يشكّل مشروع القانون الرامي الى فرض ضريبة بنسبة 80 بالمائة على التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية في إسرائيل تحولاً بنيوياً في طبيعة النظام السياسي، حيث أنه يُستخدم كأداة لمعاقبة منظمات المجتمع المدني، وخاصة الحقوقية واليسارية والمناهضة للإحتلال، وتجفيف مصادر تمويلها. ومشروع القانون يعكس توجّهاً سلطوياً لتقليص الحريات، وإعادة هندسة الفضاء المدني وفقاً لمعايير الولاء السياسي. تقدم هذه المقالة قراءة في مشروع القانون هذا وتداعياته المختلفة.
ما هو مشروع قانون الجمعيات المطروح؟
تشهد إسرائيل في السنوات الأخيرة تحولات جذرية على صعيد البنية التشريعية والقانونية، تتجلى في الانتقال نحو نمط سلطوي- شعبوي تقوده قوى اليمين الجديد. يسعى هذا التوجه إلى تفكيك مؤسسات الرقابة، تسييس الجهاز القضائي، وفرض سيادة قومية ذات طابع توراتي. وإذا كانت ملامح هذا التحول واضحة في تعميق منظومة السيطرة على الفلسطينيين، فإن فصلاً داخلياً لا يقل أهمية يتمثل في إعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني.
في هذا السياق، يندرج مشروع قانون ضريبة الـ80% على منظمات المجتمع المدني، الذي قُدِّم إلى الكنيست تحت رقم 5222، وأُعِد لقراءته التمهيدية في 19 شباط 2025. ينص المشروع على فرض ضريبة بنسبة 80% على أي تبرع تتلقاه منظمة غير حكومية إسرائيلية من "كيان سياسي أجنبي" (أي دولة أو منظمة دولية)، باستثناء المنظمات التي تحصل على تمويل حكومي مباشر أو التي لا يتجاوز دخلها السنوي 100,000 شيكل. كما يمنع القانون هذه المنظمات، إذا كانت تعتمد غالباً على تمويل أجنبي، من التوجه إلى المحكمة العليا أو رفع دعاوى قضائية.
يمثل هذا المشروع خطوة نوعية في المسار التشريعي الهادف إلى تقليص الحيز المدني، وتجفيف مصادر تمويل منظمات حقوق الإنسان، ووصمها كأدوات "لتدخل سياسي أجنبي"، لا سيما تلك المعارضة لسياسات الاحتلال أو المؤيدة لحل الدولتين. وهو لا ينتهك فقط حق التقاضي، بل يعيد تعريف شرعية العمل المدني. يختلف هذا القانون عن سابقاته من حيث انتقاله من مرحلة الشفافية والوسم إلى مرحلة العقاب المالي والتجريم القانوني، في حين يُستثنى تمويل اللوبيات اليمينية، خاصة القادمة من الولايات المتحدة، ما يكشف عن طابعه الانتقائي والأيديولوجي، ويعكس سعياً لإخضاع المجتمع المدني لمنطق الولاء السياسي.
الآليات والتداعيات: من التضييق إلى إعادة هندسة الحقل المدني
يقف خلف قانون ضريبة الـ80% على الجمعيات في إسرائيل تيار أيديولوجي يميني تقوده جهات أبرزها منظمة "إم ترتسو"، التي تروج لرواية تعتبر التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني تهديداً مباشراً لـ "السيادة الوطنية". وفقاً لمعطيات نشرتها المنظمة، فقد تلقّت 485 جمعية إسرائيلية تمويلاً أجنبياً بلغ مجموعه نحو 2.4 مليار شيكل بين عامي 2012 و2024، منها 83 جمعية وُصفت بأنها "ذات نشاط سياسي"، أبرزها: "يش دين"، "عدالة"، "بتسيلم"، "السلام الآن"، و"أطباء من أجل حقوق الإنسان". وتزعم "إم ترتسو" أن هذه الجمعيات قدّمت ما يقارب 999 التماساً قانونياً ضد الدولة، ما تعتبره نشاطاً معادياً للمشروع الصهيوني.
لكن تداعيات القانون المقترح لا تقتصر على الجمعيات الحقوقية أو السياسية، بل تطاول أيضاً منظمات تُعنى بشؤون البيئة، النساء، الأطفال، وذوي الإعاقة، والتي تعتمد بدورها على تمويل خارجي في ظل غياب الدعم المحلي. الأخطر أن القانون يمنح وزير المالية صلاحية استنسابية لإعفاء جمعيات من الضريبة، وفق تقديراته الشخصية، ما يفتح الباب أمام مزيد من التسييس وتحويل الحقل المدني إلى أداة طيّعة في يدي السلطة التنفيذية.
في جوهره، لا يُعد مشروع القانون مجرد استجابة ظرفية لضغوط سياسية، بل إنه تجسيد لتحوّل بنيوي عميق يعيد تعريف المجتمع المدني بوصفه إما موالياً للسلطة أو "عدواً داخلياً". وبهذا تنتقل إسرائيل إلى مرحلة جديدة من السلطوية لا تستهدف فقط الفلسطينيين، بل أيضاً المعارضين من الداخل.
وقد أثار مشروع القانون نقاشاً واسعاً في إسرائيل، حيث اعتبره المعهد الإسرائيلي للديمقراطية تهديداً مباشراً للطابع الديمقراطي للدولة، محذراً من أنه يقوّض حرية التنظيم ويفرض قيوداً على حرية التعبير والعمل المدني. في المقابل، تروج منظمة "بتسيلمو" اليمينية للمشروع بوصفه أداة لحماية الأمن القومي ومنع "التدخلات الأجنبية"، وتعتبر أن منظمات مثل "لنكسر الصمت" و"سلام الآن" تُستخدم سياسياً لتقويض إسرائيل من الداخل.
ما هي التداعيات على الفلسطينيين
تشير حزمة القوانين التي أُقرت مؤخراً أو لا تزال قيد التشريع في إسرائيل إلى تحوّل جذري في بنية النظام السياسي، يتجاوز مجرد تعديلات قانونية أو خلافات حزبية داخلية. ما يحدث هو إعادة تعريف عميقة للنظام الحاكم، عبر بناء هندسة قانونية جديدة تشرعن التفوق اليهودي وتُفكك آليات المحاسبة، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي. هذه القوانين لا تقتصر على تقييد الحريات أو استهداف الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وفي الأراضي المحتلة، بل تسهم في تفريغ الديمقراطية الإسرائيلية من مضمونها، من خلال تقويض مبدأ الفصل بين السلطات، وتقييد الرقابة القضائية، ومنح حصانة شبه مطلقة للجيش والمستوطنين.
تكمن إحدى أبرز نتائج هذا التحول في تغيّر النظرة الإسرائيلية للفلسطينيين: من اعتبارهم، حتى وإن شكلياً، طرفاً سياسياً قابلاً للتفاوض، إلى تصنيفهم كـ"عدو دائم" يجب التعامل معه بأدوات أمنية خالصة. هذه المقاربة الجديدة تُعيد تشكيل العلاقة القانونية والسياسية على أسس الهيمنة والعداء، وتؤدي إلى تهميش أي أدوات قانونية دولية سابقة، وتجريم التعامل معها. تتعرض منظمات حقوق الإنسان، سواء الفلسطينية أو الإسرائيلية، لهجوم حاد، من خلال تجفيف مصادر تمويلها، ومنعها من الوصول إلى المحاكم، ووصمها كأذرع أجنبية تهدد الأمن القومي. وقد تجلّى ذلك في تصنيف ست منظمات فلسطينية كـ"إرهابية" العام 2022، ما أدى إلى تجميد دعمها وتقويض فعاليتها.
دولياً، تواصل إسرائيل رفض أي شكل من أشكال المحاسبة، وتُظهر ازدراءً واضحاً لمؤسسات الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية. أما داخلياً، فتتم إعادة هيكلة الحيّز المدني باتجاه واحد، حيث تُقمع الأصوات المعارضة، ويُفسح المجال لخطاب يميني تحريضي يتلقى دعماً رسمياً.