في ظل استمرار الحرب الدائرة على قطاع غزة، ومع تزايد التطورات الإقليمية التي تضع إسرائيل أمام خطر العزلة الدولية وتحديات غير مسبوقة، انعقد في جامعة رايخمان المؤتمر الدولي السنوي لمكافحة الإرهاب، الذي ينظمه المعهد لسياسات مكافحة الإرهاب (ICT) وقد حمل المؤتمر هذا العام اسم "شبتاي شافيط" -نسبة إلى الرئيس الأسبق لجهاز الموساد-، واستمرت فعالياته أربعة أيام متتالية، من الاثنين وحتى الخميس 18 أيلول 2025، تحت العنوان "إسرائيل في عين العاصفة العالمية".
تأتي أهمية هذا المؤتمر بالنسبة لإسرائيل؛ من كونه منصة تجمع بين المستويين الوطني والدولي في مقاربة قضايا الإرهاب والأمن؛ إذ شارك فيه مسؤولون أمنيون حاليون وسابقون، إلى جانب شخصيات سياسية، وخبراء دوليين، وممثلي مجتمع مدني، فضلاً عن نخبة من الباحثين والمتخصصين في مكافحة الإرهاب في العالم.
تتناول هذه المساهمة أبرز المداخلات التي قدّمها فاعلون من ذوي الثقل السياسي والأمني في إسرائيل، مركّزة على تفاعلات العلاقة الداخلية الإسرائيلية في ظل الحرب على غزة، وما يرتبط بها من تطورات إقليمية ودولية متشابكة. وهي على النحو التالي:
أولاً: إسرائيل في عين العاصفة
رئيس جامعة رايخمان، البروفيسور بوعاز غانور، ركز مداخلته بفكرة أن إسرائيل والمنطقة تعيشان منذ عامين تحولات بنيوية عميقة أشبه بـالعاصفة، بدأت بهجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 الذي يصفه كحدث غير مسبوق، وتواصلت مع اندلاع الحرب التي عُدّت حرباً دفاعية هدفها القضاء على حركة حماس. ويرى غانور أن الأزمة تجاوزت البعد الأمني لتتحول إلى أزمة استراتيجية متشابكة. [1]
وشدد على أن الحرب لم تقتصر على غزة، بل فتحت جبهات متوازية في لبنان وسورية واليمن وإيران، إضافة إلى توترات أخرى، ما جعل الجيش الإسرائيلي يواجه تحدياً تاريخياً يتمثل في خوض معارك متزامنة على أكثر من محور. وبرأيه، تعكس هذه الحالة هشاشة البيئة الإقليمية وتفاقم الضغوط الاستراتيجية على إسرائيل.
وأشار إلى أنه في ظل المعركة على الرأي العام العالمي، تخسر إسرائيل سياسياً ودولياً أمام انتشار خطاب معادٍ للصهيونية أشبه بـالنار في الهشيم، مدفوعاً بمعاداة السامية ومغذّى بتصريحات متطرفة من داخل الحكومة والكنيست. هذا الخطاب الشعبوي برأيه يقوّض الأسس الدعائية والسياسية للدولة.
ويختم غانور بأن حرب "السيوف الحديدية"، التي بدأت كحرب لا مفر منها، تحولت لاحقاً إلى حرب خيار بلا أهداف استراتيجية واضحة، داعياً صناع القرار والجمهور الإسرائيلي إلى إدراك أنها استنفدت ذاتها ولم تعد تحقق مصلحة استراتيجية.
ثانياً: إسرائيل ... إسبارطة جديدة
وجّه زعيم المعارضة يائير لبيد في كلمته خلال المؤتمر انتقاداً حاداً لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، محمّلاً إياه المسؤولية المباشرة عن إدخال إسرائيل في عزلة دولية غير مسبوقة. ورأى أن تصريح نتنياهو بضرورة تحوّل إسرائيل إلى إسبارطة ليس حتمية تاريخية، بل نتيجة لسياساته الفردية وقراراته الخاطئة، ومنها الهجوم السياسي في الدوحة الذي جرى دون نقاش مؤسسي داخل الكابينيت، وما تبعه من تداعيات خطيرة تمثلت في تقويض اتفاقيات السلام، وتعميق الانقسام الداخلي، وتوحيد الموقف العربي ضد إسرائيل.
وصف لبيد الوضع الراهن بأنه أخطر أزمة علاقات خارجية في تاريخ الدولة، مشيراً إلى أنها قابلة للمعالجة إذا استُبدلت الحكومة الحالية بأخرى أكثر كفاءة. وانتقد إدارة نتنياهو للسياسة الخارجية عبر تعيين ثلاثة وزراء خارجية خلال عامين بدوافع سياسية، وتجاهل تعيين رئيس لجهاز الدعاية الوطنية منذ أيار 2024، ما زاد من حدة الارتباك الدبلوماسي.
كما حمّله مسؤولية الصمت إزاء تصريحات وزراء متطرفين دعوا إلى قصف غزة بسلاح نووي أو تبرير تجويع سكانها، معتبراً أن هذه المواقف شوّهت صورة إسرائيل عالمياً. وأكد أن غياب استراتيجية واضحة يضاعف الأزمة، حيث لا أحد – داخل إسرائيل أو خارجها – يفهم أهداف الحكومة أو خطتها لإنهاء الحرب وإعادة الرهائن. واختتم لبيد بالتأكيد أن السياسات المرتجلة والنهج الشعبوي لنتنياهو قادا إسرائيل إلى عزلة خانقة، وأن الخروج منها يتطلب تغيير القيادة وتبني سياسة خارجية منظمة تعيد ثقة المجتمع الدولي.
وفي سياق آخر، رد النائب بيني غانتس على انتقادات قادة أمنيين سابقين بشأن إهمال القوات البرية قبل هجوم السابع من أكتوبر، وشدد على أن الادعاء بوجود إهمال في بناء القوة العسكرية غير دقيق، مؤكداً أن المؤسسة الأمنية استعدت طوال عقدين لمواجهة التحديات المستقبلية في المنطقة، لكن الإخفاق كان استخبارياً ومفاهيمياً لا بنيوياً.
وأوضح غانتس أن السياسات قبل الهجوم ركزت على الاحتواء والتقدير الخاطئ، لا على غياب الإعداد العسكري. كما كشف عن أنه فوجئ بسؤال نتنياهو له قبل الحرب حول قدرة الجيش على تنفيذ مناورة برية في غزة، متهماً مستشارين جهلة بمحاولة التأثير على رئيس الوزراء لعرقلة الدخول البري، وأكد أن الجيش يمتلك القدرة ولا خيار سوى التنفيذ.
ثالثاً: وحدة المصير الأميركي– الإسرائيلي في مواجهة الإرهاب
وجّه السفير الأميركي في إسرائيل مايك هاكبي انتقادات حادة إلى بريطانيا وفرنسا وعدد من الدول الأوروبية، معتبراً أن مواقفها إزاء الصراع الإسرائيلي– الحمساوي تتسم باللا منطقية. وأكد أن إسرائيل لم تبادر إلى الحرب، بل واجهت هجوماً "وحشياً" لم يترك لها خياراً سوى الرد والعمل على إسقاط حكم حماس في غزة، مشدداً على أن أي هدف أقل من ذلك سيكون سخيفاً. وانتقد المطالبات الأوروبية بوقف الحرب، متسائلاً: "لماذا لا يطالبون حماس بإنهائها؟".[2]
استهل هاكبي مداخلته باستحضار أحداث 11 أيلول 2001 باعتبارها لحظة فارقة غيّرت وجه العالم، مشيراً إلى أن الأميركيين أدركوا حينها أنهم ليسوا بمنأى عن الإرهاب. ومن هذا المنطلق، ربط بين التجربة الأميركية ونظيرتها الإسرائيلية، معتبراً أن إسرائيل "تحارب الإرهاب منذ أربعة آلاف عام"، وأن محاولات محو الشعب اليهودي ممتدة منذ زمن إبراهيم الخليل وحتى اليوم. وأكد أن هذه الخلفية التاريخية تضع إسرائيل والولايات المتحدة في مواجهة مصير مشترك مع أعداء متقاربين.
انتقل هاكبي إلى التهديد الإيراني، مستذكراً اثني عشر يوماً من الحرب مع إيران، موضحاً أن هذه المواجهة لم تكن شأناً إسرائيلياً فقط بل معركة تخص الغرب ككل. وأكد أن العداء الإيراني لإسرائيل والولايات المتحدة لا يرتبط بالسياسات أو النظم التعليمية، بل بجوهر الرفض الأيديولوجي لمنظومة القيم الغربية، وفي مقدمتها الحرية الفردية والاستقلالية الفكرية، مشدداً على أن هذا العداء يعكس صراعاً قيمياً حضارياً يتجاوز حدود السياسة المباشرة.
رابعاً: أزمة التجنيد وغياب الحلول لغزة
قدّم النائب ورئيس لجنة الخارجية والأمن السابق في الكنيست يولي إدلشتاين استعراضاً للتحديات التي يواجهها الجيش الإسرائيلي في ظل الحرب الطويلة على غزة وأزمة التجنيد الإلزامي والاحتياط. [3]
أوضح إدلشتاين أن النقاش حول قانون التجنيد لم يعد نقاشاً أكاديمياً أو مبدئياً حول المساواة في العبء، بل تحوّل إلى قضية عملية ووجودية ترتبط مباشرة بقدرة الجيش على الاستمرار في إدارة الحرب. فقد استنزفت الخدمة الطويلة طاقات مئات من جنود الاحتياط من دون أن يتوافر بديل يخفف عنهم، مما كشف التناقض بين شعار الجيش الأقوى في العالم والواقع الميداني الصعب في توفير قوات برية كافية.
وكشف إدلشتاين أنه حين حاول الدفع بتسوية مع الأحزاب الحريدية بشأن التجنيد، واجه مقاومة سياسية داخلية حالت دون إنجاز الحل، بل وأدت إلى إقالته من رئاسة لجنة الخارجية والأمن، في انعكاس مباشر لعجز النظام السياسي الإسرائيلي عن اتخاذ قرارات استراتيجية عندما تصطدم بمصالح القوى الدينية والسياسية.
وفيما يخص مستقبل غزة، شدّد إدلشتاين على أنه لا أحد يمتلك حلاً جيداً لغزة. فالقضية ليست فقط في هزيمة حركة حماس، بل في بلورة رؤية عملية لما بعد الحرب، خصوصاً أن إعادة الإعمار ستتطلب مئات المليارات. وحذّر من الانجرار إلى حلول سهلة أو انسحابات متسرعة، معتبراً أن التحدي الحقيقي يكمن في اختيار الحل الأقل سوءاً بين بدائل جميعها صعبة.
كما تناول مسألة الأسرى، مشيراً إلى التناقض بين سعي الحكومة لفرض السيطرة العسكرية على غزة وبين مطلب إعادة الأسرى بعد نحو عامين من الحرب. واعتبر أن خيار "صفقة مرحلية" لتحريرهم قد يكون أكثر واقعية من الرهان على الحسم العسكري وحده.
خامساً: المسؤولية عن الإخفاق والخطف
أكّد غال هيرش، منسق شؤون الأسرى والمفقودين، أنّ عملية الخطف التي وقعت في 7 أكتوبر شكّلت إخفاقاً مروّعاً تتحمل الدولة مسؤوليته الكاملة. وشدّد على أنّ الأسرى ما زالوا يواجهون خطراً مباشراً، وأن مهمة إعادتهم لم تُنجز حتى الآن رغم الجهود المبذولة.[4]
وأوضح هيرش أن إسرائيل لم تدخل يوماً في صفقات جزئية، بل كانت المفاوضات دائماً من أجل إعادة جميع الأسرى، حتى لو جرت على مراحل. وكشف أنّه أُوفد إلى الدوحة لإجراء محادثات، غير أنّ حماس أفشلتها عبر مماطلة استمرت 19 يوماً، متهمة إسرائيل زيفاً بفرض حصار تجويعي.
كما اتهم هيرش قيادة حماس بإفشال فرص التوصل إلى اتفاق، مشيراً إلى أنّ تصريحات كبار المسؤولين الأميركيين مثل وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك ساليفان، تؤكد أنّ العقبة الأساسية تكمن في مواقف حماس. في المقابل، عبّر عن تقديره للدعم الأميركي المتواصل في إدارات متعاقبة، معتبراً الضغط الدولي عنصراً حاسماً في قضية الأسرى.
ولفت إلى أنّ إسرائيل أفرجت في صفقات سابقة عن أكثر من ألفي أسير فلسطيني، بينهم مدانون بالقتل ومحكومون بالمؤبد، وأن بعضهم عاد لممارسة العنف. ورغم ذلك، شدّد على أنّ هذا الثمن الباهظ كان لا بد من دفعه من أجل استعادة الأسرى، نظراً إلى قيمة حياة كل أسير باعتباره ابناً لإسرائيل كلها. واعتبر أنّ دماء الجنود الذين سقطوا دفاعاً عن هذه القضية تعبّر عن وحدة وطنية عميقة.
كما حذّر هيرش من أنّ نجاح الخطف كوسيلة ضغط سيحوّله إلى أداة قابلة للاستخدام ضد دول أخرى مستقبلاً، داعياً إلى تشكيل جبهة دولية موحّدة سياسية واقتصادية وعسكرية ضد خطف المدنيين، مشيداً بقرار أميركي حديث يتيح فرض عقوبات على الخاطفين.
وفي ختام مداخلته، أكد أنّ إسرائيل ستواصل جهودها حتى استعادة جميع الأسرى والمفقودين، مذكّراً بحالات عودة جثامين ومفقودين من سورية ولبنان والعراق خلال العام الماضي. وأكد أنّ المعركة لم تنتهِ، وأن الأمل باستعادة كل الأسرى يظل قائماً رغم التعقيدات السياسية والعسكرية.
*****
بالإضافة إلى ذلك، شهدت أجواء المؤتمر توتراً لافتاً عند صعود وزير الاقتصاد نير بركات إلى المنصة يوم 16 أيلول 2025، حيث قوبل بهتافات استهجان وصيحات تطالبه بالمغادرة، وسط اتهامات مباشرة له بالمسؤولية عن كارثة السابع من أكتوبر.
انعكس هذا المشهد كذلك في كلمات عائلات الأسرى في غزة، حيث التقت جميع الأصوات على مطلب واحد يتمثل في ضرورة الإفراج عن جميع الأسرى بلا استثناء. فبينما شدّد بعض أفراد العائلات على أنّ القضية تمثل مسؤولية وطنية وأخلاقية للدولة، وجّه آخرون انتقادات مباشرة للحكومة بسبب تقاعسها عن القيام بواجبها في إنقاذ الأسرى، في حين ركّز فريق ثالث على البعد الإنساني ومعاناة الأسر اليومية، مؤكّدين أن استعادة الأسرى تمثل أولوية وطنية لا تحتمل التأجيل أو التجاوز.
[1] بلد أربلي، "كبار مسؤولي جامعة رايخمان في مؤتمر مكافحة الإرهاب: ضد قانون التهرّب، ويدعمون الطلاب في الاحتياط"، معاريف، 15 أيلول 2025. https://www.maariv.co.il/news/politics/article-1233220
[2] N12. "هاكبي ضد دول أوروبا: 'يدعون إسرائيل لإنهاء الحرب؟ على حماس أن تُنهيها" ، 18 أيلول 2025. https://www.mako.co.il/news-military/2025_q3/Article-5d3316c649b5991026.htm
[3] N12. "إسرائيل في عين العاصفة العالمية: افتتاح المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب في جامعة رايخمان"، 15 أيلول 2025. https://www.mako.co.il/news-diplomatic/2025_q3/Article-60e9477a17c4991027.htm
[4] N12. "غال هيرش: 'لن نتنازل عن إمكانية التوصل إلى صفقة'"، 17 أيلول 2025. https://www.mako.co.il/news-politics/2025_q3/Article-4d4112344b65991027.htm