المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
المغنية الإسرائيلية نيتاع برزيلاي في نهائيات اليوروفيجن عام 2018. (وكالات)

تُعتبر الحرب على الرأي العام العالمي من أصعب التحديات التي تواجهها إسرائيل في الوقت الراهن. فقد شهدت الدولة انحداراً يومياً في مستويات الدعم الدولي التي تحظى بها، وذلك بسبب انتشار صور القتل والدمار التي خرجت من قطاع غزة إلى أرجاء العالم، بالإضافة إلى المحاكمات القضائية التي جرت في لاهاي ضدها، بغض النظر عن نتائجها النهائية.

لمواجهة هذا التحدي، اعتمدت إسرائيل منذ نشأتها على استراتيجية "القوة الناعمة" في جهودها الدبلوماسية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية، بهدف كسب الشرعية الدولية. وتُعتبر الدبلوماسية الثقافية واحدة من أهم الاستراتيجيات التي تستخدمها إسرائيل لتحقيق هذه الغاية، حيث تولي اهتماماً كبيراً للمشاركة في الأحداث الثقافية والفنية والرياضية والتكنولوجية من حول العالم أجمع، بغرض ترويج صورتها كدولة ديمقراطية ومتحضرة وليبرالية ومتعددة الثقافات وأنها جزء من  نادي دول غرب أوروبا، وإخفاء قدر الإمكان نظام الأبرتهايد الذي تحكم به الفلسطينيين.[1]

ومن بين الجهود البارزة التي قامت بها إسرائيل مؤخراً في هذا الصدد، المشاركة في الأحداث والمسابقات الرياضية في عدد من الدول العربية قبيل توقيع اتفاقيات أبراهام. كما تستخدم إسرائيل استراتيجية متواصلة لتصوير نفسها كمبعوثة أوروبية في الشرق الأوسط، جاءت لنشر الحداثة الغربية، وهي استراتيجية سعت لتطبيقها منذ قبل قيامها كدولة. وتسعى إسرائيل إلى استغلال العديد من الأحداث الدولية لبناء هذه صورة ايجابية عن نفسها، ومن بين هذه الأحداث تبرز مشاركتها في مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" - مسابقة الأغاني الأكثر أهمية في أوروبا، حيث تحاول من خلال المشاركة في هذا الحدث ممارسة ما يمكن وصفه بـ "الغسيل الفني"، أي استخدام الفن والثقافة لتحسين صورتها وإظهار انتمائها للحضارة الأوروبية.

تصاعد الجدل حول مشاركة إسرائيل في يوروفيجن

غير أن مشاركة إسرائيل في مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن"، التي تعتبرها وسيلة للترويج لصورتها كجزء من الكيان الثقافي الأوروبي، لا تخلو من الجدل والانتقادات. فقد أثارت هذه المشاركة  هذا العام  غضباً واسعاً في أوساط عديدة، مما أدى إلى ظهور مطالبات بمنع إسرائيل من المشاركة في المسابقة، وتهديدات بمقاطعة الـ"يوروفيجن" في حال مشاركتها هذا العام. تأتي هذه الردود الغاضبة في سياق حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.

تنظم مسابقة الأغنية الأوروبية هذه السنة في مالمو بالسويد في شهر أيار القادم، وتشارك في هذا الحدث الذي يشاهده في بث مباشر نحو 180 مليون نسمة، نحو 40 دولة من حول العالم.

وتشارك إسرائيل بأغنية تحت عنوان "Hurricane" التي تؤديها عيدن جولان الإسرائيلية من أصول روسية، التي مثلت روسيا سابقاً في اليوروفيجن. ولم تكن مشاركة إسرائيل في المسابقة سهلة، فقد أرادت في البداية المشاركة بأغنية بعنوان "October Rain" تتناول أحداث 7 أكتوبر من العام الماضي. لكن اتحاد البث الأوروبي رفضها كونها تعبر عن موقف سياسي وهو جسم غير سياسي، وطالب بتغيير كلمات الأغنية. في البداية، رفضت هيئة البث الإسرائيلية المسؤولة عن إنتاج الأغنية تغيير الكلمات، إلى أن تدخل رئيس الدولة إسحق هرتسوغ، فوافقت الهيئة على تغييرها.

بذلك ستتنافس إسرائيل في الدور قبل النهائي الثاني للمسابقة يوم 9 أيار، على أمل الوصول إلى النهائي الكبير بعد يومين في مالمو السويدية، بأغنية "Hurricane" والتي تحمل لحن الأغنية المرفوضة نفسه.

أثارت مشاركة إسرائيل هذا العام ضجة كبيرة لا مثيل لها. ففي كانون الثاني، تلقى اتحاد البث الأوروبي رسالة مفتوحة وقعها أكثر من 1400 فنان فنلندي، تدعو لانسحاب إسرائيل من مسابقة يوروفيجن. كما دعت مجموعات من الفنانين في دول أوروبية أخرى مثل أيسلندا والنرويج والدنمارك إلى تعليق عضوية إسرائيل بسبب الحرب في غزة.

صرح الفنانون، بما في ذلك أكسل إهنستروم الذي مثل فنلندا في يوروفيجن العام 2011، بأنه إذا لم يتم استبعاد إسرائيل من المنافسة، فيجب على هيئة الإذاعة الفنلندية (Yle) مقاطعة المسابقة ورفض إرسال مشاركة فنلندية. وقال الفنانون في العريضة الموقعة: "لا يتماشى مع قيمنا وأخلاقياتنا منح بلد يرتكب جرائم حرب ويواصل احتلاله العسكري لأراض أجنبية منصة عامة لتلميع صورته باسم الفن والموسيقى".

في السابق، أخبرت الجمعية الأيسلندية للملحنين وكتاب الأغاني هيئة الإذاعة الآيسلندية RUV أن أعضاءها لن يشاركوا في الاختيار المحلي لمسابقة يوروفيجن 2024 إذا استمرت مشاركة إسرائيل في المسابقة. كما رددت العريضة الأيسلندية المخاوف من الكيل بمكيالين، مشيرة إلى أن اتحاد البث الأوروبي استبعد روسيا بعد غزوها لأوكرانيا في العام 2022. وأطلقت عريضة تطالب هيئة البث الأوروبية بمنع إسرائيل من المشاركة وقعها حتى الآن نحو 50,000 شخص.

في المقابل، وقعت شخصيات بارزة مثل هيلين ميرين، وجين سيمونز، وشارون أوزبورن، وبوي جورج، رسالة مفتوحة أخرى تحث منظمي المسابقة على السماح لإسرائيل بالمشاركة هذا العام.

ومؤخراً، وكخطوة احتجاجية على مشاركة إسرائيل، أعلنت صالة سينما ريو الواقعة في شرق لندن أنها لن تعرض الحفل النهائي لمسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" هذا العام. وكتبت الصالة، التي كانت قد عرضت حفلات المسابقة في مناسبات سابقة، عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي: "لقد قررنا بشكل جماعي عدم عرض نهائي مسابقة يوروفيجن للأغنية الأوروبية ما دامت إسرائيل متنافسة في المسابقة هذا العام".

من القدس إلى تل أبيب: اليوروفيجن في إسرائيل

ارتبطت انطلاقة مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) قبل أكثر من ستة عقود بنهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت محاولة لتعزيز التواصل والترابط بين مجتمعات القارة العجوز عبر الفن والموسيقى. وفي بدايات المسابقة، كانت دول غرب أوروبا هي المشاركة الأساسية، قبل أن تنضم دول شرق أوروبا إليها في وقت لاحق بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991.

يشارك نحو 40 دولة في مسابقة يوروفيجن، حيث يكون جميع المشاركين أعضاء في اتحاد البث الأوروبي، وذلك من خلال تقديم أغنية جديدة وأدائها حياً خلال البث التلفزيوني للحدث السنوي. تُعتبر يوروفيجن احتفالاً أوروبياً بالموسيقى والثقافات المتنوعة، وتمثل مشاركة أي دولة في هذه المسابقة فرصة للتواصل مع غرب أوروبا، وهو أمر مهم بشكل خاص للدول الواقعة في أوروبا الشرقية، حيث يُعتبر الفوز بالمسابقة إنجازاً وطنياً مهماً.

سجلت مشاركة إسرائيل في مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" في العام 1973 سابقة لاقتحام دولة غير أوروبية هذا المحفل الغنائي. وجاءت مشاركتها بفضل عضويتها في اتحاد البث الأوروبي (EBU) الذي انضمت إليه منذ العام 1957. وكانت إسرائيل البلد غير الأوروبي الأول الذي شارك في المسابقة، قبل أن تنضم لاحقاً دول أخرى من خارج القارة العجوز، مثل أستراليا، قبرص، أرمينيا، تركيا، روسيا، وأذربيجان.

كان انضمام إسرائيل إلى مسابقة الأغنية الأوروبية ضرورة سياسية ملحة بالنسبة لها، خاصة أنها كانت في خضم حملة مقاطعة اقتصادية غير مسبوقة بلغت ذروتها في نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي وقادتها جامعة الدول العربية. شعرت إسرائيل بأنها منبوذة وأنها في حاجة ماسة للانتماء إلى قارة أخرى، لذلك نجحت في إقناع الاتحاد الأوروبي للبث بالمشاركة في المسابقة.   وشاركت   المغنية الإسرائيلية من أصول بولندية إيلانيت في المسابقة.

تنظر إسرائيل إلى مسابقة يوروفيجن على أنها حدث سياسي دبلوماسي يندرج ضمن الدبلوماسية الثقافية التي تحرص على ممارستها في معركتها للحصول على الشرعية الدولية. ولا يعتمد اختيار الأغاني التي تشارك بها إسرائيل فقط على جودة الصوت أو الأداء الفني، بل تسعى من خلال اختياراتها إلى إيصال رسائل للعالم بأنها دولة حديثة تتحلى بقيم التنوير والتعددية وتحترم الحريات.

فازت إسرائيل في المسابقة الغنائية الأوروبية 4 مرات، وهي في الأعوام 1978، و1979، و1998، و2018. كما استضافت هذا الحدث  3 مرات؛ المرة الأولى في العام 1979، والثانية العام 1999، وكلاهما أقيم في مدينة القدس. أما في العام 2019، فنتيجة للضغوط الدولية، تم تنظيم المسابقة في مدينة تل أبيب.

عكس فوز إسرائيل في يوروفيجن للعامين 1978 و1979 الأجواء السياسية الجديدة التي كانت تمر بها آنذاك، لا سيما بدء التقارب مع مصر. ففي العام 1978، أثارت معاهدة كامب ديفيد للسلام بين البلدين حالة من الرضى والقبول الدولي تجاه إسرائيل. وفي يوروفيجن 1979، شاركت إسرائيل بأغنية "هاليلويا" التي تعني بالعبرية القديمة "سبحوا الرب" أو "امدحوا الله"، وهي كلمة انتشرت في الأناشيد الدينية المسيحية واليهودية. كانت مشاركة "هاليلويا" محاولة للتقريب بين الثقافتين الأوروبية واليهودية في ظل هذه الأجواء السياسية الجديدة، وفي الوقت نفسه تعبيراً عن مرحلة سياسية جديدة قادمة.

اختارت إسرائيل في العام 1998 المغنية دانا إنترناشيونال، أول متحولة جنسياً تفوز بجائزة يوروفيجن، للمشاركة في المسابقة. لقي هذا الفوز استحساناً من المجتمع الأوروبي آنذاك، واستطاعت إسرائيل تسويق نفسها كدولة تهتم بحقوق المثليين أكثر من بعض الدول الأوروبية، حيث كان الحديث عن المثلية في التسعينيات لا يزال محدوداً، فكانت إسرائيل سباقة في هذا الموضوع. ومع استحسان أوروبا لفوز إنترناشيونال، كان الأمر مختلفاً داخلياً، إذ احتج اليهود المتدينون على الأمر باعتباره يمس بيهودية الدولة ويشوه القيم اليهودية، فاشتد التصدع الأزلي في إسرائيل بين العلمانيين والمتدينين. كانت تلك الفترة بداية ما يسمى "الغسيل الوردي"، حيث سوقت إسرائيل نفسها كدولة صديقة للمثليين.

في العام 2018، قدمت المغنية الإسرائيلية نيتاع برزيلاي أغنية "أنا لست لعبتك" التي وصفت بأنها نشيد نسوي، حيث عبرت برزيلاي من خلالها عن ثقتها بنفسها وتقبلها لجسدها في خضم فترة حملة "MeToo". على الرغم من أن هذه الحملة لم تنتشر فعلاً في إسرائيل، فإن إسرائيل استغلت هذه الحملة لتستمر في محاكاة المجتمع الأوروبي.[2] كما استغلت إسرائيل المنصة الأوروبية لإيصال رسائل حول قيم المساواة والعدالة للمرأة، متجاهلة في الوقت نفسه ممارساتها تجاه المرأة الفلسطينية.

أتاح فوز برزيلاي في العام 2018 في المسابقة لإسرائيل فرصة استضافة الحدث في العام التالي، 2019. أثارت هذه الفرصة أيضاً فرصة لحركة المقاطعة، التي استطاعت الضغط على الفنانين لمقاطعة الحدث ونقله من القدس كما أرادت إسرائيل إلى تل أبيب.

في ذلك العام، التقى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو برزيلاي، وقال لها إنها جلبت فخراً لإسرائيل بفوزها في يوروفيجن، وبذلك تستضيف إسرائيل المسابقة في العام القادم.

صادف العام 2019 أيضاً نقل السفارة الأميركية إلى القدس، حيث صرح يولي إدلشتاين، رئيس الكنيست آنذاك، قائلاً: "ليس فقط ستنتقل السفارة إلى القدس، بل سيأتي اليوروفيجن أيضاً"، في إشارة منه إلى أن أوروبا أيضاً ستأتي إلى إسرائيل.

وبهذا أصبحت مسابقة اليوروفيجن للعام 2019 مرتبطة إعلامياً ودبلوماسياً بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، حيث باتت استضافة المسابقة في القدس جزءاً من حملة الحكومة الإسرائيلية للحصول على اعتراف عالمي بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما ورد في صحيفة الغارديان.

في النهاية، وبعد ضغط كبير من حركة المقاطعة الدولية على اتحاد البث الأوروبي، أقيم الحدث في مدينة تل أبيب. 

في سعيها لاستضافة مسابقة الأغنية الأوروبية الشهيرة "يوروفيجن" للعام 2019، قامت إسرائيل بتعديل تشريعي خاص لتجنب انشطار هيئة البث العامة الإسرائيلية "كان" إلى كيانين منفصلين للأخبار والترفيه. فقد كان من المقرر أن تنقسم "كان" إلى شركتين مستقلتين، إحداهما للمحتوى الإخباري والأخرى للبرامج الترفيهية، الأمر الذي كان سيفقد إسرائيل أهليتها لاحتضان الحدث الغنائي العريق، إذ تشترط قواعده أن تكون الهيئة المضيفة قادرة على بث المزيج الكامل من الأخبار والترفيه.

لتفادي هذا السيناريو، أقدم الكنيست الإسرائيلي على تعديل قانوني بالإجماع لمنع انفصال "كان"، وبالتالي الحفاظ على جاهزيتها لاستضافة يوروفيجن.

فلسطين حاضرة في اليوروفيجن

لم تنجح هذه الخطوة التشريعية والجهود الدبلوماسية المصاحبة في تحويل الحدث إلى منصة لتعزيز شرعية إسرائيل ودعم نقل السفارة الأميركي إلى القدس واعترافها بها عاصمة لإسرائيل. فقد واجهت تل أبيب حملة مقاطعة خارجية واسعة النطاق، إضافة إلى وقوع أحداث عكرت صفو الاحتفالية. رفع ممثلو أيسلندا- فرقة هتاري- علم فلسطين خلال نهائي المسابقة التي أقيمت في تل أبيب، كما قدمت المغنية الأميركية مادونا عرضا ظهر فيه العلم الفلسطيني.

في هذا العام، تشارك إسرائيل أيضاً في المسابقة، وعلى الرغم من تغيير الكلمات، فإنها حاولت أن تتمسك بالرسالة المقصودة. فأغنية "إعصار" تعبر عن رواية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من خلال الكلمات والصور والرقص المعاصر في فيديو كليب الأغنية. ومع وجود إسرائيل، يظهر وجود الفلسطيني في المقابل وبقوة.

وتجسد مشاركة إسرائيل في مسابقة الأغنية الأوروبية هذا العام تناقضاً بارزاً بين صورتها العامة وواقعها السياسي والإنساني. فبينما تسعى إسرائيل لاستخدام هذه المنصة العالمية لتعزيز صورتها وتبرير سياساتها، تبقى حقائق الواقع تُثبت تورطها في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في قطاع غزة وفي فلسطين عموماً، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات حول مدى ملاءمة استضافة هذه المسابقة في بلد يُطبق فيه نظام الفصل العنصري ويقوم بانتهاك حقوق الإنسان بشكل مستمر.

 

[1] Christina Kiel (2020) Chicken dance (off): competing cultural diplomacy in the 2019 Eurovision Song Contest, International Journal of Cultural Policy, 26:7, 973-987, DOI: 10.1080/10286632.2020.1776269

[2] Fernández del Campo, G. (2021). New power unlocked: Israel as a case study for Eurovision as a Europeanization tool [Unpublished bachelor's thesis]. Facultad de Ciencias Humanas y Sociales.

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات