المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

شنت طائرات تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي فجر الثالث من تموز 2023 غارات استهدفت عدة مواقع في مخيم جنين للاجئين شمالي الضفة، إيذانا بانطلاق حملة عسكرية وصفت بأنها الأوسع من نوعها منذ اجتياح الضفة في العام 2002، وذلك بهدف تدمير "البنية التحية للإرهاب" وملاحقة مطلوبين واستعادة الأمن في المخيم، وفق ما لخصته سلسلة البيانات التي وزعها الناطق باسم جيش الاحتلال في أثناء العملية التي استمرت يومين وخلفت 12 شهيدا بينهم خمسة أطفال وفق الإحصائيات التي نشرتها وزارة الصحة الفلسطينية، إلى جانب أكثر من 140 إصابة جزء منها في حالة حرجة. أسفرت العملية العسكرية في الجانب الإسرائيلي عن مقتل جندي واحد وإصابة آخر بجروح، وحققت نتائج متواضعة ولم تنجح في اقتناص صورة انتصار أو الوصول إلى مطلوبين خطيرين متهمين بتنفيذ عمليات خطيرة ويتخذون من المخيم ملاذا لهم.

رفضت منظومة الأمن الإسرائيلية مرارا وتكرارا الدعوات التي كان يطلقها بشكل أوتوماتيكي قادة المستوطنين ووزراء وأعضاء كنيست من اليمين المتطرف، في أعقاب أي عملية يقوم بها فلسطينيون في الضفة أو في مدن الداخل، حيث نشرت صحيفة "معاريف" في 23 تموز، أي قبل عشرة أيام فقط من العملية العسكرية ضد مخيم جنين، أنها "لم تستنفد الوسائل الأخرى التي لديها" وأن مثل هذه العملية قد تقود إلى "تصعيد في ساحات أخرى وتتسبب في سقوط عدد من القتلى" مع تأكيدها أن "مثل هذه الإمكانية واردة دوما" وتقع ضمن الخيارات التي تدرسها المنظومة الأمنية.

لم يكن لدى أي طرف أوهام تجاه سياسة الحكومة الجديدة التي تفتقد للكوابح في كل ما يتعلق بالسياسات الأمنية والاستيطانية في الأراضي المحتلة، على خلفية تركيبتها التي اعتمدت على أحزاب اليمين واليمين المتطرف، والتي ترجمت على شكل أجندة حكومية وبرنامج يشجع على الاستيطان ويتنكر للحل السياسي، بالإضافة إلى تسلم وزراء من حزبي "عوتسما يهوديت" الذي يترأسه إيتمار بن غفير وحزب الصهيونية الدينية الذي يترأسه بتسلئيل سموتريتش حقائب مهمة تتعلق بالاستيطان ونقل صلاحيات مهمة تتعلق بالاستيطان والأمن لهما.

تركيبة الحكومة اليمينية الخالصة، وعدم وجود بدائل ائتلافية لدى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وتنبؤ الاستطلاعات بفقدان اليمين الحاكم الذي يستحوذ حاليا على 64 مقعدا في الكنيست، للأغلبية البرلمانية في حال سقوط الحكومة التي تعاني من أزمات داخلية ومعارضة جماهيرية وموجة احتجاجات غير مسبوقة، وضعت بيد قادة المستوطنين وممثليهم في الحكومة قوة غير مسبوقة، وهو ما مثل فرصة ربما لن تتكرر في فرض أكبر قدر من الحقائق الاستيطانية على الأرض وإبعاد خطر قيام دولة فلسطينية في المستقبل إلى الحد الذي يجعله غير ممكن، واستبداله بسياسات تهيئ للضم الزاحف ونهب الأرض و"محو" الوجود الفلسطيني منها كليا وتحديدا من المناطق المصنفة (ج) سواء من خلال تكثيف البناء الاستيطاني بوجهيه الرسمي الذي تقره وترعاه الحكومة أو القائم على فرض الأمر الواقع على شكل بؤر استيطانية والاستيطان الرعوي الذي يسيطر على مساحات غير محدودة من الأرض من دون الاضطرار إلى بناء بنية تحتية، وأخيرا من خلال الهجمات والاعتداءات المتواصلة والمنظمة على القرى والبلدات الفلسطينية والحث على شن حملات عسكرية ونصب الحواجز والفصل في الطرقات بين المستوطنين والفلسطينيين.

عنف منظم بغطاء سياسي

في السادس والعشرين من شباط 2023 قام مسلح فلسطيني بإطلاق النار على سيارة مستوطنين على شارع يستخدمه المستوطنون والفلسطينيون في بلدة حوارة قرب نابلس شمال الضفة الغربية ما أدى إلى مقتل مستوطنين شقيقين من مستوطنة (هار براخا). العملية وقعت في لحظة سياسية استثنائية، حيث نجحت الولايات المتحدة ودول إقليمية (مصر والأردن) بالجمع بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في قمة عقدت في العقبة في محاولة لمنع انفجار الأوضاع على الأرض على ضوء سياسات الحكومة العدوانية والضعف الملحوظ الذي تعيشه السلطة الفلسطينية، في فترة حساسة حافلة بالمناسبات الدينية.

لم ينسحب الوفد الإسرائيلي من القمة الأمنية في العقبة، لكن المستوطنين على الأرض شنوا هجوما ارهابيا غير مسبوق على البلدة الفلسطينية وأحرقوا عشرات السيارات والمنازل والحقول في مشهد أعاد إلى الأذهان صور ومشاهد النكبة، وكشف عن مدى قوة وتنسيق وتنظيم المستوطنين خارج الأطر الرسمية، وتحولهم إلى ما يشبه الميليشيا المسلحة، ومدى ضعف وأحيانا تماهي وتواطؤ الحكومة ووزراء فيها معهم.

أعقبت العملية دعوات إلى الانتقام وإحراق "ومحو بلدة حوارة اليوم" التي أطلقها نائب رئيس مجلس المستوطنة التي كان يقيم فيها الشقيقان القتيلان، وهي دعوة لم يستنكرها المستوى الرسمي، بل إن وزير المالية ورئيس حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش وضع على التغريدة التي شجعت عليها علامة قلب في تعبير صريح عن تأييده لها، وهو ما أكده في اليوم التالي من خلال دعوته الجيش "إلى القيام بالمهمة ومحو بلدة حوارة" عن وجه الأرض وعدم ترك هذه المهمة للمستوطنين، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى وصفه بأنه "مقرف وغير مسؤول" ومطالبة نتنياهو بالتنصل من تصريحاته.

تكرر المشهد بذات التفاصيل الإرهابية والروح الهجومية في أعقاب عملية مستوطنة "عيلي" التي وقعت في العشرين من شهر حزيران 2023 على الطريق الواصل بين رام الله ونابلس والتي خلفت أربعة قتلى من المستوطنين، اذ أعقبها هجوم منظم وأكثر شراسة من قبل مجموعات كبيرة من المستوطنين على بلدة ترمسعيا القريبة ما أدى إلى احراق عشرات المنازل والمركبات واستشهاد شاب فلسطيني، إلى جانب إحراق حقول في قرى أخرى ومحاولات اقتحام وإحراق كل ما تصل إليه أيديهم دون أي تدخل حقيقي من قبل الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك)، وفي ظل دعم ضمني وإدانات خجولة ومترددة من قبل المستوى السياسي، إذ علق وزير الأمن القومي على هذه الجرائم الفظيعة فقط بعد عشرين ساعة من وقوعها ومن داخل بؤرة (أفيتار) المخلاة وغير القانونية المقامة على جبل أبو صبيح في قرية بيتا والتي عاد اليها بشكل استعراضي وعقد هو وكتلته البرلمانية جلسة فيها مطالبا (أخوته) من المستوطنين "عدم أخذ القانون باليد".

ابتزاز تحت ذريعة الأمن

لا يكتفي المستوطنون وقادتهم وممثلوهم في الحكومة بالهجوم وإحراق البلدات الفلسطينية، وهو ما يخلف شعورا بالعجز والتهديد الوجودي لدى الفلسطينيين، بل يتبعون ذلك بدعوات متكررة بشن عمليات عسكرية واسعة وفرض قيود على حركة الفلسطينيين من خلال تكثيف نصب الحواجز العسكرية والفصل على الطرقات بين المستوطنين وسكان البلاد الأصليين.

المطالبة بتنفيذ عملية عسكرية واسعة وتشديد الخناق على الفلسطينيين تحولت إلى (برنامج سياسي) لدى المستوطنين، وأصبحت لازمة تتكرر في أعقاب كل عملية.

تبدأ المطالبة من الأسفل من قبل رؤساء مجالس المستوطنات الذي يكونون أول من يستضيفه الإعلام للتعليق على أي حدث أمني، وتتواصل وتأخذ زخما أكبر من قبل أعضاء كنيست ووزراء وجنرالات سابقين ينتمون إلى معسكر اليمين.

ما يعزز الانطباع بتحول (الحرب) على الفلسطينيين إلى هدف بحد ذاته، وبرنامج سياسي لدى المستوطنين وممثليهم في الحكومة، ليس التكرار الآلي لذات المطلب عبر كل منبر يتواجدون فيه، ولا توتيرهم للأجواء من خلال الاعتداءات المنظمة على القرى والبلدات الفلسطينية، بل فوق ذلك كله، جعل عملية الابتزاز التي يمارسها بن غفير وسموتريتش ضد نتنياهو تتضمن هذا المطلب.

في السابع من أيار 2023 نشر موقع (بحدري حداريم- في الغرف المغلقة) مطالب الوزير بن غفير من نتنياهو كي يعود إلى التصويت مع الحكومة في أعقاب احتجاجه هو وكتلته على ما وصفه (بالرد الواهن على الإرهاب) واعلانهم عدم التصويت لصالح الائتلاف ولا المشاركة في جلسات الحكومة إلى أن "تنفذ عملية عسكرية في الضفة الغربية وعودة سياسة الاغتيالات وأن لا يتم استبعاده (بن غفير) من المشاورات الأمنية التي يجريها رئيس الحكومة". وبن غفير الذي قال إنه يريد "أن يرى خطوات على الأرض" عاد في السادس والعشرين من حزيران إلى المطالبة بعملية عسكرية "تقضي على الإرهاب".

المطالبة بشن عملية عسكرية واسعة من قبل قادة المستوطنين ومجلس المستوطنات تحولت إلى عنوان دائم ومتكرر في نشرات الأخبار وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما شكل ضغطا دائما على المنظومة الأمنية وقادة الجيش لوقوفها ضدها واعتبارها أن عملية كاسر الأمواج التي أطلقها وزير الدفاع السابق بيني غانتس تستجيب للتحديات الأمنية وتعقيدات الحالة على الأرض، حيث عبر ضباط كبار في المنظومة الأمنية في الثالث والعشرين من حزيران، أي قبل عشرة أيام فقط من الحملة العسكرية ضد مخيم جنين، عن رفض المنظومة الدخول في عملية عسكرية واسعة شمالي الضفة لأن "الجيش لم يستنفد كافة الوسائل الأخرى" التي بين يديه ولخشيته من أن مثل هذه العملية "ستقود إلى التصعيد في جبهات أخرى" وسيترتب عليها "وقوع خسائر بشرية" في صفوف الجيش.

أدى موقف المنظومة الأمنية الرافض للعملية العسكرية، إلى تحول قادته إلى هدف لدى المستوطنين، حيث وصفت أوريت ستروك، وهي الوزيرة المسؤولة عن الاستيطان، قادة الشرطة والجيش والشاباك بأنهم ينقلبون على الحكومة وقراراتها كما تفعل مجموعات المرتزقة " فاغنر" في روسيا.

كما اشتكى ضباط كبار في السابع والعشرين من حزيران 2023 لرئيس الأركان هرتسي هليفي من أنهم "يتعرضون لعنف المستوطنين" بشكل متعاظم، وفق ما نشرت صحيفة "معاريف".

الحرب في خدمة الاستيطان

إن التناقض بين الشعور بالحاجة لعملية عسكرية واسعة بين قادة وممثلي المستوطنين في الحكومة وخارجها وبين المستويات المهنية في المنظومة العسكرية يثبت أن هذه المطالبات لا تأتي من أجل الحاجة إلى الأمن أو كونها الخيار الأخير من جملة خيارات أخرى، بل على اعتبار أنها أداة تساهم في ما يلي:

(*) إضعاف المجتمع الفلسطيني وتدمير بنيته التحية؛

(*) استبعاد الخيار السياسي وإزالته من جدول الأعمال؛

(*) خلق مناخ تصعيد وهيمنة خطاب العنف والحرب وهو ما ينتج أرضية خصبة للفصل بين المستوطنين والفلسطينيين ويؤمن غطاء للتوسع في الاستيطان وإنشاء بؤر جديدة والعودة إلى بؤر مخلاة.

(*) إضعاف السلطة الفلسطينية والحد من سيطرتها ووجودها في المدن المستهدفة.

إن الخلاصة التي تظهرها الوتيرة المتكررة لهذه الدعوات والسلوك الذي يتبعه المستوطنون على الأرض والغطاء الذي يتلقونه من الحكومة، تفيد بأن الحرب باتت هدفا بحد ذاته، وما الجيش الذي يمتلك القوة والعتاد سوى أداة مكملة في مخطط الضم والسيطرة على الضفة بكل ما لهذا من ثمن على الفلسطينيين والواقع المستقبلي الغامض الذي تخلفه هذه الحروب.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات