المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

رافقت مصادقة الحكومة الإسرائيلية على مخطط إقامة خمس بلدات جديدة في النقب، في مطلع الأسبوع الماضي، خلافات جدية بين مؤيد ومعارض للمخطط. ولم يتطرق طرفا هذا الخلاف إلى المخطط الأصلي، "مخطط برافر" الذي تقرر تجميده قبل سنتين ويهدف إلى ترحيل العرب البدو عن قراهم الموجودة قبل تأسيس إسرائيل دون أن تعترف إسرائيل بها أبدا، وإنما تسعى إلى هدمها ومصادرة أراضيها البالغة مساحتها مئات آلاف الدونمات وإقامة بلدات يهودية صغيرة مكانها. والبلدات الخمس التي تمت المصادقة عل إقامتها تشكل مرحلة أولى في هذا المخطط.

ويدور الخلاف بين الإسرائيليين من مؤيدي ومعارضي المخطط الحالي حول ما إذا كانت إقامة البلدات الجديدة ستؤثر على أسعار البيوت، وهل هنالك منطق في إقامة بلدات جديدة بدلا من توسيع بلدات ومدن قائمة، وهل ثمة جدوى في رصد مبالغ كبيرة من أجل إعداد البنية التحتية للبلدات الجديدة، ومن هي الشريحة السكانية التي تحاول الحكومة نقلها إلى النقب. وقد جمع تقرير نُشر في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، يوم الجمعة الماضي، مواقف مؤيدي ومعارضي المخطط.

"كي لا يهرب الأولاد إلى تل أبيب"

أحد مؤيدي القرار الحكومي هو رئيس المجلس الإقليمي "ميرحافيم" في النقب، شاي حجاج، اعتبر أن إقامة البلدات الجديدة هو أمر ضروري. "الأفراد بحاجة إلى مكان يسكنون فيه، وهنا الحل العقلاني لمشكلة غلاء المعيشة. ومن يأتي إلى هنا بإمكانه شراء قطعة أرض بمبلغ 150 ألف شيكل، وباستثمار إجمالي يبلغ مليون شيكل ستكون لديه فيلا رائعة".

وأضاف حجاج أن "الحكومة استثمرت في السنوات الأخيرة في البنية التحتية هنا، ومهمتنا الآن هي إحضار أفراد إلى هنا. لقد انتهت قصة دولة تل أبيب. والآن بدأ عهد دولة النقب"، في إشارة إلى انتقال عدد كبير من سكان إسرائيل من وسط إسرائيل إلى النقب، في جنوبها.

وقال حجاج إنه توجد في منطقة مجلسه الإقليمي منطقة صناعية ("نوعام") وإنه يتوقع أن تبلغ مساحتها في المستقبل ثلاثة آلاف دونم، بينها 500 دونم تم بيعها لشركات، وإنه يوجد في هذه المنطقة الصناعية حاليا مصنع لمنتجات الألبان وسوبرماركت تابع لشبكة رامي ليفي ومصنع لتصنيع حاويات بلاستيكية، وهناك 26 مصنعا تنتظر الدخول إلى هذه المنطقة الصناعية وإن التقديرات تشير إلى أنها ستوفر عشرة آلاف مكان عمل جديد.

ورأى حجاج أن ثمة منطقا في إقامة البلدات الجديدة الصغيرة. "من يريد السكن في المدينة يسكن في المدينة، ومن يريد السكن في القرية (البلدات الصغيرة) يسكن في القرية. أنا كبرت في موشاف (قرية زراعية) ولا أرغب في السكن في مدينة. أنا أؤيد تكبير (مدينة) أوفاكيم، وسنبذل كل ما في وسعنا من أجل أن تتطور المدن القريبة منا، لكن يستحيل أن يسكن ابني في أوفاكيم. وإذا أردت أن يسكن أولادي في المنطقة، فعليّ أن أهتم بهم وباحتياطي الأراضي وبتوفير قطع أرض شاغرة للبناء. جميع الموشافيم استنفدت مساحة أراضيها بموجب تاما ـ 35 (الخارطة الهيكلية القطرية)، ولم يعد بالإمكان توسيعها. ولهذا، إن أردت ألا يهرب ابني إلى وسط البلاد، فإني ملزم بإقامة بلدة جديدة".

ويرى حجاج أن ثمة سببا آخر يحول دون إمكانية توسيع بلدات قائمة، وهو أن "البلدة التي يوجد فيها أكثر من 500 وحدة سكنية لم تعد بلدة ريفية وإنما بلدة بطابع مدينة. وهذا سيلحق ضررا بالمدن القريبة منا".

رغم المسوغات التي يطرحها حجاج وكثيرون غيره، إلا أن كثيرين يطرحون من الجهة الأخرى أسئلة حول جدوى إقامة البلدات الجديدة، خاصة وأن مسافة السفر بسيارة من إحدى هذه البلدات إلى مدينة أوفاكيم، على سبيل المثال، لا تستغرق أكثر من خمس دقائق فقط.

ويبلغ عدد سكان أوفاكيم اليوم 28 ألف نسمة، لكن يجري توسيعها في هذه الأثناء من خلال بناء 3500 وحدة سكنية في أحياء جديدة، ما يعني أنه يتوقع أن يرتفع عدد سكان المدينة بنسبة عشرات بالمائة. كذلك تجري أعمال بناء مكثفة في مدن أخرى في النقب، مثل نتيفوت وكريات غات ويروحام. ومن المقرر أن تفتتح محطة قطار في أوفاكيم بعد بضعة أسابيع، الأمر الذي سيسهل التنقل على من يسكن في هذه المدينة ويعمل في تل أبيب ومنطقتها. وتشير التقديرات أيضا إلى أن وصول سكة الحديد إلى أوفاكيم سيدفع كثيرين إلى الانتقال للسكن فيها، لأن تكلفة الحياة فيها أقل منها في وسط إسرائيل.

استثمار في تجارة الأراضي

مقاول البناء ايلي بن موحا لا يرى أن قرار إقامة البلدات الجديدة يحمل بشرى سارة. ويقول إن "إقامة البلدات الجديدة سيؤثر على البناء في أوفاكيم. فإقامة بلدة جديدة تأتي على حساب تقوية البلدة الموجودة. ومن خطط لشراء عقار في أوفاكيم، سيتراجع عن شرائه عندما يسمع أنهم سيقيمون خمس بلدات جديدة. وقبل أربع أو خمس سنوات كان ثمن قطعة الأرض هنا 270 ألف شيكل، بينما يبيعونها اليوم بـ 400 ـ 450 ألف شيكل. ونصف الأشخاص الذين اشتروا عقارات هنا فعلوا ذلك لغرض تجاري".

وأوضح بن موحا أنه ليس جميع الذين يشترون قطع الأرض للبناء هذه هم أشخاص ميسورو الحال. "إنهم يأخذون قروض إسكان كبيرة. وأي ساكن يأتي إليّ من أجل بناء بيت يأخذ قرضا بنسبة 80% من ثمن الأرض. الجميع يريد بيتا على قطعة أرض، وبدلا من شراء شقة جميلة في المدينة بمليون شيكل يبنون بيتا هنا بمليون و600 ألف شيكل. السبب ليس نقصا في البناء المتعدد الطوابق في أوفاكيم".

وفي أوفاكيم أيضا يجري جذب مستثمرين. ويقول صاحب مكتب وساطة العقارات، موشيه عطية، إن "ثلثي البيوت التي يجري إنشاؤها في أوفاكيم هي فيلات. والأرباح من تأجير الشقق للاستثمار تتراوح ما بين 6% و 8%. وارتفاع أسعار العقارات في السنوات الأخيرة يتراوح بين 12% - 15%. ويوجد هنا عدد كبير من المستثمرين الذين يؤجرون الشقق للسكان المحليين ويوجد طلب كبير".

وأضاف أن "ثمن فيللا بمساحة 100 متر مربع يبلغ 3ر1 مليون شيكل، بينما ثمن شقة مؤلفة من أربع غرف في حي قديم يبلغ 500 ألف شيكل. ومن يشتري البيوت الجديدة هم السكان القدامى الذين يريجون تحسين وضع سكنهم، بينما تنتقل الأزواج الشابة والعائلات إليها من أجل تحقيق حلم السكن في بيت خاص".

"البلدات الجديدة لن تقوي اقتصاد النقب"

يدور في هذه الأثناء صراع واسع النطاق حول صورة النقب والجليل بعد عدة عقود، على ضوء مخططات حكومية. وإلى جانب مخطط البلدات الخمس، هناك مخطط آخر لإقامة عشر بلدات، صادقت عليه الحكومة الإسرائيلية في العام 2011، وستُبنى في إطارها ثلاثة آلاف وحدة سكنية. كذلك هناك مخطط لإقامة بلدة "حيران" على أنقاض قرية أم الحيران البدوية، وهي أكبر القرى العربية غير المعترف بها في النقب. كما صادقت الحكومة على إقامة ثلاث بلدات أخرى، هي "كسيف" و"كرميت" و"شيزاف".

ويضاف إلى ذلك موجة توسيع كبرى للموشافيم والكيبوتسات جارية في السنوات الأخيرة. وصادقت اللجنة الفرعية للشؤون التخطيطية المبدئية، في بداية تشرين الثاني الفائت، على مخطط بناء 50 ألف وحدة سكنية جديدة في الموشافيم والكيبوتسات في أنحاء مختلفة من البلاد. لكن "ذي ماركر" أشارت إلى أن هذه الخطوات والقرارات لا تعني أن أعمال البناء ستنطلق في الفترة القريبة المقبلة وأنه في حالة البلدات الخمس الجديدة في النقب، معنى القرار أنه ستبدأ إجراءات قد تُلغى خلالها إقامة قسم من البلدات. لكن الاتجاه واضح.

فبعد سنوات طويلة لم تُقم خلالها بلدات جديدة داخل الخط الأخضر، يبدو أن السياسة الآن تتجه نحو إقامة بلدات الفيلات في الضواحي. وفي الوقت الذي اعتبر فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الأسبوع الماضي، أن هذه المخططات هي "بشرى لمواطني إسرائيل"، اعتبر خبراء تخطيط أن هذا الاتجاه ليس أقل من "كارثة" بالنسبة لإسرائيل.

والجانب الأول الإشكالي في هذه المخططات الحكومية، وفقا لمسؤول إسرائيلي ضالع في هذا النوع من البناء، يتعلق بتكاليفه المرتفعة التي يتعين على الدولة تكبدها. "في بلدة جديدة تشمل 100 وحدة سكنية تدفع الدولة 50 مليون شيكل على أعمال الحفريات وحدها. وهذا يعني أن التكلفة هي 500 ألف شيكل للوحدة السكنية الواحدة. ويضاف إلى ذلك تكاليف بمئات آلاف الشواقل على البنية التحتية الأخرى. وبطبيعة الحال، تنخفض هذه التكاليف عندما يزداد عدد الوحدات السكنية، لكن لا أحد يعرف ما إذا كانت هذه البلدات ستكبر ومتى".

وهناك معارضة لهذه المخططات داخل وزارة المالية الإسرائيلية أيضا. وعبر المسؤول عن مجال الإسكان في الوزارة، عيران نيتسان، عن معارضته لإقامة البلدات الجديدة، مشيرا إلى أن إقامتها ستمس بالبلدات الموجودة في النقب وستجذب منها الشريحة السكانية القوية من الناحية الاجتماعية – الاقتصادية. واستعرض نيتسان التكلفة المرتبطة بإقامة البلدات الجديدة، والمترتبة عن إقامة بنية تحتية جديدة، في مجالات الصرف الصحي والشوارع وشبكات الكهرباء وما إلى ذلك. ولفت إلى أن الأرض في إسرائيل هي مورد آخذ بالتناقص، واستخدامها من أجل إقامة بلدات الفيلات ليس ناجعا مقارنة بتوسيع بلدات أو مدن قائمة، وأن هذا الأمر سيلحق ضررا بسياسة الكثافة السكانية وتقليص احتياطي الأراضي للأجيال القادمة.

وتبين من بحث أجرته جمعية "ميرحاف"، التي تشجع على السكن في المدن، أن تكلفة بناء وحدات سكنية في بلدة جديدة تبلغ أربعة أضعاف البناء في بلدة قائمة. ويقول مدير عام الجمعية ومؤسسها، درور غرشون، إنه "يوجد في النقب 251 تجمعا سكنيا، 28 منها فقط هي مدن ويسكنها 84% من مجمل سكان النقب، بينما يسكن 16% من السكان في 223 بلدة صغيرة. فلماذا ينبغي إضافة بلدات أخرى؟".

وأشار غرشون إلى أن "المدن الثماني والعشرين القائمة ليست ناجحة من الناحية الاقتصادية. وإذا كانوا يريدون تقوية النقب، فينبغي تقوية المدن التي توفر الخدمات. فالدراسات تبين أنه عندما تكون المدن ضعيفة، يكون محيطها كله ضعيفا، وعندما تكون المدن قوية يكون محيطها قويا. وقد رأينا هذا يحدث في عدة أماكن في البلاد. مثلا، عندما ازدهرت مدينة نهريا بسبب الهجرة الإيجابية، ازدهرت معها البلدات المحيطة بها. وعندما عانت مدينة كريات شمونه من هجرة سلبية، ضعفت الكيبوتسات حولها. بضع عشرات من العائلات التي ستأتي للسكن في بلدة جديدة لن تؤدي إلى تطوير اقتصاد النقب وتقويته".

"مخطط لمصلحة الأقوياء"

يدور سجال منذ فترة طويلة حول البلدات الصغيرة التي تنتشر المئات منها في أنحاء إسرائيل، وازداد هذا السجال صخبا في أعقاب مصادقة الحكومة على مخطط البلدات الخمس الجديدة في النقب. وانعكس ذلك في أقوال المهندسة والناشطة البيئية أورنا أنجل: "هذا مخطط سيء، رغم أني من مؤسسي حزب موشيه كحلون ("كولانو"، برئاسة وزير المالية الإسرائيلي) وأومن بطهارة نواياه".

وأضافت أنجل أن "هذا المخطط يحقق بالضبط أجندة الحكومة الحالية، وهي أولا وقبل أي شيء آخر تفضيل الأقوياء على حساب الضعفاء. والأسوأ هو أن هذا يحدث في فترة كحلون. هذا المخطط لا يقوي النقب وإنما يضعفه، ويحول ميزانية ثمة حاجة كبيرة إليها في المدن القائمة إلى خارجها، وتمنح هذه الأموال إلى جهات جديدة تأتي إلى هذا المكان (أي البلدات الجديدة). والنتيجة هي جذب مجموعة سكانية قوية إلى البلدات الجديدة، بينما يستمر ضعف مدن النقب. وفي الوقت الذي يسود فيه اتجاه في العالم يتمثل في الانتقال من أماكن صغيرة يصعب كسب الرزق فيها إلى المدينة، نرى أن حكومة إسرائيل تتصرف وكأننا ما زلنا في سنوات السبعين. من يوطّن الصحاري في العالم اليوم؟ إسرائيل وحدها فقط تمول إنشاء خمس بلدات جديدة لبضعة نخبويين. وعدا ذلك، فإن الآثار البيئية المترتبة عن بلدات الأطراف تنعكس في تدمير الكثير من الحيز لخدمة مصلحة عدد قليل من الأشخاص. وهذا أكثر أمر غير بيئي يمكن فعله".

لكن مسؤولي وزارة البناء الإسرائيلية لا يرون تناقضا بين تقوية البلدات القائمة وإقامة البلدات الجديدة. واعتبر وزير البناء، يوآف غالانت، أن إقامة البلدات الجديدة في النقب تنبع من الحاجة إلى زيادة عرض الشقق في النقب تمهيدا لنقل قواعد الجيش الإسرائيلي إلى هذه المنطقة. وأضاف إن هذا المخطط يأتي في موازاة الاستثمار بمبالغ كبيرة في مدن النقب. وقال إنه جرى التوقيع خلال الشهر الماضي على اتفاق لبناء 20 ألف وحدة سكنية في بئر السبع و30 ألف وحدة في عسقلان.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات