المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

شكل الهجوم المباغت الذي نفذته حركة حماس إلى جانب فصائل فلسطينية أخرى، صبيحة يوم السبت السابع من تشرين الأول (2023)، على مستوطنات "غلاف غزة"، صدمة هائلة أصابت المجتمع الإسرائيلي ومنظومة الأمن الاسرائيلية، والتي تبيّن لاحقا أنها كانت تلقت إشارات حول وجود تحذيرات بإمكانية وقوع "حدث كبير"، بالذهول وحالة من عدم القدرة على استيعاب أبعاد الحدث وتداعياته، خاصة في اللحظات الأولى التي بدا فيها أن الجيش الاسرائيلي قد فقد السيطرة على مستوطنات وبلدات الغلاف المحيطة بقطاع غزة، والقريبة منه بعد أن تمت السيطرة عليه من قبل آلاف المسلحين، وما تخلل ذلك من عمليات قتل وخطف واحتجاز أسرى، وخوض اشتباكات استمرت عدة أيام قبل أن يعلن الجيش بشكل رسمي عن تمكنه من استعادة السيطرة على الحدود، وتصفية أو اعتقال كل من لم ينجح في الفرار والعودة إلى قطاع غزة.

ويمكن القول إن هذا الهجوم أفقد الإسرائيليين شعورهم بالأمن الشخصي والجماعي، وهز ثقتهم بمنظومتهم الأمنية، ومسّ بصورة الجيش الذي لا يقهر وبالإجراءات الأمنية والإلكترونية والجدران المحصنة التي أضيفت اليها منظومات متطورة أنفقت عليها منظومة الأمن مليارات الشواكل، وأعادت إليهم شعورا كامنا وعميقا بالخوف  الوجودي والريبة من تكرار سيناريوهات وأحداث سابقة راسخة في أذهانهم من حقب تاريخية معاصرة وحديثة. كما أثار ردود فعل مستنكرة، وساد ذهول وحالة من عدم التصديق على مستوى عالمي، كان أبرزها خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن والذي حرص على التحدث إلى الإسرائيليين القلقين بلغة عاطفية وأبوية، مغلّفة باحتضان وكلمات مؤثرة حاول من خلالها أن يظهر تعاطفه، وأن بلاده لن تتخلى عن إسرائيل وأن تشكل بوليصة التأمين على ضمان بقائها ووجودها وأمنها. وأتبع الرئيس الأميركي خطابه بالإعلان عن ارسال حاملة الطائرات العملاقة "جيرالد فورد" إلى شواطئ البحر المتوسط، مرفقا ذلك بتهديدات صريحة بعدم محاولة جهات أخرى (حزب الله وإيران) استغلال حالة عدم التوازن والصدمة التي تعيشها اسرائيل لفتح جبهات جديدة.

الأسئلة الصعبة

بعيدا عن الأسئلة التقنية والمهنية المتعلقة بالأداء الفوري لأجهزة الأمن وأذرعها المختلفة، وبالأسابيع والأشهر التي سبقت الهجوم وإن كانت هناك عملية تضليل استراتيجية نجحت حركة حماس في تنفيذها بإحكام وتمريرها دون إثارة أي شكوك حول نواياها الحقيقية وما تعده من مفاجآت، وبكيفية إدارة المعارك من أجل استعادة السيطرة على الحدود الفاصلة بين مستوطنات الغلاف وقطاع غزة، وهي أسئلة ذات أبعاد استراتيجية سوف تجيب عنها لجان تحقيق، وقد يدفع ثمنها ضباط كبار ومسؤولون اسرائيليون، أثيرت الكثير من الأسئلة حول مسؤولية رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو المباشرة والسياسات التي اتبعها خلال سنوات حكمه الطويلة وحكوماته المتعاقبة في التعامل مع حركة حماس وسيطرتها على القطاع خاصة وأن هذه السيطرة تزامنت تقريباً مع فترات طويلة من حكم اليمين برئاسة نتنياهو.

تتراوح الأسئلة التي بدأت تثار في البداية عبر استوديوهات البث التلفزيونية والإذاعية التي فتحت موجات تغطية وتحليل متواصلة على مدار الساعة في محاولة لاستيعاب ضخامة الحدث، ومن ثم على شكل مقالات رأي وتحقيقات وتصريحات قادة أجهزة أمنية وسياسيين سابقين، حول مدى مسؤولية سياسات نتنياهو منذ بداية فترة حكمة الثانية في العام 2009 حتى الآن تجاه حركة حماس وحكمها في غزة، عن النتيجة الكارثية التي أنتجها الهجوم المباغت الذي قادته ونفذته وخططت له نفس الحركة، والتي يتهم بأنه فضل بقاءها في الحكم على حساب السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس من أجل ضمان استمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي ومحاربة اتفاق أوسلو ومنع قيام دولة فلسطينية وإخلاء مستوطنات.

يمكن تلخيص هذه الاتهامات وتصنيفها إلى ثلاثة مستويات أو مراحل تبدأ من فترة حكم نتنياهو الأولى و(حرصه دائما على استمرار الانقسام الداخلي الفلسطيني) عبر عقد اتفاقيات تهدئة (غير مباشرة) مع حركة حماس والسماح بتمرير الأموال لها، ومن ثم مسؤوليته عن إضعاف المجتمع والدولة والجيش بسبب سياسة حكومته الأخيرة وأولوياتها التي قادت إلى موجة احتجاجات استمرت قرابة العام ولم تنته إلا باندلاع المواجهة الحالية، وأخيرا تركيزه على الضفة الغربية وتنفيذ أجندة استيطانية تحت تأثير شركائه في الائتلاف والذين تولوا مناصب وزارية مفتاحية تجعل مصير الاستيطان والضفة خاضعا لسيطرتهم. وهي مراحل سنفصلها أدناه وفق الترتيب التالي:

منع قيام دولة فلسطينية عبر "صيانة الانقسام"!

تجادل المعلقة السياسية طال شنايدر في مقالها المنشور في الثامن من تشرين الأول، بعد يوم واحد من تنفيذ الهجوم على مستوطنات الغلاف، على صفحات موقع "زمان يسرائيل" تحت عنوان "سنوات من تعزيز حكم حماس انفجرت في وجوهنا جميعا"،  أن حكومات نتنياهو تبنت سياسة قائمة على الفصل بين الضفة الغربية التي تحكمها السلطة الفلسطينية وما بين قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس، وأن هذه السياسة هدفت إلى منع الرئيس عباس من التقدم في المسار السياسي الذي كان يفترض أن يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية، بحيث وافقت إسرائيل "في سبيل تحقيق هذا الهدف" على إدارة حوار غير مباشر مع حركة حماس التي تصنّف على أنها منظمة إرهابية، من خلال مصر، ووافقت على إدخال أموال من قطر التي تجمعها بها علاقة خاصة، والتوصل إلى اتفاقيات تهدئه معها، وإجراء صفقة تبادل في العام 2011.

وقد اشترت إسرائيل وفق شنايدر "الهدوء مقابل التسهيلات" وحولتها إلى استراتيجية عمل دفعتها إلى السماح بإدخال عمال من القطاع للعمل في إسرائيل والذين تصاعد عددهم إلى أن ارتفع من 2000 عامل في نهاية العام 2021 إلى قرابة عشرين ألف عامل في هذه الأيام، مع التغاضي عن إطلاق البالونات الحارقة والمسيّرات على الجدار وغيرها من أدوات الضغط التي لجأت إليها حماس لتحسين أوضاعها المعيشية وتعزيز حكمها في غزة.

وتقول شنايدر إن هذه السياسة لم تكن مكتوبة ولا تم الحديث عنها بشكل علني، ولكنها كانت معروفة ومتفق عليها بشكل صامت بين جميع الأطراف.

وبدوره دحض موقع "العين السابعة" ادعاءات حزب الليكود التي أكدت في تغريدة نشرت على موقع الحزب في 10-10-2023 أن "نتنياهو لم يسع إلى تعزيز حكم حماس" مذكرين أن شعار دعايته الانتخابية في العام 2006 "نتنياهو قوي أمام حماس" وأنه شن عدة حملات عسكرية ضدها واغتال أبرز قياداتها. فهذا الموقع، المختص بالرصد والتحقق الإعلامي، أعاد التذكير بتصريحات نتنياهو وخاصة تلك التي أطلقها في العام 2018 لمجموعة من الصحافيين والتي اعتبر فيها أن "حماية أمن المستوطنات وفق الطريقة التي ينتهجها تقوم على ضخ الأموال لغزة"، وتصريحات أخرى نقلها عنه الصحافي اليميني عميت سيغال قال له فيها إنه (أي نتنياهو) امتنع عن "إسقاط حكم حماس كي يمنع قيام دولة فلسطينية".

الشواهد الكثيرة والاقتباسات المتواترة التي يتم تداولها وتذكُّرها بعد الصدمة التي أحدثها الهجوم الضخم والكارثي، نبعت من الدهشة حد السذاجة من قدرة نتنياهو على مراقبة نمو وتطوير حركة حماس لقدراتها العسكرية دون تدخل تقريبا، إلى أن أفاق المجتمع الاسرائيلي أمام واقع أصبحت فيه هذه القوة تشكل تهديداً وجودياً على أمن اسرائيل، كما حدث في هجوم السابع من تشرين الأول.

إضعاف الجيش وتمزيق المجتمع

يعتبر الصحافي بن كسبيت أحد أكبر المنتقدين لنتنياهو وعائلته وسياسته، خاصة في القضايا الداخلية التي قادها وأراد إحداث تغيير جذري فيها بعد تشكيل حكومة اليمين الخالص التي يقودها نتنياهو حتى الآن.

يلخص بن كسبيت رأي ومطلب تيار كامل من قادة الاحتجاجات التي استمرت قرابة العام ردا على محاولات نتنياهو إضعاف القضاء، بدعوته في مقال له نشره على موقع "واللا" العبري  بتاريخ 13 تشرين الأول 2023  إلى "فتح باب الخروج أمام نتنياهو" بعد الانتهاء من المعركة مع حركة حماس، بسبب حالة الضعف التي أوصل إسرائيل والجيش إليها منذ تشكيل حكومته الحالية وخطته الهادفة إلى إضعاف جهاز القضاء والخضوع إلى إملاءات المتدينين والمتطرفين اليمينيين الذي أرادوا نسف الركائز التي قامت عليها الدولة، وضمنت لها أن تحقق ما حققته من تقدم وقوة وريادة في كافة المجالات، وإضراره بسمعتها في العالم وتمزق المجتمع، وهو ما تسبب في تجرؤ أعدائها عليها وتحديها وصولا إلى شنّ هذا الهجوم غير المسبوق ضدها.

حرب على الضفة ومساعٍ لحسم الصراع

وضعت حكومة اليمين المتطرفة على رأس سلم أولوياتها مسألة حسم الصراع لصالح المستوطنين في الضفة الغربية، وهي من أجل ذلك أدرجت أيديولوجيتها المتطرفة ورؤيتها لحل الصراع (بالقوة وبدون تسليم أراضٍ وضم أرض إسرائيل الكاملة تحت السيادة الاسرائيلية وغير ذلك) في صلب البرنامج الحكومي، وقامت بابتزاز موازنات واحتلال وزارات مختصة في إدارة العلاقة مع الضفة والاستيطان من أجل ضمان تنفيذ هذا المشروع.

في مقال له على موقع "ذي ماركر"  في الثالث عشر من تشرين الأول 2023 يعتبر حجاي عمير أن نتنياهو كان يقاد بشكل كامل من قبل أكثر وزرائه تطرفا (يقصد الثنائي إيتمار بن غفير وبتسليل سموتريتش) معتبرا أن هذا قاد إلى جعل الحكومة أسيرة لبرنامجهما الخطر، وأكد أن استمرار هذه السياسة القائمة بعد قتل هذا العدد الكبير من الاسرائيليين أصبح خطراً جداً وأن أولى مهمات نتنياهو الآن هي تهميشهم وعدم الانسياق خلف نزواتهم وتطرفهم.

وأدت سياسة بن غفير وسموتريتش وحزبيهما والتي طغت على برنامج الحكومة، إلى إشعال الضفة الغربية، وإطلاق يد المستوطنين ضد الفلسطينيين، وتوسيع الاستيطان وتخصيص موازنات ضخمة من أجل تعزيزه بالإضافة إلى إقرار بؤر جديدة وإعادة تبييض أخرى قائمة، إلى جانب حملات التحريض واقتحام الأقصى، كما أدت إلى ظهور جماعات مسلحة محلية والإقدام على تنفيذ عمليات ضد المستوطنين وفي المدن الإسرائيلية، وهو ما ركز أعداداً كبيرة من الجيش وقوى الأمن في الضفة على حساب غزة حيث تم نشر 30 كتيبة وفق ما نشره إليشع بن كيمون في موقع "واينت" في التاسع من تشرين الأول واغفال ساحة غزة التي ساد الاعتقاد بأنها باتت هادئة وبأن سياسة حماس تهدف إلى تحصيل المزيد من الأموال والمساعدات وتصاريح العمل.

اليوم التالي للحرب

لن يستطيع أحد التنبؤ إن كانت الحرب التي أعلنتها إسرائيل على حركة حماس مباشرة بعد انتهاء الهجوم على مستوطنات غلاف غزة في السابع من تشرين الأول، ستنجح في تقويض حكم حماس وتجريدها من سلاحها، لكن من شبه المؤكد أن السياسة السابقة لن تتكرر، وأن ما كان لن يكون على مستوى العلاقة والسياسات. ويبقى السؤال: هل سيؤدي هذا الهجوم الذي أنهى عقدا ونصف العقد من سياسة الاحتواء وصيانة الانقسام إلى إنهاء حياة نتنياهو السياسية وطرد اليمين، الذي يسجل هذا الفشل التاريخي على اسمه، من الحكم لسنوات قادمة؟

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات