المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
غارة على منزل في مخيم النصيرات يوم 1 حزيران الجاري. (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 68
  • وليد حباس

شهدت الساحة الأكاديمية الإسرائيلية تحركاً احتجاجياً واسعاً، حيث وقّع أكثر من 1300 أكاديمي من جامعات وكليات مختلفة على رسالة مفتوحة تدعو إلى وقف فوري للحرب على قطاع غزة، محذّرين من "انهيار أخلاقي" يهدد المجتمع الإسرائيلي.

هذه الرسالة، التي أطلقتها مجموعة "الراية السوداء"، لم تكتف بإدانة الحرب، بل حمّلت الأكاديميا مسؤولية التواطؤ بالصمت أو تبرير الجرائم أو قمع الأصوات النقدية، ودعت إلى تسخير ثقل المؤسسات الأكاديمية لإنهاء الحرب.

من هم مجموعة "الراية السوداء"؟

تشكلت مجموعة "الراية السوداء" في العام 2025، كمبادرة أطلقها أكاديميون إسرائيليون بارزون من جامعات ومؤسسات تعليمية مختلفة، في خطوة غير مسبوقة لمساءلة سياسات دولتهم تجاه قطاع غزة. تمثل هذه المجموعة تحوّلاً لافتاً في موقع الأكاديميا داخل المجتمع المدني الإسرائيلي، حيث تبنت هذه المجموعة خطاباً ناقداً داعية إلى تحمّل مسؤولية جماعية عمّا يحدث بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.

نشرت المجموعة رسالة مفتوحة موجهة إلى رؤساء المؤسسات الأكاديمية في إسرائيل، تحثهم على استخدام نفوذهم لإنهاء الحرب في غزة، داعية إلى اتخاذ خطوات عملية مثل تنظيم إضرابات داخل الجامعات، على غرار تلك التي نُفّذت سابقاً احتجاجاً على خطة "الإصلاح القضائي". وقد شدّدت الرسالة على المعاناة الإنسانية الواسعة في غزة، مشيرة إلى تقارير تتحدث عن إصابات جماعية في صفوف السكان المدنيين وانتشار المجاعة، معتبرة أن هذه النتائج ليست عرضية، بل إنها ناتجة عن سياسة متعمّدة تنتهجها الحكومة الإسرائيلية.

اعترف الموقعون على الرسالة بمسؤوليتهم كمجتمع أكاديمي، مؤكدين أن الجرائم ضد الإنسانية لا تُرتكب من قبل الحكومات وحدها، بل تُرتكب أيضاً من قبل المجتمعات التي تبررها، أو تلتزم الصمت حيالها، أو تسهم في إسكات الأصوات الناقدة داخل الفضاءات الأكاديمية. هذا الصمت، بحسب الرسالة، هو ما يسمح باستمرار الفظائع من دون اعتراف. كما حذّرت المجموعة من "انهيار أخلاقي" يتهدد المجتمع الإسرائيلي، مشيرة إلى أن التاريخ لن يغفر لأولئك الذين يختارون الصمت في وجه الجرائم الواضحة.

دلالات الاسم: "الراية السوداء"

في قلب الرسالة التي وقّع عليها أكثر من 1300 أكاديمي إسرائيلي، برز مصطلح "الراية السوداء" كمفتاح أخلاقي وقانوني لمساءلة الحرب الجارية على غزة. هذا المصطلح ليس جديداً في السياق الإسرائيلي، بل يعود إلى الفقه القضائي العسكري، ويُستخدم للإشارة إلى الأوامر التي تكون لا شرعيتها واضحة وفادحة لدرجة أن تنفيذها يُعد جريمة بحد ذاته.

ظهر هذا المفهوم لأول مرة خلال محاكمة كفر قاسم العام 1957، بعد مذبحة ارتكبها جنود إسرائيليون بحق عشرات المدنيين الفلسطينيين العائدين من العمل. في تلك المحاكمة، صاغ القاضي بنيامين هاليفي قاعدة قضائية شهيرة قال فيها: "هناك أوامر ترفرف فوقها راية سوداء، راية تشير إلى عدم شرعية واضحة تصرخ في وجه كل من يراها".

بموجب هذه القاعدة، يُعتبر الأمر العسكري غير قانوني إذا: 1) كان انتهاكه للضمير الإنساني واضحاً وفورياً، ولا يحتاج إلى تأويل أو تحليل قانوني معقد؛ 2) يتناقض مع المبادئ الأساسية للعدالة والإنسانية؛ 3) لا يستند إلى مبرر عسكري معقول كالدفاع عن النفس أو الضرورة العسكرية.

هذا المفهوم يمنح الجندي الحق – بل الواجب – في رفض تنفيذ الأمر، محمّلاً إياه مسؤولية أخلاقية فردية، وليس فقط رؤسائه. لكن على الرغم من رمزيته القوية، فإن "الراية السوداء" نادراً ما تُفعّل فعلياً في محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، مما يجعلها أداة أخلاقية (مثل حركة الاحتجاج الأكاديمية هذه)، أكثر من كونها آلية قانونية فعالة قد نجدها مطروحة أمام القضاء الإسرائيلي لفرض وقف الحرب.

عن دور الأكاديميا في إسرائيل

تُشكّل الأكاديميا الإسرائيلية نموذجاً واضحاً لما يُعرف بـ"الأكاديمية الاستعمارية-الاستيطانية"، إذ نشأت وتطورت في سياق عضوي ومتكامل مع المشروع الصهيوني منذ تأسيس الدولة العام 1948، بل ومن قبل التأسيس. فقد ارتبطت الجامعات الإسرائيلية منذ نشأتها بالبنية الأيديولوجية والمؤسسية للاستعمار الاستيطاني، حيث كانت أدوات فاعلة في دعم سياسات إحلال المستوطنين اليهود مكان السكان الأصليين الفلسطينيين.

لم تُؤسَّس الجامعات الإسرائيلية كمؤسسات محايدة لإنتاج المعرفة المجردة عن الواقع السياسي والاجتماعي، بل كانت منذ البداية جزءاً من البنية التحتية للحركة الصهيونية. فقد لعبت أدواراً متعددة: إنتاج المعرفة التقنية لخدمة التفوق العسكري الإسرائيلي، وتوفير الأسس النظرية لتبرير السيطرة، وتقديم الدعم الإداري والقانوني لمأسسة الاحتلال. هذا التداخل البنيوي بين الجامعة والدولة الأمنية جعل من الأكاديمية الإسرائيلية ذراعاً معرفياً وعلمياً للمشروع الكولونيالي.

في أثناء النكبة العام 1948، ساهمت الجامعات بشكل مباشر في المجهود الحربي الصهيوني، من خلال احتضانها لـ"الفيلق العلمي" التابع للهاغاناه، حيث شارك أكاديميون وطلبة في تطوير الأسلحة، بما فيها البيولوجية، لصالح الميليشيات الصهيونية التي نفّذت عمليات التهجير الجماعي. لاحقاً، تم دمج هذا الفيلق في وزارة الدفاع، وأسهم في إنشاء الصناعات العسكرية الكبرى مثل "رفائيل" و"الصناعات الجوية الإسرائيلية"، التي اعتمدت في تطورها على كليات الهندسة والمختبرات الجامعية، ما يكشف عن ترابط عضوي بين المعرفة الأكاديمية والمنظومة الأمنية.

لم يقتصر دور الأكاديمية على إنتاج المعرفة التقنية، بل امتد ليشمل بلورة وتبرير السياسات الكولونيالية، من تخطيط التوسع الاستيطاني، مروراً بالهندسة الديموغرافية، وصولاً إلى تقديم الغطاء القانوني والأخلاقي لممارسات الفصل العنصري والتطهير العرقي. وتلعب أقسام الجغرافيا، والعلوم السياسية، والقانون، دوراً مركزياً في هذا السياق، من خلال إنتاج دراسات تدعم مشروع السيطرة، وتُوظّف في صنع القرار الأمني والمدني.

وتُظهر الأكاديميا الإسرائيلية ميلاً واضحاً نحو العسكرة، إذ يُنظر إلى التعليم العالي كامتداد للمسار العسكري، ويُربط بالقدرة على التأثير في مفاصل الدولة، ما يجعل الجامعة جزءاً من منظومة "الدولة- الجيش- المعرفة".

وفيما تُعد مجالات الهندسة، والتكنولوجيا، وعلوم الحاسوب، من أبرز ركائز "القوة الذكية" الإسرائيلية، حيث تساهم الجامعات في تطوير أدوات التفوق العسكري مثل "القبة الحديدية"، والطائرات من دون طيار، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، إلا أن هذه المعرفة تُنتج وتُوظف ضمن منطق استعماري هدفه تعزيز السيطرة، وليس بدافع التقدم الإنساني أو العلمي المجرد.

بالرغم من هذه البنية الصلبة، بدأت تظهر منذ سنوات أصوات نقدية من داخل بعض الحقول الاجتماعية والإنسانية، فقد بدأ عدد من الباحثين، لا سيما من الجيل الجديد، في مساءلة العلاقة بين المعرفة والسلطة، وانتقاد دور الأكاديمية في تبرير الاحتلال والتمييز. إلا أن هذه الأصوات، ورغم أهميتها، لا تزال هامشية وتواجه أشكالاً متعددة من التقييد والتهميش المؤسساتي.

كان الفلسطينيون، ولا يزالون، المتضرر الرئيس من هذه المنظومة الأكاديمية الاستعمارية، التي ساهمت في تهميش المعرفة الفلسطينية، وإقصاء الأصوات النقدية، وحرمان الطلبة الفلسطينيين من الوصول العادل إلى مؤسسات التعليم العالي، فضلاً عن استغلال المعرفة المنتجة لتكريس سياسات الاستيطان والطرد والهيمنة.

كما أدّت مراكز التفكير الإسرائيلية دوراً حاسماً في توجيه السياسات العامة، من خلال تقديم توصيات أمنية واستراتيجية تُبرّر استمرار السيطرة الكولونيالية، وتُعيد إنتاج الرواية الصهيونية بوصفها إطاراً تفسيرياً شرعياً ومتفوّقاً.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, دورا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات