في صبيحة اليوم التالي لاغتيال ستة صحافيين في غزة يوم 10 آب 2025، كشف الصحافي الإسرائيلي الاستقصائي يوفال أبراهام في تغريدة له عبر منصة X أن إسرائيل كانت قد أسست في العام 2023، عقب أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وحدة سرية داخل جهازها الاستخباراتي العسكري تُعرف باسم "خلية إضفاء الشرعية". كان هدف هذه الخلية واضحاً: تبرير الحرب على قطاع غزة، وإضفاء شرعية على عمليات الجيش في غزة ومن بينها عمليات اغتيال الصحافيين، وآخرهم كان مراسل قناة الجزيرة أنس الشريف والفريق العامل معه.[1] وبعد أيام، نشر أبراهام تحقيقاً صحافياً معمّقاً على موقع "+972"، استعرض فيه بالتفصيل عمل هذه الوحدة.[2]
يرى أبراهام أن الهدف الأساسي لـ "خلية إضفاء الشرعية" هو إضفاء الشرعية على الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، سواء أكان ذلك باستهداف الصحافيين أو قصف المستشفيات والمدارس. بالإضافة إلى ذلك، التقليل من الانتقادات الدولية الموجهة إلى إسرائيل، وهو ما يساهم في إطالة أمد الحرب.
في هذه المساهمة، سنستعرض تحقيق أبراهام هذا الذي نُشر في يوم 14 آب 2025، تحت عنوان "خلية إضفاء الشرعية: وحدة إسرائيلية مكلفة بربط صحافيي غزة بحركة حماس"، وكذلك سنسلّط الضوء على طبيعة عمل هذه الوحدة، وأهدافها الخفية، كما سنستعرض أمثلة على أنشطتها الدعائية.
ما هي "خلية إضفاء الشرعية"؟
يمكننا تعريف "خلية إضفاء الشرعية" بأنها تشكيل استخباراتي - إعلامي أنشأه الجيش الإسرائيلي عقب السابع من أكتوبر 2023، مهمته الأساسية جمع المعلومات الاستخباراتية وتحويلها إلى أداة دعائية موجَّهة إلى الرأي العام الدولي.
ويقوم هذا التشكيل برفع السرية عن معطيات مختارة وتوظيفها في الخطاب الإعلامي الرسمي، بغرض تحسين صورة إسرائيل عالمياً، تقويض مصداقية الرواية الفلسطينية، والتشكيك في نزاهة التغطية الصحافية الدولية والعربية للحرب على غزة. ولا تعمل هذه الوحدة في المجال العملياتي العسكري المباشر، بل تتركز وظيفتها في هندسة السردية الإعلامية وصناعة الشرعية العالمية لإسرائيل.
يُدرج هذا الدور ضمن إطار ما يُعرف بـ "حرب الروايات وحروب المعلومات"، بوصفها أحد أبرز تجليات التداخل والتشابك بين العمل الاستخباراتي العسكري والمنظومة الإعلامية.
أهداف عمل الخلية
تتركز أهداف "خلية إضفاء الشرعية" على جمع المعلومات بهدف الدعاية في المقام الأول. يمكن تلخيص مهامها في النقاط التالية:
أولاً، بناء السردية الدعائية: تسعى الخلية إلى البحث عن مواد تدعم خطاب الهاسبارا (الدعاية الإسرائيلية)، بما في ذلك المزاعم المثيرة للجدل التي من شأنها تبرير قتل الصحافيين الفلسطينيين.
ثانياً، تعزيز الصورة الدولية: تتمثل إحدى مهامها الأساسية في جمع المعلومات الاستخباراتية من قطاع غزة بهدف تعزيز صورة إسرائيل في وسائل الإعلام العالمية، وتقديم رواية تخدم مصالحها في الحرب.
ثالثاً، تشويه سمعة الفصائل الفلسطينية: تعمل الوحدة على جمع المعلومات بهدف إدانة الفصائل الفلسطينية وتبرير استهداف إسرائيل للمرافق الحيوية في القطاع، فمثلاً، تم جمع معلومات حول استخدام حركة حماس للمدارس والمستشفيات لأغراض عسكرية، وكذلك حول محاولات إطلاق الصواريخ الفاشلة من قبل الفصائل الفلسطينية التي ألحقت الضرر بالمدنيين في القطاع.
رابعاً، تبرير استهداف الصحافيين: تسعى الوحدة إلى تحديد الصحافيين المقيمين في غزة الذين يمكن تصويرهم كعناصر سرية تابعة لحماس، في محاولة للحد من موجة السخط العالمي المتصاعد إزاء استهداف واغتيال إسرائيل للصحافيين.
خامساً، إضعاف الجهاز السلطوي المدني في غزة: من الأهداف المعلنة للخلية هو العثور على أدلة تربط شرطة غزة بهجوم السابع من أكتوبر، وذلك بهدف تبرير استهدافها وتفكيك الجهاز السلطوي المدني التابع لحماس.
إن جميع هذه الأهداف تصب في غاية رئيسة واحدة، وهي تعزيز شرعية إسرائيل الدولية للاستمرار في الحرب على غزة من دون ضغوط، بما يضمن عدم توقف دول مثل الولايات المتحدة عن تزويدها بالأسلحة.
مستشفى المعمداني: المهمة الأولى لـ"خلية إضفاء الشرعية"
يكشف التحقيق عن أن حادثة استهداف المستشفى الأهلي المعمداني في 17 تشرين الأول 2023 شكّلت أول اختبار عملي لعمل "خلية إضفاء الشرعية". فبينما سارعت وسائل الإعلام الدولية – استناداً إلى بيانات وزارة الصحة في غزة – إلى نشر أن غارة جوية إسرائيلية أودت بحياة أكثر من 500 فلسطيني، بادرت إسرائيل إلى الدفع قدماً برواية بديلة لتغيير مسار النقاش العام.
في اليوم التالي مباشرة، بثّ الجيش الإسرائيلي تسجيلاً صوتياً قُدِّم باعتباره مكالمة بين عنصرين من حركة حماس، يتبادلان فيها الاتهام حول مسؤولية الجهاد الإسلامي عن صاروخ سقط بالخطأ.
هذا التسجيل اعتبر بمثابة نجاح تكتيكي للخلية داخل المؤسسة الأمنية والسياسية، على اعتبار أنه نجح في تحويل اتجاه التغطية الإعلامية العالمية، ودفع عدداً من المؤسسات الصحافية الكبرى إلى إعادة النظر في روايتها الأولية، وبهذا، ضعفت مصداقية السردية الفلسطينية في اللحظة الأولى من الحرب.
نماذج على عمل الخلية
من أبرز النماذج التي كشف عنها التحقيق الاستقصائي لعمل "خلية إضفاء الشرعية" ما يتعلق باستهداف الصحافيين الفلسطينيين:
أولاً، قضية الصحفي إسماعيل الغول: في 31 تموز 2024 استُشهد الصحافي إسماعيل الغول في غارة جوية إسرائيلية استهدفت مدينة غزة في أثناء تغطيته للأحداث الميدانية. وبعد مرور شهر، أصدر الجيش الإسرائيلي بياناً أعلن فيه أنّ الغول عنصر في الجناح العسكري لحركة حماس وعنصر في وحدة النخبة، مستنداً في ذلك إلى وثيقة مؤرخة العام 2021 قيل إنها عُثر عليها داخل أحد أجهزة الحاسوب التابعة لحماس.
غير أن فحص مضمون الوثيقة يكشف تناقضاً واضحاً؛ إذ تفيد بأن الغول حصل على رتبته العسكرية المزعومة العام 2007، أي وهو في نحو العاشرة من عمره، ما يجعل الرواية الإسرائيلية غير منطقية ويفضح خللاً في مصداقية الادعاءات الرسمية. هذه الحالة تمثل نموذجاً على كيفية استخدام الخلية الإعلامية العسكرية الإسرائيلية لوثائق مفبركة أو متناقضة في محاولة لتبرير استهداف الصحافيين وطمس الطابع المدني لعملهم.
ثانياً، قضية الصحافي أنس الشريف: في 10 آب 2024 شنّ الجيش الإسرائيلي غارة جوية على ساحة مستشفى الشفاء في غزة، أدت إلى استشهاد ستة صحافيين، من بينهم مراسل قناة الجزيرة أنس الشريف. وقد جاء ذلك بعد سلسلة تحذيرات صدرت عن منظمات دولية، أبرزها لجنة حماية الصحافيين (CPJ) التي حذرت قبل شهرين من أن الشريف يتعرض إلى حملة تشويه منسّقة، يُرجّح أنها كانت مقدمة مباشرة لاستهدافه.
في تموز 2024 نشر الشريف مقطعاً مؤثراً يظهر فيه باكياً في أثناء تغطيته لأزمة الجوع في غزة، وهو المقطع الذي حظي بانتشار واسع. تبع ذلك رد مباشر من المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية، أفيحاي أدرعي، الذي بث ثلاثة مقاطع مرئية متتالية اتهم فيها الشريف بالمشاركة في حملة التجويع الكاذبة التي تنسبها إسرائيل إلى حركة حماس.
وبعد أقل من شهر، استُشهد الشريف في الغارة التي بررها الجيش استناداً إلى معلومات استخباراتية زعم أنه رُفعت عنها السرية، حيث نشر قائمة تضم أسماء نسبها إلى الجناح العسكري لحماس، كان من بينها اسم الشريف.
ومن الجدير بالذكر في الختام أن التحقيق أشار كذلك إلى أنّه خلال العامين الأخيرين أنشأت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ("أمان") عدة فرق بحث متخصصة، وُكلت إليها مهمة ما يُسمى بــ "كشف أكاذيب حماس". وكان الهدف الجوهري لهذه الفرق هو تقويض مصداقية الصحافيين الذين ينقلون وقائع الحرب عبر شبكات البث، عبر تصوير تقاريرهم المقدَّمة إلى الرأي العام بوصفها مهنية وموثوقة على أنها ليست سوى امتداد مباشر لخطاب حماس المعادي لإسرائيل.
[1] للمزيد أنظر/ي الصفحة الشخصية للصحافي يوفال أبراهام على منصة X https://x.com/yuval_abraham/status/1954709405921841368?s=46
[2] للمزيد أنظر/ي يوفال أبراهام، "خلية إضفاء الشرعية: وحدة إسرائيلية مكلّفة بربط صحافيي غزة بحركة حماس"، مجلة +972، 14 آب 2025. https://www.972mag.com/israel-gaza-journalists-hamas-hasbara/