" التاريخي، الذي تشكل منذ العام 1948، وحركة "راتس" التي تشكلت في منتصف سنوات السبعين، بانشقاق المحامية شولميت ألوني عن حزب "العمل". والاطار الثالث هو حركة "شينوي"، التي تحالفت سياسيا مع هذين الاطارين، رغم توجهاتها الاقتصادية الصقرية. وحينها حققت "ميرتس" 12 مقعدا، بإضافة مقعدين لما كان للكتل الثلاث مجتمعة، قبل تلك الانتخابات.

ولكن هذه النتيجة كانت الأكبر التي حققتها الحركة، ثم ضعفت قليلا في سنوات التسعين. وبعد العام ألفين بدأت تتراجع بوتيرة أعلى، ووصلت إلى أدنى نتيجة لها، 3 مقاعد في انتخابات 2009، حينما كان يرأس "ميرتس" الوزير الأسبق حاييم أورون، والذي اعتزل بعد عامين من تلك الانتخابات، ولتعود إلى الكنيست مكانه رئيسة الحركة الحالية زهافا غالئون، وهي من أبرز قادة الحركة الذين يتمسكون بالخطاب السياسي والاجتماعي، الأكثر جرأة في "ميرتس".

ونجحت قيادة غالئون في انتخابات 2013 بمضاعفة عدد المقاعد لتقفز إلى 6 مقاعد، والمقعد الأخير تحقق باتفاقية فائض أصوات. ولكن في انتخابات 2015، بدا وكأن "ميرتس" تواجه مأزقا، بالأساس بسبب تحالف "المعسكر الصهيوني"، الذي جمع حزب "العمل" وحزب "الحركة" بزعامة تسيبي ليفني، ولكن "ميرتس" حصلت في نهاية المطاف على خمسة مقاعد، بتراجع طفيف من حيث النسبة، وهذا انعكس بمقعد كامل.

وتتميز حركة "ميرتس"، وكتلتها في الكنيست، بأنها حاضرة على الدوام ميدانيا وبرلمانيا، بمعنى أنها ليست حركة انتخابات، وهي على اتصال دائم بالشارع. وبالامكان القول إن نوابها رأس حربة في النشاط البرلماني المعارض. وهذا كان من المفروض أن يضمن قوة متزايدة للحركة في كل انتخابات، للجمهور الذي يعارض سياسات الحكومة. ولكن في منطق الساحة الإسرائيلية فإن النتيجة عكسية، بمعنى أن "ميرتس" تواجه احتمال عدم اجتياز نسبة الحسم، التي ارتفعت في الانتخابات الأخيرة (2015) إلى 25ر3% باستهداف الكتل الناشطة في الشارع العربي، ولكنها أيضا شكلت تهديدا للأحزاب الصهيونية الصغيرة، مثل حزب "الحركة"، ما دفع رئيسة الحزب ومؤسسته تسيبي ليفني، لتسرع مهرولة إلى أحضان حزب "العمل".

وبالامكان وضع مأزق حركة "ميرتس" في بندين مركزيين: الخطاب السياسي والاجتماعي، والاصطفافات الانتخابية في كل واحدة من الانتخابات البرلمانية الأخيرة.

الخطاب

تتبنى حركة "ميرتس" أكثر المواقف "يسارية" في الحركة الصهيونية، على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب تأكيدها على أنها جزء من الحركة الصهيونية تاريخيا، بكل ما تحمله الصهيونية من أسس فكرية.

فعلى المستوى السياسي، تؤيد "ميرتس" حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، واقامة دولته المستقلة على حدود 1967، مع تبادل أراض للحفاظ على الكتل الاستيطانية الكبرى، ولكنها تعارض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، بمن فيهم اللاجئون في وطنهم. وكانت قد أيدت قبل سنوات "عودة رمزية" للاجئين، كما ظهر اعلاميا في مفاوضات كامب ديفيد في العام 2000، وأيضا إبان المحادثات في فترة حكومة إيهود أولمرت.

وتعارض "ميرتس" المشاريع الاستيطانية، بما فيها القدس المحتلة، وتدعو إلى استئناف وانهاء المفاوضات. ولكن في المقابل، فإن "ميرتس" تتلكأ في التعبير عن موقفها الرافض للحروب التي تشنها إسرائيل، مثل العدوان المتكرر على قطاع غزة، والحرب على لبنان، إذ جاءت مواقفها متأخرة بعض الشيء، ولاحقا كانت تطالب بوقف كل واحدة من هذه الحروب، بموازاة كيل اتهامات للجانب الضحية، في الشعبين الفلسطيني واللبناني.

ورغم ما في هذا الخطاب من نواقص برؤية فلسطينية وعربية، ورغم تمسك "ميرتس" بأنها جزء من الحركة الصهيونية، إلا أن هذا الخطاب يُعد الأكثر جرأة من بين الأحزاب الصهيونية، ما يردع جمهورا من المؤيدين من حيث المبدأ لحل الدولتين، عن تأييد حركة "ميرتس"، خاصة في ظل تنامي الأجواء اليمينية المتطرفة والخطاب العنصري في الشارع الإسرائيلي.

كذلك الأمر في ما يتعلق بالخطاب الاجتماعي، فحركة "ميرتس" تُعد العنوان الأكبر لجمهور مثليي الجنس الإسرائيلي، الذي معقله الأكبر في منطقة تل أبيب الكبرى، وهذا جمهور واسع إن كان ممن هم مثليو الجنس، أو من المؤيدين لمبدأ عدم إقصائهم عن المجتمع بسبب ميولهم الجنسية. وهذا ما جعل حتى أحزابا يمينية متطرفة تتقرب لهذا الجمهور، مثل حزب "الليكود"، الذي انضم إلى كتلته البرلمانية في الأسابيع الأخيرة النائب أمير أوحانا، وهو مثلي الجنس مُعلن، وأقام طاقما خاصا لمثليي الجنس في حزب الليكود في السنوات الأخيرة. ولكن بطبيعة الحال، فإن "الليكود" لا يساند مطالب مثليي الجنس الاجتماعية، بخلاف حركة "ميرتس" التي تبادر في كل واحدة من الولايات البرلمانية لطرح سلسلة من مشاريع القوانين، التي تحظر التمييز ضد مواطنين على خلفية ميولهم الجنسية، اضافة إلى مشاريع للاعتراف بـ "الحياة الزوجية" لمثليي الجنس.

وهذا الجانب من خطاب "ميرتس" الاجتماعي، يردع جمهورا ذا توجهات سياسية قريبة من "ميرتس"، ولكنه يُعد محافظا نوعا ما، عن دعم هذه الحركة في الانتخابات. وحينما نتحدث عن حركة صغيرة، تحصل في كل واحدة من الانتخابات الأخيرة على ما بين 90 ألفا إلى 166 ألف صوت، فإن كل تنقل صغير نسبيا للجمهور، من بضعة آلاف، من شأنه أن يحسم مصير "ميرتس" واستمرار حضورها البرلماني.

أما خطاب "ميرتس" الاقتصادي، فهو مقبول على جمهور واسع في الشارع الإسرائيلي، وهو الأكثر يسارية، نسبيا من جميع الأحزاب الصهيونية، ويتمسك إلى حد كبير بمواقف "الاشتراكية الديمقراطية".

لكن الجمهور المؤيد لهذه المواقف، يحكم موقفه من "ميرتس" بناء على المواقف الأخرى، منها السابق ذكرها هنا.

ويضاف إلى هذا، أن "ميرتس" مؤيدة ومدافعة عن حقوق الانسان، وهي تعارض بثبات جميع القوانين العنصرية التي تطرح وتقر في الكنيست على مر السنين، إن كانت تلك الموجهة ضد فلسطينيي 48، أو ضد الجمهور الفلسطيني في الضفة والقدس والقطاع، وهذا يساهم في تضييق المساحة التي تتحرك فيها "ميرتس" في الشارع الإسرائيلي.

الاصطفافات

قبل استعراض الاصطفافات التي تؤثر على "ميرتس" وتلجم قوتها في كل واحدة من الانتخابات البرلمانية، من المهم الالتفات إلى أن "ميرتس" في نظر الناخب الإسرائيلي، حتى المؤيد لخطوطها العريضة، تبقى حركة صغيرة لا تنافس على الحكم. وهذه النظرة تلعب دورا حاسما في قرار جمهور الناخبين المعني بعودة أحزاب الند لليمين الأشد تطرفا، إلى سدة الحكم، كحزب كحاكم وليس متحالفا في حكومة يقودها "الليكود". ولهذا فإنه في نظر جمهور واسع مؤيد لتوجهات "ميرتس"، دعم حزب أكبر يبدو وكأنه في ذات المعسكر أفضل من دعم حزب صغير معروف مسبقا أنه سيبقى في صفوف المعارضة.

من ناحية أخرى، فإن أي تحالف انتخابي بين حزب "العمل" وحركة "ميرتس"، سيؤدي إلى نتيجة عكسية، بمعنى أنه ليس ضامنا للحفاظ على القوة البرلمانية القائمة، لأن هذا سيبعد جمهورا من ناخبي الحزبي، كل لأسبابه، وبالأساس التحفظ من بعض مواقف الحزب الآخر.

وفي المقابل فإن قوة "ميرتس" الانتخابية تأثرت في كل واحدة من الانتخابات الأخيرة، من الاصطفافات الانتخابية أو من احتدام المنافسة بين "معسكرين"، إما بلجم قوتها، أو حتى اضعافها. والمثال الأخير على هذا، هو تحالف "المعسكر الصهيوني" بين حزبي "العمل" و"الحركة"، وما رافقه من استطلاعات رأي، أوهمت جمهورا من الناخبين، بأن هذا التحالف قد يرأس الحكومة المقبلة. وبرز لجم قوة "ميرتس" بالذات في معقل هذه الحركة الأكبر، منطقة تل أبيب الكبرى، ومدن متميزة بعلمانيتها، مثل حيفا وغيرها.

كذلك تأثرت الحركة في انتخابات 2013 بظهور حزب "يش عتيد (يوجد مستقبل)"، الذي خاض الانتخابات يومها ملوحا بشعارات حملة الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت قبل تلك الانتخابات بعامين، عام 2011، ولبضعة أسابيع، وخلق وهما بأنه عنوان حقيقي للجمهور العلماني ليعود إلى سدة الحكم. إلا أن هذا الحزب انقلب على الغالبية الساحقة من شعاراته في اليوم التالي للانتخابات، وخسر 40% من قوته في الانتخابات التالية، في ربيع 2015، ولكن "ميرتس" لم تستفد من هذه الخسارة.

أما في انتخابات 2009، التي دحرجت "ميرتس" إلى الحضيض الأشد، وجعلتها تواجه خطر اجتياز نسبة الحسم، حينما كانت 2%، فقد تداخلت أسباب داخلية للحزب، مع المشهد الانتخابي. فعلى الصعيد الداخلي، فإن رئاسة حاييم أورون، المتقدم بالسن، صاحب المواقف شبه المحافظة نسبيا لميرتس، أبعد جمهورا عن الحركة. وبموازاة ذلك دفعت "ميرتس" ثمن المنافسة الشديدة التي خاضها حزب "كديما" برئاسة تسيبي ليفني في حينه أمام حزب "الليكود"، إذ سعى "كديما" للبقاء في الحكم، في حين أن شخصية ليفني، مقبولة إلى حد كبير على ما يسمى بـ "جمهور الوسط"، وحتى صاحب الميول للتوجهات اليسارية. وفي تلك الانتخابات لم تدفع "ميرتس" وحدها الثمن، بل أيضا حزب "العمل" الذي تدهور بقيادة إيهود باراك إلى أشد حضيض برلماني له: 13 مقعدا.

الانتخابات المقبلة

كما يبدو، باتت حركة "ميرتس" تُعد حساباتها للانتخابات المقبلة، تحسبا لمداهمتها بشكل مفاجئ، رغم أنها حاليا لا تلوح في الأفق القريب، ولكن هناك انطباع سائد بأن هذا الائتلاف من الصعب عليه أن ينهي العام المقبل 2017.

وكما ذكر، فإن استطلاعات الرأي تمنح "ميرتس" مقعدا اضافيا، ما يعني ابعادها عن خطر عدم اجتياز نسبة الحسم. ولكن هذا ليس سببا للاطمئنان، لأن هذه الاستطلاعات لا يمكنها أن تعكس الوضعية الحقيقية في الانتخابات المقبلة. كما أن "ميرتس" تتخوف من اصطفاف أكبر، من اصطفاف "المعسكر الصهيوني" في وضعيته الحالية، أو أن تعلق الحركة بين فكي كماشة منافسة شديدة بين قائمتي "المعسكر الصهيوني" و"يوجد مستقبل". وهذا الحزب الأخير ما زال متماسكا وحتى أن استطلاعات الرأي تزيده قوة، يحصل عليها أساسا من تراجع قوة حزب "كولانو (كلنا)" استطلاعيا. وهذا مؤشر لموضوع آخر، هو اتساع حجم الأصوات العائمة في ما يسمى "جمهور الوسط".

وتتناثر الكثير من الأقاويل حول شكل خوض "ميرتس" للانتخابات المقبلة، مثل أن تنخرط في تحالف "المعسكر الصهيوني"، وهذا أمر صعب للغاية، ويسبّب خسائر في الأصوات للجانبين. ولكن من جهة أخرى، يجب الالتفات إلى أن حركة "ميرتس" تخسر سنويا آلاف الأصوات. ونستطيع التقدير بأن الحديث يجري عما يوازي مقعدا كاملا (أكثر من 30 الف صوت)، ولربما أكثر، من أصل الأصوات التي تتدحرج في كل واحدة من انتخابات السنوات العشرين الأخيرة تقريبا، لقائمة "عالي ياروك" (الورقة الخضراء)، وعلى رأس أجندة هذه القائمة تشريع استخدام الماريحوانا، اضافة إلى شؤون البيئة.

ففي كل واحدة من الانتخابات الأخيرة تجرف هذه القائمة ما بين 1% إلى 4ر1% من الأصوات، وهذا أبعد من نسبة الحسم السابقة (2%) والحالية (25ر3%). وفي الانتخابات الأخيرة التي جرت في ربيع 2015، حصلت هذه القائمة على ما يزيد عن 47 ألف صوت، بنسبة 2ر1%. وقد يستغرب كثيرون إذا عرفوا أن هذه القائمة حصلت على ما بين 4 آلاف إلى 5 آلاف صوت من مستوطنات الضفة المحتلة، وحتى من المستوطنات ذات الطابع الديني. إلا أن الغالبية الساحقة من جمهور هذه القائمة محسوبة على الجمهور العلماني، الأقرب إلى حركة "ميرتس"، وهذا الاستنتاج بالإمكان استخلاصه من حقيقة أن 30% من أصوات هذه القائمة جاءت من منطقتي تل أبيب وحيفا.

كذلك هناك قائمة "الخضر" التي تعنى بالبيئة فقط، وهذه القائمة التي هي أيضا تخوض كل واحدة من الانتخابات البرلمانية في السنوات الأخيرة، ضعفت كثيرا في آخر انتخابات وتدهورت إلى أقل من 3 آلاف صوت، رغم أنها كانت تحصل على أكثر من هذا بأضعاف، ولكن أبعد من نسبة الحسم، وهذا الجمهور أيضا بغالبيته كان سيتوجه إلى "ميرتس" لو لم تخض القائمة الانتخابات.

ولهذا فإن خيار اندماج هاتين القائمتين بحركة "ميرتس" كتحالف جديد وارد، برغم أن الرفض سيكون على الأغلب من قائمة "عاليه ياروك" التي تتخوف من أن برنامج "ميرتس" السياسي سيمنع تمددها، ولكن ضمان مقعد برلماني لها قد يغير حساباتها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات