المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"من وجهة نظر مَن يرغب في تعميق المشروع الاستيطاني وتوسيعه في الضفة الغربية وليس معنياً بحل دولتين لشعبين لإنهاء الصراع، اعتُبرت حركة حماس حلاً ممتازاً. فقد اعتقد اليمين في إسرائيل أنه، مع حماس، بالإمكان إدارة الصراع على نار هادئة، إذ لن تطلب هذه الحركة الدخول في مفاوضات لأنها غير معنية بالمفاوضات، فكم بالحري وهي تُعلن جهاراً أن هدفها هو القضاء على دولة إسرائيل، فكيف ستجري مفاوضات معها؟... إن هذه الرؤية، التي تقوم على الاعتقاد بإمكانية احتواء الصراع، انهارت واختفت من العالم صبيحة يوم السبت السابع من تشرين الأول"!

هذا ما قاله البروفسور أوري بارـ يوسف، أستاذ العلاقات الدولية السابق في كلية العلوم السياسية في جامعة حيفا، المختص بقضايا الأمن القومي، الاستخبارات والصراع الإسرائيلي ـ العربي والذي يُعتبر الباحث الرائد والأبرز في إسرائيل في مسألة الإخفاق الاستخباراتي الإسرائيلي في حرب تشرين/ أكتوبر ("حرب الغفران") 1973، والذي يشكل كتابه "المُشاهد الذي نام" الصادر في العام 2001 البحث الأكاديمي الأول والأكثر تفصيلاً الذي كُتب عن إخفاق 1973 واعتُبر "البحث الأكثر أهمية الذي نُشر حتى الآن عن حرب يوم الغفران".

في حديثه ضمن تقرير أعدّه ونشره موقع مركز "شومريم" (الذي يعرّف نفسه بأنه "مركز للإعلام والدمقراطية" وبأنه "جسم إعلامي غير سياسي غايته تعزيز أسس الديمقراطية في إسرائيل من خلال المشاريع الإعلامية والتعاون مع وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى")، يشدد بار يوسف على أن ما حصل في يوم السبت المذكور هو "فشل مضاعَف ـ فشل مفاهيميّ من الدرجة الأولى وفشل منظومات جمع المعلومات الاستخبارية". ويوضح إنه منذ بدء حكم حماس في قطاع غزة في العام 2007، اعتمدت حكومات بنيامين نتنياهو رؤية تقول بأنه من الممكن احتواء حماس مقابل ثمن يُدفَع بجولات قتالية قصيرة نسبياً أُطلق على كل منها اسم "عملية" حتى تلك منها التي استمرت 50 يوماً، في العام 2014، لم تقد إلى تغيير هذه الرؤية بصورة جوهرية، إلى أن سقطت نهائياً صباح يوم السبت السابع من تشرين الأول الجاري. 

"الحل باتفاق مع الفلسطينيين لا باتفاق مع السعودية"

يدلل بار يوسف على الانهيار المفهوميّ بالتذكير بما قاله رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في خطابه الأخير في الأمم المتحدة، قبل أقل من ثلاثة أسابيع فقط، حين تباهى بأن اتفاقية السلام مع السعودية "ستخلق شرق أوسط جديداً حقاً" وإنه "حين يرى الفلسطينيون أن العالم العربي يتصالح معنا فسيتوقفون عن التلهي بوهم تدميرنا". وقال بار يوسف إن نتنياهو حاول، خلال السنوات الأخيرة، تجاوز المشكلة الفلسطينية والالتفاف عليها، وهو ما برز جداً وبشكل خاص في حديثه عن الصفقة مع السعودية. أما الآن ـ يواصل بار يوسف ـ فقد اتضح بما لا يقبل أي شك أن المشكلة الفلسطينية لن تتلاشى ولن تذهب إلى أي مكان، بل هي باقية هنا بكل حدتها. "حتى لو أصبح بإمكاننا التسوق في الرياض، فستبقى المشكلة الفلسطينية التهديد الأكبر والأخطر علينا". وعليه، فإن "الطريق إلى حل الصراع لا تمر عبر اتفاق مع السعودية، وإنما عبر اتفاق مع الفلسطينيين نقدم فيه الكثير من التنازلات".

ورداً على سؤال ماذا يقصد بـ "الكثير" و"هل هي حدود 67"، قال بار يوسف: نعم، بالتأكيد. حدود 1967. "يجب أن نتذكر أن العقد الممتد بين عملية سيناء في 1956 (العدوان الثلاثي) وبين حرب الأيام الستة 1967 كان عقد السنوات الأفضل في تاريخ دولة إسرائيل. في تلك الحدود، مع السوريين في هضبة الجولان والمصريين في غزة وسيناء والأردنيين في القدس، كانت تلك السنوات الأكثر هدوءاً منذ قيام دولة إسرائيل. عشرون قتيلاً في المتوسط في السنة. في تلك الفترة شهدت دولة إسرائيل ازدهاراً غير اعتيادي وتطور اقتصادها بصورة مذهلة. أقاموا المدن والبلدات وأصبحت إسرائيل تمتلك قوة نووية".

ويربط بار يوسف بين ما حصل في السابع من تشرين الأول وما ينبغي أن يشكل عماد السياسة الإسرائيلية خلال المرحلة المقبلة فيقول: "رغم كل شيء، هنالك من يمكن التحدث معه في الجانب الفلسطيني. صحيح أنه لا يمكن التحدث مع حماس، لكن ليس كل الفلسطينيين حماس ويجب إيجاد حل والتوصل إليه وإلا فسنشهد المزيد من هذه الحروب السوداء المأساوية". ورداً على سؤال عمّا إذا كانت السلطة الفلسطينية "لا تزال تشكل العنوان"، قال بار يوسف: "بالتأكيد. السلطة الفلسطينية هي الشريك الوحيد المتوفر لنا. يمكن التحدث مع السلطة الفلسطينية التي تقبل، على هذا النحو أو ذاك، معادلة الدولتين للشعبين. دولتان في حدود العام 1967 مع تبادل أراضٍ هنا وهناك، إنهاء الصراع، التوقيع على اتفاقيات سلام يليه تطبيع بين إسرائيل والعالم العربي".

أما البروفسور يوآف غيلبر، أستاذ التاريخ في "جامعة رايخمان" والمختص في التاريخ الأمني الإسرائيلي والذي أشغل منصب المستشار العلمي للجنة أغرانات (لجنة التحقيق الرسمية التي حققت في ظروف وخلفيات اندلاع حرب أكتوبر 1973)، فيقول ضمن التقرير ذاته إن ما انهار بفعل أحداث السابع من تشرين الأول "هو كلتا الرؤيتين اللتين اعتمدهما اليمين واليسار الإسرائيليان، سواء بسواء". ويوضح قائلاً: "إذا كنت تعلم أن حماس تريد تدميرك، فكيف ولماذا تنقل إليها حقائب الأموال أو حاويات الوقود وتصدّق اتفاقيات الهدنة؟... وهو ما فعله اليمين واليسار على حد سواء".

وخلافاً لبار يوسف، يقول غيلبر إنه "لا يصدّق السلطة الفلسطينية أيضاً". ويضيف: "إياكم والخطأ. السلطة الفلسطينية أيضاً لا تريدنا هنا. يخطئ اليسار إذ يعتقد بأن العرب سيكتفون بدولة إلى جانب إسرائيل. لا، لن يكتفوا. إنهم يريدون استعادة كل أرض إسرائيل إلى عروبتها كما كانت قبل 1917. هم يعلمون أنهم لن يحققوا هذا في حياتهم الحالية، وربما ليس في الجيل القادم أيضاً، لكن هذا هو توجههم وهذا هو الهدف الذي يسعون إليه. إنهم يطبقون ببطء خطة كبيرة بعيدة المدى"!

ورداً على سؤال "ما هو الحل الذي تقترحه لـ 2.2 مليون إنسان سكان قطاع غزة؟"، يقول غيلبر إنه "لا يرى أي حل آخر سوى توزيعهم في دول العالم". ويضيف: "نحن الآن على مفترق طرق تاريخي ولا يبدو أن الدول العربية تنوي مساعدتنا في ذلك. أعلم أنني أبدو الآن مثل ديناصور، لكن نحن مجتمع مدلَّل، سواء من اليمين أو من اليسار. يجب أن نتوقف عن الدلال وهذا يعني عدم البكاء على كل قتيل وأنه نهاية العالم وخرابه. هذا ليس سبباً لارتكاب مجارز ولا للانتقال إلى مكان آخر".

"أخطر بكثير مما حدث في 1973"

في الحديث عن الفشل الاستخباراتي يقول بار يوسف إن شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") "ما زالت تمتلك قدرات ممتازة وغير اعتيادية في مجال جمع المعلومات، لكنها غفلت عن استعدادات حماس، التي من الواضح أنها استمرت فترة طويلة وبمشاركة عدد كبير من الأشخاص، وذلك على نحو غير واضح حتى الآن". ويضيف: "هذا فشل مدوٍّ لجهاز الأمن العام (الشاباك) أيضاً بكونه الجهة التي تقوم بجمع المعلومات من مصادر بشرية في المناطق. ليس من السهل استيعاب حقيقة أن المصريين علموا بالأمر ونحن لم نعلم".

ويرى غيلبر إن ما حصل في يوم 7 تشرين الأول الجاري "هو أخطر بكثير مما حصل في بداية حرب الغفران". ويشرح: في حرب الغفران ضحّوا بجنود المعاقل، بينما هنا ضحّوا بالمواطنين... أخفق الجيش في مهمته الأساس: حماية مواطني دولة إسرائيل. الفشل المفهوميّ هنا أن هيئة أركان الجيش لم تتوقع حرباً على غرار يوم الغفران، وإنما تعاملت مع الحرب القادمة بمصطلحات التقانة العالية (هاي تك): الجو، البحر، الذرة والقوات الخاصة. أما الأجزاء الأخرى من الجيش فهي صنف ب، زائدة عن الحاجة. غير أن ما حصل في أوكرانيا خلال العامين الأخيرين بالذات كان يتطلب إعادة النظر والتفكير في هذا السياق، عندنا هنا أيضاً. لكنّ المشكلة الجوهرية الأساس هي أننا لا نمتلك استراتيجية مقابل حماس".

ورداً على سؤال حول الجدار الذي أقامته إسرائيل حول قطاع غزة بتكلفة بلغت بضعة مليارات من الدولارات، لكنه لم يضمن الحماية لبلدات منطقة "غلاف غزة" وسكانها، قال غيلبر إن التكنولوجيا لا تشكل حلاً/ جواباً للحرب الأيديولوجية. وأضاف: "صحيح أن وضعنا بدون الجدار كان يمكن أن يكون أسوأ، لكن بسبب الثقة والتفوق التكنولوجي سمحنا لأنفسنا بإهمال التضامن الاجتماعي والتغاضي عن حيويته. ذلك أن التهديد الوجودي فقط هو الذي استطاع ويستطيع الإبقاء على تماسك المجتمع الإسرائيلي والمحافظة عليه رغم كل الشروخ".    

يرجح بار يوسف أن تؤدي إخفاقات السابع من تشرين الأول إلى "انفجار سياسي جوهري يلازمنا لوقت طويل ويؤثر على كل شيء، بما في ذلك التشكيلة السياسية ـ الحزبية. فغالبية الجمهور الإسرائيلي تدرك أن ما حصل هنا هو فشل مطبق لحكومة اليمين الخالص". ومن هنا يتوقع "انهيار حزب الليكود، لأن كل ما تعهد به خلال السنوات الماضية تبين الآن أنه فشل تام، ناهيك عن القيادة دون المتوسطة التي قدمها منذ تشكيل هذه الحكومة والتي أثبتت أن مصلحة الدولة ليست في رأس سلم أولوياتها". ومن جهة أخرى، يؤكد أن "صنف القيادة" الذي يقدمه بيني غانتس ويائير لبيد "لا يستطيع مواجهة تحديات المرحلة". ولذا، ستحتاج المرحلة القادمة إلى "معسكر جديد يقدم أجوبة جديدة وحلولاً مبتكَرة، تختلف عما سبق. سينشأ في دولة إسرائيل فراغ سياسي هائل سيكون من الضروري والحتمي أن يُملَأ". وعمّن سيملأ هذا الفراغ برأيه، يقول بار يوسف إن "دولة إسرائيل ستكون في حاجة إلى قائد بحجم دافيد بن غوريون يُعلن أن هدفه هو إقامة دولة إسرائيل مجدداً. يحدد أهدافاً واقعية. ستسود حالة من الشعور بانعدام الأمن لفترة طويلة، غير أن مثل هذا القائد سيكون ملزماً بإدراك حقيقة أن الأمن لن يتحقق بالضرورة بالمزيد من طائرات إف 15، وإنما بالتوصل إلى تسوية تستجيب أيضاً للاحتياجات والتطلعات الفلسطينية".

المصطلحات المستخدمة:

بنيامين نتنياهو, رئيس الحكومة, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات