المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
عسكريون أميركيون وألمان يقفون أمام شاشة تشغل برنامج Palantir، في مركز التنسيق المدني العسكري في كريات جات، في 12 تشرين الثاني، 2025. (الصورة عن المصدر)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 11
  • ياسر مناع

كشفت الكثير من التحقيقات الاستقصائية أن الجيش الإسرائيلي اعتمد خلال حرب الإبادة في قطاع غزة على منظومة متكاملة من تقنيات الذكاء الاصطناعي طوّرتها شركات تكنولوجية عالمية مثل مايكروسوفت وغوغل وأمازون. صار الذكاء الاصطناعي عنصراً محورياً في إدارة العمليات، يُستخدم لتحديد الأهداف، وتصنيف السكان، ومعالجة المعلومات الميدانية بشكل فوري. وترى التحقيقات أن هذه الشركات تجاوزت دور المزود التقني لتصبح شريكاً فاعلاً في بلورة قرارات الاستهداف والإدارة العملياتية.

تتناول هذه المساهمة تحقيقاً استقصائياً بعنوان "شركات المراقبة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تتسابق للاستحواذ على نصيبها من غنائم غزة"، نشرته مجلة +972 بتاريخ 28 تشرين الثاني 2025. يكشف التحقيق عن أنّ وجود شركتَي بالانتير (Palantir) وداتاماينر (Dataminr) داخل المجمع العسكري الأميركي الجديد في إسرائيل يقدّم صورة واضحة عن الطريقة التي تحقّق بها شركات التكنولوجيا أرباحاً طائلة من حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة.[1]

المركز الأميركي والتكنولوجيا في إدارة الحرب

منذ منتصف تشرين الأول ، يعمل نحو مائتي عنصر من الجيش الأميركي من مجمع ضخم في جنوب إسرائيل يبعد نحو عشرين كيلومتراً عن الطرف الشمالي لقطاع غزة. وقد أُنشئ ما يُعرف بـ"مركز التنسيق المدني - العسكري"؛ بهدف تسهيل تنفيذ خطة السلام التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي تهدف -  وفقاً للصياغة المعلنة -  إلى نزع سلاح حماس، وإعادة إعمار غزة، وغيرها من الأهداف.[2]

غير أنّ هذا الغطاء السياسي سرعان ما انكشف عن بُعدٍ آخر من المشهد - وفق تحقيق +972-، يتمثل في التمدّد الصامت لشركات المراقبة الأميركية الخاصة داخل البنية الأمنية المقترحة لما بعد الحرب، بما في ذلك شركتا بالانتير  وداتاماينر اللتان وجدتا موطئ قدمٍ لهما في مركز التنسيق.

ووفقاً لوثائق داخلية اطّلعت عليها مجلة +972، تضمّن المركز ممثلاً ميدانياً لمشروع "ميفن" التابع لشركة بالانتير، وهي منصة متقدمة تُوصف بأنها ساحة المعركة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. تعمل هذه المنظومة على جمع وتحليل كميات هائلة من بيانات المراقبة من الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة والاتصالات اللاسلكية وشبكة الإنترنت، ثم توحّدها في تطبيق مشترك يمكن للقادة الميدانيين البحث فيه واتخاذ قرارات سريعة بناءً على تحليل لحظي.

وقد استُخدم هذا النظام سابقاً في عمليات قتالية أميركية في اليمن وسورية والعراق، وجرى الترويج له باعتباره أداة لتسريع عملية تحديد الأهداف العسكرية وتنفيذ الضربات الجوية. وفي صيف العام الماضي، فازت بالانتير بعقدٍ قيمته عشرة مليارات دولار لتحديث وتطوير منصة "ميفن" لصالح الجيش الأميركي.

أما في السياق الإسرائيلي، فقد دخلت الشركة منذ كانون الثاني 2024 في شراكة إستراتيجية مع الجيش الإسرائيلي، ما أدى إلى توسع مكتبها في تل أبيب واستقطاب عشرات المهندسين. ورغم تصاعد الاتهامات الموجهة إلى إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في غزة، فإنّ المدير التنفيذي للشركة، أليكس كارب، دافع عن هذا التعاون بوصفه موقفاً أخلاقياً يعبّر عن رفض شركته لما يسميه ثقافة الوعي الاجتماعي في أوساط التكنولوجيا الأميركية، مؤكّداً انحيازه الكامل للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.

داتاماينر ... الذكاء الاصطناعي في خدمة الرقابة

في الوقت نفسه، ظهرت داخل المركز ذاته شركة أميركية أخرى هي داتاماينر، التي تمثل نموذجاً متطوراً لشركات الذكاء الاصطناعي المخصصة للمراقبة اللحظية عبر الإنترنت. تعتمد الشركة على علاقاتها الوثيقة في منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها منصة إكس (تويتر سابقاً)، لتزويد الحكومات والمؤسسات بمعلومات فورية عن الأحداث والتهديدات المحتملة في الزمن الحقيقي.

بدأت الشركة نشاطها في منتصف العقد الثاني من الألفية حين منحت مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي إمكانية الوصول إلى التدفق الكامل لبيانات مستخدمي تويتر بهدف مراقبة الأنشطة الإجرامية والإرهابية. ومنذ ذلك الحين، تحوّل منتجها إلى أداة مركزية للأجهزة الأمنية، إذ مكّنها من تتبّع النشاط الرقمي السابق للمستخدمين وكشف شبكات العلاقات والتفاعل بينهم.

ارتبطت داتاماينر منذ نشأتها بالبنية الاستخباراتية الأميركية، فصندوق الاستثمار التابع لوكالة الاستخبارات المركزية (إن – كيو - تِل) كان من أوائل مموليها، كما امتلكت تويتر سابقاً حصة في أسهمها. وقد أدى هذا الارتباط إلى توظيفها الواسع في أنشطة المراقبة، خاصة خلال إدارة ترامب الأولى، حيث استخدمتها الشرطة الأميركية لمتابعة احتجاجات حركة "حياة السود مهمة"، ثم لاحقاً في عهد بايدن لمراقبة الناشطين المعارضين لتقييد حقوق الإجهاض. وفي آذار الماضي، استعانت شرطة لوس أنجلوس بخدماتها لمراقبة التظاهرات المؤيدة لفلسطين ورصد الخطاب الداعم لغزة على الإنترنت.

يشير وجود داتاماينر إلى أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تحليلية، بل أصبح بنية مراقبة شاملة تُمكّن الحكومات من تتبع المزاج العام والسيطرة على تدفق المعلومات. ومع توظيفها بالتوازي مع مشروع ميفن، تتعزز قدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على مراقبة الفضاءين الواقعي والرقمي في غزة، ما يجعل التكنولوجيا أداة مركزية في تثبيت السيطرة الإسرائيلية تحت غطاء إعادة الإعمار.

نموذج احتلال جديد

بحسب تحقيق المجلة، تتجه السياسات الأميركية والإسرائيلية في غزة نحو تكريس نموذجٍ جديد من الاحتلال قائمٍ على التكنولوجيا والرقابة الرقمية بدل الوجود العسكري المباشر. فقد تضمّنت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنداً غامضاً يشير إلى تقليص السيطرة العسكرية الإسرائيلية على القطاع وتهيئة الظروف لإقامة دولة فلسطينية، غير أنّ مضمون هذا البند أثار شكوكاً واسعة، إذ لا يعكس التزاماً فعلياً بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، بل يكرّر النمط التاريخي لمحاولات الهيمنة المقنّعة التي جُرِّبت سابقاً تحت شعارات السلام، وانتهت إلى إعادة إنتاج أشكال أكثر تطوراً من السيطرة الإسرائيلية.

تُظهر التجارب أنّ كل مبادرة قُدّمت بوصفها خطوة نحو السيادة الفلسطينية كانت عملياً وسيلة لتوسيع أدوات الاحتلال عبر قنوات جديدة. فمنذ اتفاق أوسلو في التسعينيات، رسّخت إسرائيل تحكمها بالبنية التحتية للاتصالات الفلسطينية، بما منح أجهزتها الاستخباراتية قدرة شبه مطلقة على مراقبة الضفة وغزة. أما انسحاب العام 2005، الذي رُوّج له كفكّ ارتباط، فقد كان في جوهره إعادة هيكلة للاحتلال، حيث واصل الجيش الإسرائيلي سيطرته الجوية عبر المراقبة المكثفة وسياسة الاغتيالات المستهدفة، فيما وصف مسؤولون في سلاح الجو ذلك النمط بأنه "احتلال يُفرض من الجو".

واليوم، كما يبيّن التحقيق، يجري بلورة نمطٍ أكثر حداثة من السيطرة من خلال التعاون بين الجيش الإسرائيلي والولايات المتحدة وشركات التكنولوجيا الخاصة. إذ تتولى شركات مثل بالانتير وداتاماينر مهام تحليل البيانات الميدانية الضخمة وتطوير أنظمة مراقبة واستخبارات قائمة على الذكاء الاصطناعي، تُختبر ميدانياً داخل غزة تحت غطاء الإعمار والاستقرار. في المقابل، يستفيد الجيش الإسرائيلي من هذه الشراكة لتخفيف العبء عن قواته الميدانية والاحتفاظ بالسيطرة الأمنية الفعلية عبر تبادل المعلومات والتنسيق التقني.

بالإضافة إلى ذلك تُظهر الوقائع أن حجم الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب ارتبط ارتباطاً مباشراً بتكامل القدرات الحاسوبية الأميركية مع البنية القتالية الإسرائيلية، ما يجعل من هذه الشركات شريكاً بنيوياً في إنتاج القوة المدمّرة التي يُعاد بها تشكيل القطاع تحت مسمى الأمن.

ختاماً، يبدو أن هذا النموذج القائم على التجريب الميداني والتوسع في استخراج البيانات سيبقى جزءاً دائماً من الواقع الأمني الجديد في غزة والمنطقة. أما صمت شركتَي بالانتير وداتاماينر عن التعليق على أدوارهما، فيعكس الطابع السريّ لتشابك المصالح بين قطاع التكنولوجيا والصناعة العسكرية في إدارة ما بعد الحرب.

 

[1] صوفيا غودفريند، شركات المراقبة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تتسابق للاستحواذ على نصيبها من غنائم غزة، مجلة +972، 28 تشرين الثاني 2025. https://www.972mag.com/ai-surveillance-gaza-palantir-dataminr/

[2] للمزيد أنظر/ي… ياسر مناع، "مركز التنسيق المدني - العسكري (CMCC)... غرفة عمليات أميركية وسط إسرائيل!"، مدار، 27 تشرين الأول 2025. https://2u.pw/vVzRmO

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات