المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
إسقاط مساعدات على شمال غزة بالمظلات. (إ.ب.أ)

بتاريخ 2 نيسان 2024، قتلت إسرائيل 7 من عمال المطبخ المركزي العالمي في أثناء توزيعهم للمساعدات في قطاع غزة. هذا لم يكن مجرد حدث عابر، أو مُجرّد خطأ عسكري منفرد، وإنما هو جزء من سياق طويل تحولت فيه المساعدات الإنسانية ولوجستيات توزيعها إلى معركة حقيقية تحاول إسرائيل أن تستخدمها كسلاح لوضع معالم "اليوم التالي للحرب". على ما يبدو، تعتبر قضية توزيع المساعدات الإنسانية مسألة محورية بالنسبة للجيش الإسرائيلي: ففي النهاية، ستنسحب إسرائيل من القطاع، وسيتم الانتهاء من قضية الأسرى، بيد أن شكل الحكم وهياكل السلطة والإدارة في قطاع غزة ستبقى هي المركب الأهم، بحيث أن قضية توزيع المساعدات الإنسانية ستتحول إلى حجر الزاوية في تحديد معالم هذه السلطة في اليوم التالي للحرب.

الحصار والمجاعة: ما هي استراتيجية إسرائيل وأهدافها المرجوة؟

في 9 تشرين الأول، فرضت إسرائيل حصارا كاملا على غزة، وأعلن وزير الدفاع يوآف غالانت: "لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود - كل شيء مغلق". إلى جانب العمليات العسكرية- الحربية، فإن فرض الحصار على قطاع غزة ووضعها على شفا كارثة إنسانية، وربما مجاعة، ستتحول خلال الحرب الحالية إلى سلاح استراتيجي بيد إسرائيل. و"الكارثة الإنسانية" في قطاع غزة لم تحصل كنتيجة تلقائية لاستمرار الأعمال الحربية، وإنما هي استراتيجيا إسرائيلية مقصودة تهدف إلى تحقيق ثلاثة أمور:

1) تحسين قدرة إسرائيل في المفاوضات: تجويع سكان القطاع ومفاقمة الوضع الإنساني الكارثي من شأنه أن يحسن قدرة إسرائيل على المناورة في مفاوضات تبادل الأسرى مع حركة حماس. يستند هذا الهدف إلى افتراض ضمني لدى إسرائيل بأن الوضع الإنساني الكارثي في القطاع سيدفع المجتمع الغزي إلى الانتفاض على حركة حماس لتعجيل صفقة التبادل بأي ثمن كي ترفع إسرائيل يدها عن الحصار الذي قد يوصل القطاع إلى حد المجاعة.

2) إجبار الفلسطينيين على "الاقتناع" بعدم جدوى المقاومة: الكارثة الإنسانية التي يشهدها قطاع غزة هي الأولى من نوعها منذ اللجوء الفلسطيني عام 1948، خصوصا في ما يتعلق بالوصول إلى الاحتياجات الأساسية للحياة، وأهمها الطعام والشراب والدواء والحاجات الإنسانية الضرورية بحدها الأدنى. على العكس من الفقر (الذي هو وليد بنى اجتماعية) فإن الكارثة الإنسانية هي حالة مفتعلة بشكل مقصود من قبل الجيش الإسرائيلي الغازي، وهي "عقاب جماعي" على استمرار الفلسطينيين في المقاومة. إن رفع تكلفة المقاومة، وجعلها باهظة بشكل جماعي لا يمكن تحمله، ثم إثارة نقاشات أخلاقية بين الفلسطينيين حول الجدوى، والربح والخسارة، كلها تزيد من قدرة الردع الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين لطرد مفهوم المقاومة المسلحة من أجندة خيارات الشعب الفلسطيني نظراً للتكلفة التي لا يمكن تحملها أو درؤها.

3) التحكم في من يحكم قطاع غزة في اليوم التالي للحرب: التحكم في لوجستيات المساعدات هو أيضا استراتيجية عسكرية إسرائيلية للتحكم في طبيعة النظام الحاكم في القطاع في اليوم التالي للحرب. والحقيقة أنه لا يمكن تحويل لوجستيات المساعدات إلى أداة استراتيجية ضمن هذه الفهم (كم يدخل من المساعدات، كيف تتوزع، ومن يوزعها) إلا بتحقق شرط واحد وهو: إيصال قطاع غزة إلى شفا مجاعة، وفرض حصار مطلق، وتحويل "شح الموارد الأساسية" إلى مسألة روتينية يومية وليست مجرد أزمة عابرة. إذ إنه بتوفر هذه الشروط يمكن للوجستيات توزيع المساعدات أن تتحول إلى قضية حياة أو موت، أو مسألة وجودية يتم مقارنتها باستمرار بالمجاعة، والموت، والفلتان- وهذه النقطة التي تشرحها المقالة الحالية في ما يلي.

لوجستيات المساعدات الإنسانية أم لوجستيات الموت؟

المقصود بلوجستيات المساعدات هو: أولاً، كيف تدخل المساعدات إلى قطاع غزة، وعبر أي معابر، وما هي كميتها ونوعيتها مقارنة باحتياجات السكان؟ ثانياً، كيف يتم توزيعها بين الأهالي والعائلات والمؤسسات كالمستشفيات والمراكز الصحية، وأي طرق لوجستية يتم إجبار قوافل المساعدات على عبورها. وثالثاً، وهو السؤال الأهم، يتعلق بمن هي الجهة التي توزع هذه المساعدات الإنسانية داخل القطاع، هل هي حركة حماس، أو شرطتها المدنية، أم عائلات وعشائر، أو منظمات دولية، أو وكالة الأونروا، أو الجيش الإسرائيلي نفسه؟

0202020

خارطة 1: خارطة نشرها مكتب الأمم المتحدة لشؤون الجهود الإنسانية بتاريخ 27 آذار 2024. ويظهر في الخارطة التالي: 1) شارع صلاح الدين (باللون الأحمر) وهو شارع سريع لتوزيع المساعدات الإنسانية، لكن إسرائيل قامت بحظر التنقل عليه. 2) شارع الرشيد الساحلي (باللون الأزرق) وهو طريق أطول ومكتظ وبطيء، قامت إسرائيل بتخصيصه لتوزيع المساعدات. 3) مناطق فلتان أمني وانعدام سلطة (باللون الأصفر) وهي تتواجد على شارع الرشيد. 4) مناطق قصف وأعمال حربية (باللون البرتقالي) وهي تتواجد على الطريق الرئيس الوحيد المؤدي إلى شمال القطاع.

يسلط تحليل أليكس دي وال (Alex De Waal)، لا سيما في كتابه جرائم المجاعة: السياسة وصناعة الإغاثة في حالات الكوارث في أفريقيا، الضوء على الجانب المظلم للمساعدات الإنسانية أثناء الحروب. يجادل دي وال بأن المساعدات ليست قضية "معونة" و"شفقة" كما يعتقد معظم المراقبين، بل إنها غالبا ما تتشابك مع الاستراتيجيات السياسية والعسكرية ويمكن للجيش المتحكم بالحرب أن يتلاعب بالمساعدات ويحول الإغاثة إلى سلاح حرب.

في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تبرز مسألة إدخال المساعدات الإنسانية، ولوجستيات توزيعها، والمجموعات المسؤولة عن إيصالها إلى العائلات، باعتبارها قضية استراتيجية وحقلاً آخر أساسياً للصراع والاقتتال عليه.  وكشفت العديد من الدراسات كيف يمكن للجيوش أن تمارس نفوذاً كبيراً على السكان خلال الحرب، خصوصاً عندما تفرض حصاراً محكماً وتحتكر بالتالي منافذ إدخال "المساعدات". وعند النظر إلى لوجستيات إيصال المساعدات باعتبارها أداة استراتيجية بيد الجيش الإسرائيلي، فإن الدراسات تذكرنا بتجارب مشابهة تم استخدام اللوجستيات فيها لإعادة تشكيل هياكل الحكم، وإنشاء شبكات بديلة من الإدارة والسلطة والمحسوبية تتناسب مع مصالح الجيش الغازي.

 مثلا، ديبورا كوين (Deborah Cowen)، في "الحياة المميتة للخدمات اللوجستية: رسم خرائط العنف في التجارة العالمية"، يضع لنا إطارا أساسيا لفهم الآثار الأوسع للوجستيات والتوزيع كأدوات للحوكمة. يوضح كوين كيف أن إدارة الشبكات اللوجستية والسيطرة عليها تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد إيصال مساعدات لمجتمع محتاج، بل إنها تتحول أيضا إلى حيز يتيح للاعبين (قد يكونون فلسطينيين، عشائر غزية، أو أطراف عربية- دولية، أو منظمات... إلخ) إبراز قوتهم، وعرض قدرتهم على ضبط اللوجستيات و"توزيع الخيرات"، وبالتالي إنتاج هرميات جديدة من القوة والنفوذ قد تكون بديلا مقبولا لإسرائيل لاستبدال حكومة حماس. وبالنظر إلى الخارطة، فإن الطرق الممنوعة، والطرق المسموحة، ومناطق تواجد الفلتان وانعدام الإدارة قد لا تكون قضايا تلقائية وإنما مفتعلة أو على الأقل يتم التحكم بها من قبل الجيش الغازي. وبناء على تحليل كوين، يمكن النظر إلى العنف الذي تبديه إسرائيل في حربها تجاه شبكات التوزيع واللوجستيات المختلفة على أنه استراتيجية متعمدة، ومقصودة، وغير عشوائية، وهو ما يشير اليه الجدول أدناه والذي يضع الهجوم الإسرائيلي الذي أدى إلى مقتل 7 عاملين في المطبخ الدولي، بتاريخ 2 نيسان 2024، ضمن سياق طويل من الهجمات المشابهة (الجدول يعرض أهم الأحداث وليس جميعها):

25 كانون الثاني 2024

هجوم إسرائيلي على طالبي المساعدات أدى إلى مقتل 20 شخصا وإصابة 150 آخرين كما ذكرت وزارة الصحة في غزة

5 شباط 2024

قصفت إسرائيل شاحنة طعام كانت متجهة إلى شمال غزة، وعلى الفور أعلنت الأونروا أنها لا تستطيع إيصال مساعدات تحت القصف

6 شباط 2024

أطلقت القوات الإسرائيلية النار باتجاه أشخاص كانوا ينتظرون شاحنات المساعدات الغذائية في مدينة غزة، وحسب الأمم المتحدة، هذه هي الحادثة الخامسة من نوعها

27 شباط 2024

حسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (UNOCHA)، تم منع قوافل المساعدات وبشكل منهجي من الوصول إلى المحتاجين، مع تعرض القوافل لإطلاق النار.

28 شباط 2024

استشهد ثلاثة أشخاص أثناء انتظارهم للمساعدات في شارع الرشيد

29 شباط 2024

استشهاد أكثر من 100 شخص يسعون للحصول على مساعدات إنسانية في مجزرة الطحين بعد إطلاق النار الإسرائيلي على دوار النابلسي.

3 آذار 2024

استشهد 9 أشخاص في غارة جوية في دير البلح كانوا ينتظرون المساعدات ثم تم قتل العشرات في هجوم آخر على طالبي المساعدات في دوار الكويت

4 آذار 2024

هجوم على دوار الكويت بعد أن انتظر الناس طوال اليوم للحصول على المساعدة حيث فتح الجنود الإسرائيليون النار بمجرد وصول الشاحنات

8 آذار 2024

استشهاد عدة أشخاص يسعون للحصول على مساعدات إنسانية بنيران إسرائيلية على دوار الكويت

8 آذار 2024

استشهاد 5 أشخاص في عملية إنزال جوي فاشلة للمساعدات الملقاة من الطائرات

14 آذار 2024

أطلقت القوات الإسرائيلية النار على الفلسطينيين في دوار الكويت، مما أسفر عن استشهاد 20 شخصا وإصابة أكثر من 150 آخرين.

19 آذار 2024

استشهاد حوالي 23 شخصا عندما استهدفت طائرات مقاتلة إسرائيلية مجموعة من منسقي المساعدات في دوار الكويت

26 آذار 2024

غرق واستشهاد حوالي 12 شخصا أثناء محاولتهم استعادة طرود المساعدات التي وقعت في البحر

2 نيسان 2024

مقتل 7 عاملين في المطبخ المركزي الدولي أثناء توزيعهم للمساعدات في قطاع غزة

لوجستيات الموت: إلى حين صعود أطراف بديلة قادرة على استبدال إدارة حماس للقطاع؟

منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وبدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، برز سؤال "اليوم التالي للحرب" في النقاشات اليومية، والتحليلات العسكرية، لكنه كان وما يزال حتى كتابة هذه المقال سؤالا مطروحاً بدون وجود تصور إسرائيلي واضح، وقابل للتطبيق. وسؤال اليوم التالي ينطوي على العديد من المركبات أهمها: أولا، ماذا تفعل إسرائيل لتضمن أن قطاع غزة في اليوم التالي سيكون قطاعاً مسالما تنعدم فيه رؤية المقاومة، أو الكفاح المسلح، أو التهديد بالصواريخ، أو الهجمات المتكررة؟ ثانيا، ماذا تفعل إسرائيل لتضمن أن السلطة الحاكمة في قطاع غزة لا تكون معادية لإسرائيل، وإنما تقيم علاقات أمنية وطيدة معها؟ ثالثا، ماذا تفعل إسرائيل لاغتيال حركة حماس (وليس مجرد قيادي من حماس، أو مسؤول عسكري بعينه)، وبالتالي إسقاطها عن الحكم؟ على الرغم من أن هذه الأسئلة متداخلة، إلا أن الإجابة عليها لم تحظ حتى الآن بخطة استراتيجية واضحة.

في بداية كانون الثاني 2024، وضع وزير الدفاع غالانت خطة أولية سماها "خطة اليوم التالي للحرب" وعرضها للنقاش أمام الكابينيت الحربي. وفي شهر شباط 2024، قدم نتنياهو خطة تتعلق "باليوم التالي للحرب". وبغض النظر عن مضامين هذه الخطط التي تم استعراضها من قبل مركز مدار في نشرات سابقة من المشهد (أنظر/ي هنا وهنا وهنا)، إلا أنه من الواضح أنها لم تحظ باهتمام شديد، ربما بسبب عدم قابليتها للتطبيق، على الأقل حسب مجريات الحرب الحالية. في وقت مبكر بعد اندلاع الحرب، عرضت مراكز أبحاث استراتيجية مقربة من صناع القرار العسكريين والسياسيين الإسرائيليين والأميركيين، خططاً ومقترحات لليوم التالي للحرب، وهي رؤي ظلت على الورق ولا يمكن الادعاء بأن الجيش الإسرائيلي نقلها إلى حيز التطبيق العملي. ومهما يكن من أمر، يمكن التذكير ببعض المجريات المهمة التي تتعلق بتحكم إسرائيل بالجهات التي توزع المساعدات الإنسانية:

  • بتاريخ 21 آذار 2024، نقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن مسؤولين (على الأغلب إسرائيليين أو أميركيين) قولهم إن إسرائيل تباحثت مع مصر والإمارات والأردن بشأن خطة من شأنها أن تسمح لرجال أعمال فلسطينيين (على الأرجح رجال أعمال من أصول غزية لكنهم مغتربون) بالقيام بعمليات توزيع المساعدات والاضطلاع بالتالي ببعض الوظائف الأساسية لحكومة فلسطينية بديلة.
  • خلال شهري شباط وآذار 2024، نقلت مصادر إعلامية موثوقة أنباء عن مساعي إسرائيل لفتح قنوات اتصال مع عشائر وعائلات في شمال قطاع غزة، لفحص إمكانية اضطلاعهم بدور مركزي في تسلم وتوزيع المساعدات والاحتياجات الأساسية، والتي بدونها قد يصل شمال قطاع غزة إلى مرحلة المجاعة والفلتان الأمني. وقد أكدت تقارير أخرى حصول هذه المباحثات، لكنها أكدت أن العشائر في نهاية المطاف رفضت التعاون مع الجيش الإسرائيلي ضمن هذه الظروف.
  • في آذار، أعلن مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية أن نتنياهو يرفض أي دور للسلطة الفلسطينية في إدارة شؤون المساعدات الإنسانية وتوزيعها. وجاء هذا الإعلان بعد أن اجتمع ماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية، مع تساحي هنغبي، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي. وحسب وول ستريت جورنال، فإن اللقاء تضمن نقاشاً حول "تشغيل" أفراد من السلطة الفلسطينية داخل قطاع غزة في مجال توزيع المساعدات. أما محمد دحلان، والذي ورد اسمه في أكثر من تحليل استراتيجي يخص "اليوم التالي بعد الحرب"، فقد أعلن بشكل مباشر أنه لا يعتزم أخذ أي دور في حكم قطاع غزة وأن على المجتمع الدولي الاعتراف بأنه لا يمكن القضاء كلياً على حركة حماس.
  • لكن هذه الادعاءات التي تتوارد في الإعلام الإسرائيلي والغربي، لا تنحصر في البحث عن لاعبين جدد لاستبدال حركة حماس. الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بالإضافة إلى دول إقليمية أخرى، تساهم في وضع خطط قد تبدو أنها منشغلة في القضية الإنسانية وايصال مساعدات، لكنها أيضا تتقاطع مع تطلعات إسرائيل في ما يخص اليوم التالي للحرب. أحد أهم هذه الجهود هو مقترح أوقيانوسيا القبرصية إقامة جسر بحري لإيصال المساعدات بكميات كبيرة إلى شواطئ القطاع، بالإضافة إلى اعلان الولايات المتحدة نيتها إقامة ميناء بحري عائم في قطاع غزة لتسهيل هذه الجهود. حتى الآن، هذه الخطط تقول الكثير حول مصدر هذه المساعدات، وكيفية إيصالها إلى القطاع لكنها تكاد لا تقول شيئا عما سيحصل بعد وصول هذه المساعدات إلى القطاع، ومن سيوزعها.
  • على مدار أشهر الحرب، كانت هناك ساحة حرب أخرى بين الجيش الإسرائيلي والشرطة المدنية التابعة لحركة حماس والتي بدت قادرة على مواصلة الجهود في الاستحواذ على المساعدات، وتوزيعها على كامل القطاع. فقد هاجمت إسرائيل شرطة حماس المدنية، واللجان الشعبية التي أفرزتها لتوزيع المساعدات التي تدخل القطاع، وأدى الأمر إلى استشهاد العديد من العناصر المدنية، بالإضافة إلى مدنيين من طالبي المساعدات. وترافق الأمر مع حملة إعلامية إسرائيلية تتهم فيها حركة حماس بالسيطرة على المساعدات، و"سرقتها" لتمويل قيادتها المختبئة داخل الأنفاق وحرمان السكان من الحصول على هذه المساعدات، وهو ما يعطي ذريعة لإسرائيل لضرب هذه الشرطة المدنية. لكن لم يكن هناك مجال للتحقق من هذه الادعاءات بشكل علمي، أو الحصول على ردود من قبل حماس نفسها.

الخلاصة

في ختام هذا المقال، من الضروري القول إن الحادث المأساوي الذي تورط فيه الجيش الإسرائيلي وأدى إلى قتل 7 عمال في المطبخ المركزي العالمي ليس حدثاً عابراً، أو وحيداً، بل هو أحد فصول استراتيجية إسرائيلية أوسع وأكثر منهجية. وعلى الرغم من الاهتمام الإعلامي الكبير الذي حظي به هذا الحدث، لا سيما بالمقارنة مع استشهاد 100 فلسطيني في دوار طحين، فإن كلا الحادثين يعكسان الاستخدام المتعمد للأزمات الإنسانية كسلاح استراتيجي في الصراع المستمر. تمتد تكتيكات الجيش الإسرائيلي إلى ما هو أبعد من الحرب التقليدية، حيث يتم التلاعب بتوزيع المساعدات وتنسيق ظروف المجاعة كأدوات لتأكيد الهيمنة والتحكم وإعادة هندسة هياكل السلطة والإدارة داخل قطاع غزة، مما يعيد إلى الواجهة الدور المركزي للإدارة المدنية ووحدة المنسق، وليس فقط الجيش المقاتل. لقد عجزت إسرائيل حتى الآن عن وضع ملامح "اليوم التالي" من خلال فوهات البنادق، وبالتالي فإن تحكمها في لوجستيات التوزيع وقضية المساعدات الإنسانية تتحول تدريجيا إلى نهج لإخضاع القطاع من خلال الاستفادة من نقاط الضعف الرهيبة للسكان المدنيين الذين هم على شفا الانهيار الإنساني، وربما المجاعة وانعدام الأمن والإدارة المركزية. إن الدفع المتعمد نحو أزمة إنسانية تستهدف قوت أكثر من 2 مليون فلسطيني، لا يثير تساؤلات أخلاقية عميقة فحسب، بل يشكك أيضا في فعالية المنظومة الدولية المصممة لحماية السكان المدنيين في أوقات الحرب.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات