المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" يشهد المجتمع الإسرائيلي، فضلاً عن أوساط السياسيين، موجة تحريض على الفلسطينيين ككل تشمل دعوات إلى قوننة الانتقام والقتل بشكل جلي. فمثلاً، يعجّ المستوى القانوني بمقترحات وتشريعات، وتعديلات قانونية، وقرارات للمستشارة القانونية للحكومة حول ظروف الاحتجاز والاعتقال وقواعد إطلاق النار وقانون "إعدام الأسرى" وغيره. وكل ذلك إلى جانب سعي المستوى السياسي لتأطير الإبادة قانونياً بدافع "الدفاع عن النفس" (في ظل الانحياز الأميركي والغربي)، وتصاعد ظاهرة تسليح المستوطنين والمدنيين بشكل علني. 

هذه المساهمة تتناول جزئية واحدة من سلسلة طويلة من عمليات قوننة الانتقام والقتل المستمرّة التي تشهدها إسرائيل منذ ثلاثة أسابيع، نُسلّط الضوء فيها على وحدة الانتقام الجديدة التي تحمل اسم "حباك نيلي". 

مساء السبت الموافق 21.10.2023، أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية عديدة عن قيام جهاز الأمن العام الإسرائيلي- "الشاباك"- بتشكيل وحدة "حباك نيلي" (بالعبرية)، مهمّتها القضاء على كل المشاركين في هجوم يوم "السبت الأسود". 

بالعودة إلى أساس التسمية المركّبة ومدلولات ذلك، فإن لكل جزء منها معنى محدّداً؛ "حباك" اختصار لـ "غرفة القيادة المتقدّمة"- بالعربية- التي تعود لحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. أما "نيلي" فهي اختصار لما ورد في التوراة "نصر إسرائيل لا يكذب"- بالعربية- في سفر صموئيل. في أعقاب حرب أكتوبر 1973 و"القصور الاستخباراتي" الذي تسبّب بالفشل العسكري الكبير في تلك الحرب، وفي أعقاب توصيات "لجنة أغرانات" التي حقّقت في هذا "القصور" والتي كان من بين أهمها إعادة صياغة وتعريف العلاقة من جديد بين المستويين العسكري والأمني والمستوى السياسي، تم إنشاء ما يُعرف بـ "حباك" أو "غرفة القيادة المتقدّمة/ الأمامية" التي تتمتع بصلاحيات واسعة في اتخاذ القرار وفقاً لمعطيات الميدان ودون العودة إلى القيادة العليا (السياسية، العسكرية والأمنية) للحصول على موافقة قرارات عسكرية، ما يجعلها تحمل سلطة مختلفة عن القوى الأخرى العاملة في الميدان- "سلطة التفويض"، وهذا من ناحية. من ناحية أخرى، تُحيل تسمية "نيلي"- عدا عن الأساس التوراتي الذي يُشير "للنصر" كما ذكرنا أعلاه- إلى منظمة التجسّس اليهودية التي أُقيمت خلال الحرب العالمية الأولى في فلسطين، والتي كانت مهمتها التجسّس على الدولة العثمانية (جمع المعلومات العسكرية والاستخباراتية) لصالح القوات البريطانية من أجل الحصول على مكاسب سياسية لليهود خلال فترة الييشوف، إلى جانب تهريب الأموال لصالح اقتصاد المستوطنات والتي أسسها أهارون أهرنسون برفقة شقيقته سارة وأفشالوم فاينبرغ وتم القضاء عليها في العام 1917 من قِبَل الدولة العثمانية بعد أن تم اكتشاف أمرها. 

ليس من قبيل الصدفة أن يحمل الاسم المركّب لهذه الوحدة هذه الدلالات، فالهدف منها واضح: جمع المعلومات الاستخباراتية عن كل المشاركين في هجوم السابع من أكتوبر، ومن ثم القيام بتصفيتهم واغتيالهم فرداً فرداً- بعد أن حصلت بشكل ضمني على تفويضٍ كامل- بدون الحاجة للعودة إلى المستويات القيادية كون الوحدة تتضمّن أيضاً طاقماً قيادياً متقدّماً كما ذكرنا، وتعمل بشكل منفرد عن بقية الوحدات في "الشاباك" لتنفيذ المهام الموكلة إليها، ودون الالتزام بإطار زمني محدد،[1]ناهيك عن الدعوات المستمرّة للقضاء على كافة من تم اعتقالهم في ذلك اليوم على الحدود مع القطاع أو في مستوطنات غلاف قطاع غزة.[2]

إن "نيلي" تُعدّ "جديدة" من حيث التأسيس، إلّا إنها في حقيقة الأمر تعبّر عن سياسة قديمة ومستمرّة، وصفة ملازمة للعقلية الصهيونية- الإسرائيلية المُشبعة بالرغبة بالانتقام من، و"إغلاق الحساب" مع- كما هو معروف في القاموس العسكري الإسرائيلي- كل فلسطيني أو عربي يُشارك في عمليات ضدّها، وهي سياسة تمأسست عبر المحطّات التاريخية المختلفة وأخذت أشكالاً متعدّدة، كان أبرزها عملية "غضب الرب" التي أطلقتها رئيسة الحكومة الإسرائيلية غولدا مائير ضد منظمة أيلول الأسود في أعقاب عملية ميونيخ في العام  1972، والتي استمرّت لسنوات طويلة في كل أنحاء العالم وتضمنّت عمليات مطاردة واغتيال لعشرات من قيادات وأعضاء المنظمة والمشاركين في تلك العملية نفذها جهاز "الموساد" انتهت مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وهذا من ناحية. من ناحية أخرى، لا يُمكن فصل استحداث هذه الوحدة عن الجهد الإسرائيلي الدعائي ("الهسبراه") الساعي للانفراد في "رواية" أحداث صبيحة السابع من أكتوبر؛ إذ أن عقلية الانتقام مدفوعة أيضاً بسعي محموم لاحتكار "رواية" الهجوم للعالم الغربي تحديداً، بما يُمكّنها من الاستمرار في عملية "نزع الشرعية" و"الإنسانية" عن الفلسطينيين لتبرير عمليات القتل والإبادة الجماعية في حربها على قطاع غزة، والتي يتم ارتكابها بحجّة "الدفاع عن النفس" في ظل "شرعية" وغطاء دولي واضح.

على أية حال، ما تزال تفاعلات وإفرازات يوم السابع من أكتوبر والحرب الإسرائيلية الدائرة على قطاع غزة مستمرّة وتأخذ أشكالاً وأبعاداً مختلفة. من جهة، تحاول إسرائيل تأطير ما حصل كـ "حدث مؤسس" للصراع مع الفلسطينيين، بل إنها تحاول أحياناً تصوير هذا الحدث للعالم باعتباره بداية الصراع وليس حلقة من حلقاته الطويلة والمستمرّة. من جهة أخرى، ما تزال التصوّرات الإسرائيلية تعاني من القصور والفشل ليس على المستوى الاستخباراتي فحسب كما حدث في عملية الهجوم؛ بل على مستوى التصوّر العام عن الفلسطينيين وإمكانية "حسم الصراع" عبر تحويل الفلسطيني إلى "كائن لا سياسي" من خلال الاستمرار في "تفعيل القوة، والمزيد من القوة"، من أجل تجريده من طموحاته وتطلعاته السياسية والإنسانية والأخلاقية وحقّه في تقرير المصير.

 

[1] أمير بوحبوط، "حباك نيلي: وحدة الشاباك الجديدة لقتل كل المشاركين في الهجوم"، واللا العبري، 21.10.2023، https://bit.ly/3QhP8wt

[2] إيتمار فلايشمان، "قتل كل المشاركين في الهجوم هو الحل الأخلاقي الأمثل"، يسرائيل هيوم، 25.10.2023، https://bit.ly/46Nweox

المصطلحات المستخدمة:

نيلي, عملية ميونيخ, الموساد, يسرائيل هيوم

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات