المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
جدعون ساعر وبني غانتس بعد إعلان اتحادهما في 2022. (فلاش 90)

يختتم الكنيست الإسرائيلي، في الأسبوع الأول من شهر نيسان الجاري، دورته الشتوية، في ظل الحرب المستمرّة على قطاع غزة، وحالة وأنظمة الطوارئ الثانية، التي تعلنها إسرائيل خلال 76 عاما. انعكست هذه الأجواء على الأجواء البرلمانية، وأدت إلى انعدام صوت المعارضة من الكتل الصهيونية، في كل ما يتعلق بالحرب وقوانين الطوارئ، التي منها ما هو غير مسبوق. وعلى الرغم من أن بنيامين نتنياهو يتمتع بائتلاف متماسك، لا يهدد استمرارية حكومته، فإنه سعى من خلال توسيع الائتلاف في فترة الحرب، لبث رسالة سياسية للعالم والشارع الإسرائيلي. وعلى الرغم من ما نشاهده من جدل سياسي صاخب، خاصة في الآونة الأخيرة، حول قانون تجنيد شبان الحريديم، فإن الائتلاف الأساس الذي يرتكز على 64 نائبا، ما زال متماسكا، إذ إن تلاقي المصالح فيه يمنع تفككه.

ومع مرور 6 أشهر على بدء العدوان المستمر على قطاع غزة، تكون هذه الحرب الأطول لإسرائيل خلال 76 عاما، لكن خلافا للحروب السابقة، فإن من يمسك بدفة الحكم حاليا هو التيار السياسي الذي لم يكن يخطر ببال الحلبة السياسية الإسرائيلية، حتى قبل 8 سنوات، وربما أقل، أن يكون في مركز القرار، والقصد أكثر أحزاب اليمين الاستيطاني الأشد تطرفا، والحركات المنبثقة عن حركة "كاخ" الإرهابية، المحظورة شكليا في إسرائيل، وأيضا في دول عديدة في العالم، وأحد أبرز عناوين هذه الحركات، إيتمار بن غفير، الذي يقود واحدا من أقوى الأجهزة الأمنية: جهاز الشرطة وما يسمى بـ "حرس الحدود"، وهذا انعكس في نهج سياسات غير مكتوبة، ولا ينص عليها أي قانون أو حتى أنظمة طوارئ.

قوانين حرب وسياسات

قبل انقضاء يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كانت الحكومة الإسرائيلية قد أعلنت حالة الحرب، وهذه المرّة الثانية خلال 76 عاما، التي تعلن فيها إسرائيل أنها في حالة حرب، فهي على سبيل المثال، لم تفعل هذا في حربها على لبنان في العام 1982؛ وفي اليوم التالي، حصل القرار على مصادقة لجنة الخارجية والأمن البرلمانية، بموجب ما يقتضيه القانون. ورافق هذا القرار فرض أنظمة طوارئ، وتبعتها سلسلة من الأنظمة والقوانين الجديدة.

فخلال أيام معدودة جدًا، بدأت الحكومة تعرض مشاريع قوانين والكنيست يقرها بدعم فوري من كتل المعارضة الصهيونية، ويبدو أنها مشاريع قوانين كانت جاهزة منذ زمن، مثل القانون الذي يجيز خرق القانون الدولي بشأن المساحة المتاحة للسجين/ الأسير، وتم عرضه على أنه قانون طوارئ مؤقت لكن تم تمديده ثلاث مرات، حتى انتهاء الدورة الشتوية، وكذا القانون الذي يمنع أسرى، أو حسب التسمية الأخرى "مقاتلين غير شرعيين"، نسبة لعناصر المقاومة من قطاع غزة، من الالتقاء بمحامين أو جهات حقوق إنسان أشهرا عدة، يتم تمديدها.

وكانت المرّة الأولى التي أعلنت إسرائيل فيها أنها في حالة حرب، في حرب تشرين الأول/ أكتوبر العام 1973، لكن في هذا الفارق، 50 عاما بالضبط، تم تكثيف أنظمة الطوارئ وتغليظ وتشديد وزيادة قوانين الاستبداد وسلب الحريات، وكل هذه انضمت لأنظمة حالة الحرب. عدا هذا، فقد لمست الجماهير الفلسطينية في إسرائيل، وإلى حد ما نشطاء سلام إسرائيليون (رغم محدودية عددهم)، بشكل خاص في بدايات الحرب، أنه يتم تطبيق سياسات لا ينص عليها أي قانون، ولا حتى قانون وأنظمة الطوارئ.

الأمر الأبرز في هذا الجانب، هو المسارعة بالملاحقات السياسية على أيدي عناصر الشرطة، وبأوامر واضحة من الوزير المختص، إيتمار بن غفير. وبدأت الاعتقالات على خلفية منشورات في شبكات التواصل، والحديث يدور عن المئات من فلسطينيي الداخل، بموازاة الاعتقالات اليومية المكثفة في جميع أنحاء الضفة والقدس. ثم حظر أي شكل من أشكال التظاهر، حتى الوقفات التي لا تحتاج لترخيص، والتي يشارك فيها حتى 50 شخصا؛ وجرت ملاحقة تظاهرات كهذه حتى قبل أن تبدأ، وبشكل خاص قمع محاولة للجنة المتابعة العليا لفلسطينيي الداخل، واحتجاز رئيسها وعدد من قادة اللجنة، ومنهم أعضاء كنيست سابقون.

ولم تعبّر المعارضة البرلمانية، التي كانت تملأ المدن بمظاهرات غاضبة تحت شعارات حماية الديمقراطية، عن اعتراضها على ما يجري في الشارع من قمع لفلسطينيي الداخل في الأساس، وأيضا لعناصر سلامية إسرائيلية، بل رأيناها تقف إلى جانب الحكومة في كل القوانين القمعية، التي تنقض أبسط قواعد الديمقراطية والحريات الأساسية، وكذا أيضا المحكمة العليا الإسرائيلية، التي ساندت قرارات لا أساس قانونياً لها، يصدرها جهاز الشرطة، تحت غطاء حالة الحرب، وانشغال أجهزة الشرطة في قضايا أمنية.

توسيع قاعدة الحكومة: حكومة طوارئ

بعد 11 يوما من اندلاع الحرب، في الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، انضمت كتلة "المعسكر الرسمي" بزعامة الجنرال احتياط، بيني غانتس، إلى حكومة الطوارئ، على أن تنتهي هذا الشراكة مع انتهاء حالة الحرب المعلنة. وبموجب الاتفاق، فقد تشكل طاقم وزاري مقلص لإدارة الحرب، ضم نتنياهو وغانتس، ووزير الدفاع يوآف غالانت، وضم وزيرين بصفة مراقبين هما: الشخص الثاني في "المعسكر الرسمي"، الجنرال احتياط غادي أيزنكوت، وعن حزب الليكود، الشخص الأكثر قرباً لنتنياهو، رون ديرمر، السفير السابق في واشنطن. وهذا طاقم يضم ثلاثة جنرالات احتياط، منهم اثنان رئيسا هيئة أركان.

وكما ذكر سابقا هنا، فإن هذه الخطوة أرادها نتنياهو لبث رسالة سياسية حول تماسك الجبهة الداخلية الإسرائيلية، بشأن شن الحرب. وبقيت في صفوف المعارضة كتلتا "يوجد مستقبل" وهي الأكبر، و"إسرائيل بيتنا"، لكنهما لم تتصرفا ككتلتي معارضة بل مدّتا الائتلاف بدعم سياسي فوري، في حين أن نواب كتلة المعارضة الصهيونية الأصغر، العمل، غالبا غائبون عن جلسات الهيئة العامة، وجلسات التصويت، وساهمت في هذا حالة الإحباط التي تسود الحزب، الذي تُجمع كل استطلاعات الرأي الإسرائيلية منذ عام، على ابتعاده عن نسبة الحسم في أي انتخابات برلمانية مقبلة.

بددت منهجية الحرب ومسارها المتطرف كل الفرضيات التي انتشرت مع بداية الحرب، ومفادها أن قرار غانتس وأيزنكوت الدخول لحكومة الطوارئ مرده كي يكونا لاجمين للتطرف المستفحل أكثر فأكثر في الائتلاف الأساسي لحكومة نتنياهو، وكل ما يظهر في وسائل الإعلام عن خلافات بين غانتس وأيزنكوت من جهة، وفريق نتنياهو من جهة أخرى، بعيدة كل البعد عن الجوهر، وهي تدخل في إطار أمور إجرائية، ممكن اعتبارها هامشية جدا، في ضوء مجريات الحرب.

يوم 12 آذار الماضي، أعلن شريك غانتس في تحالف "المعسكر الرسمي"، جدعون ساعر، عن شق التحالف، وتشكيل كتلة برلمانية، مع زملائه الثلاثة المنشقين جميعا عن حزب الليكود قبل 3 سنوات، أطلقوا عليها اسم "اليمين الرسمي"، رغم أن اسم الحزب الذي أسسه ساعر هو "أمل جديد"، وأعلن ساعر مطالبته بالانضمام للطاقم الوزاري المقلص لإدارة الحرب، الذي يرتكز على جنرالات ورئيسيْ أركان سابقيْن، في حين أنه ليس لساعر ماض عسكري قيادي، حتى يطلب تصحيح المسار وتعزيزه، خاصة أن غيره من شركاء الائتلاف كانوا قد طلبوا الانضمام ولم يستجب لهم.

قالت الفرضيات يومها إن ساعر قرأ الخارطة السياسية المستقبلية، وبحث عن مسار يبقيه هو وزملاؤه في الحلبة البرلمانية، لذا اختار فك الشراكة مع غانتس، التي كان من المتوقع تفككها قبل أي انتخابات برلمانية، بسبب عدم وجود قيمة انتخابية وشعبية لساعر وفريقه. وفرضيات أخرى رأت أن ساعر يريد البقاء في ائتلاف نتنياهو حتى بعد انتهاء حالة الحرب، ويعزز الائتلاف القائم.

إلا أن هذه الخطوة لم تأت لساعر بشيء، فقد ظهر في قاع استطلاعات الرأي، بعد يوم وثلاثة أيام من إعلانه، وفي الأسبوع التالي قالت غالبية الاستطلاعات إن حزبه لن يجتز نسبة الحسم. وفي يوم 25 آذار، أعلن ساعر وكتلته الانسحاب من حكومة الطوارئ، بزعم عدم الاستجابة لطلبه بالانضمام لطاقم إدارة الحرب. وهذا القرار أيضا لم يساعده بشيء في استطلاعات الرأي، سوى أن بعضها قال إنه وصل إلى نسبة الحسم لا أكثر، بكلمات أخرى، فهو متأرجح عندها.

سارعت بعض وسائل الإعلام إلى اعتبار قرار ساعر من حكومة  الطوارئ بأنه بمثابة بداية تفكك حكومة نتنياهو، من دون الانتباه إلى تماسك الائتلاف الأصلي الذي يرتكز على 64 نائبا، فحتى لو انسحب غانتس وفريقه أيضا من الحكومة، فهذا لن يؤثر على الائتلاف، الذي يشهد من حين إلى آخر بعض "النرفزات"، إن صح التعبير، إلا أن جميع الكتلة ونوابها تعرف تماما أنها تقف على سجادة واحدة، وتتنبأ لها كل الاستطلاعات بأنها ستخسر الحكم في حال جرت الانتخابات في هذه المرحلة، لذا فإن أي تفكيك لهذا الائتلاف سيؤدي إلى خسارة كل كتلة، وعشرات النواب فيها، مكتسبات سياسية ومالية، وأيضا الوجود أصلا في البرلمان الإسرائيلي.

قانون تجنيد الحريديم

في الأسابيع القليلة الأخيرة، عاد إلى السطح قانون إلزام شبان الحريديم بالتجنيد في الجيش، وهذا قانون متداول في الكنيست منذ نهايات سنوات الثمانين وحتى يومنا، ومرّ بصياغات ضعيفة عدة؛ وحتى ما أقر منها، كان لفترة قصيرة، ولم تطبق على أرض الواقع، حتى في ظل حكومات لم تكن أحزاب الحريديم شريكة فيها.

لكن على الرغم من الصخب الشديد حول قضية إلزام تجنيد شبان الحريديم، وما ظهر وكأنه أزمات، على مر ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن، فإن هذه القضية لم تكن سببا أساسيا ولا رئيسا، في حل أي حكومة إسرائيلية، على الرغم من أنه في بعض الأحيان كان إدراجها كبند ثانوي ضمن سلسلة بنود لحل الكنيست. وكل حكومة جديدة تتشكل بعد كل انتخابات، كانت تنقل لحضنها هذه الكرة المشتعلة، لكن نارها لم تكن حارقة في أي يوم.

في الأيام الأخيرة، صدر عن المحكمة العليا الإسرائيلية قرار من شأنه أن يقود لأزمة جديدة لدى مؤسسات الحريديم الدينية، ويقضي القرار بحجب الميزانيات الممنوحة لهذه المعاهد عن الطلبة الذين من المفروض أن يسري عليهم قانون التجنيد الالزامي بصيغته الأخيرة، التي لم تطبق على أرض الواقع، بدءا من يوم الأول من نيسان الجاري، وحسب تقديرات وزارة المالية فإن الحديث يجري عن 600 مليون شيكل سنويا، (163 مليون دولار)، وقرار المحكمة هذا يسري حتى سن قانون جديد ملزم.

جاءت ردود الفعل من كافة الأطراف حذرة، فالحريديم وجهوا حرابهم للمحكمة العليا، وهذا يثبت سبب حماستهم لمشروع قانون "فقرة التغلب"، الذي من حيث الجوهر يلغي صلاحية المحكمة في نقض قوانين يقرها الكنيست، أو قرارات تتخذها الحكومة. لكن لم يصدر أي موقف يهدد بمغادرة حكومة نتنياهو، لأن خطوة كهذه تعني إطالة الفترة حتى سن قانون مريح للحريديم، لأن حل الحكومة وحل الكنيست، سيعني أن الحكومة ستصبح حكومة انتقالية ليست لها صلاحيات حتى في خرق قرار محكمة، كذلك فإنه ليس مضمونا للحريديم أن أي حكومة مقبلة ستكون قادرة على تلبية مطالبهم، وهم حاليا شركاء في الحكومة الأكثر تفضيلا لهم.

كذلك فإن بيني غانتس، وكتل المعارضة الصهيونية، جاءت ردودها باهتة، لأنه لا أحد معني بالدخول بصدام مع أحزاب الحريديم، خاصة مع كثرة الحديث عن انتخابات برلمانية، لأنه لا يمكن تشكيل حكومة متينة ثابتة، من دون الحريديم، أو جزء منهم.

ما يراد تحديده هنا، هو أن مشكلة الحريديم ليست مع الشركاء في الائتلاف الأساس، وإنما مع المحكمة العليا، وأكثر من هذا، فبالنسبة لهم هذا الائتلاف هو الحامي الأكبر لهم. لذا فإنه في هذه القضية بالذات، التي سيبحث فريق نتنياهو عن مخرج لها في وقت قصير نسبيا، من المستبعد أن تقود لحل الحكومة الحالية، وبالذات تفكيك الائتلاف الأساس الذي ترتكز عليه حكومة نتنياهو.

عطلة برلمانية قصيرة واستمرار الأجندة نفسها

عطلة الربيع البرلمانية تستمر عادة من 6 إلى 7 أسابيع على الأكثر، وفي ظل الوضع القائم، مع عدم وجود أفق لوقف الحرب، فإن الكنيست سيواصل الانشغال بالأجندة نفسها، مع تركيز خاص في البحث عن صيغة توافقية مع الحريديم لسن قانون جديد ملزم بتجنيد شبان الحريديم، الذين يمتنعون عن الخدمة العسكرية بقرار قياداتهم الدينية، لدوافع دينية معلنة، رغم تشددهم السياسي اليميني الاستيطاني، لكن في خلفية هذا الرفض تخوف قادة الحريديم من أن الانخراط الكامل في الجيش سيقرّب الأجيال الشابة إلى العالم المفتوح، ويقود نسبة عالية منهم إلى خارج مجتمع الحريديم المنغلق على نفسه.

من جانب آخر، فإن هذه الحكومة لا تواجه ضغطا شعبيا حقيقيا يقود إلى تفكيكها، فالحراك الأقوى نسبيا في الشارع الإسرائيلي حاليا يدعو لفعل كل شيء لاستعادة الرهائن من قطاع غزة، ويغيب عن هذا الحراك مطلب وقف الحرب، الذي ترفعه مجموعات صغيرة جدا من القوى السلامية الإسرائيلية. وكذا أيضا بالنسبة لحراك ضعيف آخر يدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية، وهو مطلب ليس واقعيا في النظرة الإسرائيلية العامة، لكون إسرائيل حاليا في ظل حرب.

ومن باب استكمال ذكر الأجواء المحيطة بالحكومة الإسرائيلية في الحلبة الدولية، فإن الضغوط المعلنة من جانب دول، وخاصة من جانب الإدارة الأميركية، على بنيامين نتنياهو، بشأن مسار الحرب، يمكن القول إنها ليست بالوزن الذي يقود إلى أزمة إسرائيلية داخلية، بل هي من حيث الجوهر خلافات جانبية، حول تفاصيل شكل استمرار الحرب ووتيرتها وليس حول ضرورة وقفها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات