المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تعود في إسرائيل من فترة إلى أخرى إلى العناوين (غير الرئيسية) قضية تواصل التكتّم على ملايين الوثائق المودَعة في الأرشيفات الرسمية، المدنيّة والعسكرية، تحت سريّة عالية. وهذا يشمل وثائق انتهت الفترات التي يحددها القانون لحجبها، بل تلك التي تم إعادة تمديد فترات منع كشفها. وعلاوة على كل هذا، فحتى بالنسبة للحالات التي ادّعت فيها السلطات أن سبب الحجب هو عدم تجهيز المواد لأسباب تقنيّة، فإن نسبة ضئيلة فقط منها متاحة للجمهور.

قانونياً، تتراوح فترة التقادم من 15 إلى 90 عاماً من تاريخ كتابة الوثيقة، وأحياناً تختلف حسب "نوع وحساسية المادة". لكن الأرشيف يعترف في ردوده الرسمية أن حوالي مليون ملف – أي حوالي ثلث عدد الملفات المحفوظة فيه - لم يتم الكشف عنها للجمهور على الرغم من انتهاء فترة التقادم عليها، والتي كان من المفترض أن يقوم الأرشيف بالكشف عنها. الجدير بالتذكير أن هناك تقريراً تناول سياسات الأرشفة الرسمية، قد صدر عن أرشيف الدولة نفسه، ونُشر في كانون الثاني 2018، وكشف عن حيازة أرشيف الدولة على نحو 300 ألف ملف لمواد ووثائق سرية حان تاريخ نشرها بالفعل، لكن بالرغم من ذلك لم يكشف عنها، في حينه.

"معهد عكيفوت" الذي نشر المعلومات المحدّثة، وهو منظمة غير ربحيّة تنشط من أجل كشف وثائق تمنع السلطات الإسرائيلية نشرها، يقول إن 2.8% فقط من الملفات الموجودة في الأرشيف الحكومي يُسمح بالاطلاع عليها. وهذا يشمل كلاً من أرشيف الدولة وأرشيف الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن. وتُظهر الأرقام والبيانات الجديدة أيضاً أن معدل فحص الملفات قبل الكشف عنها منخفض جداً - لا سيما في أرشيف الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن، وهو أكبر أرشيف حكومي في إسرائيل. ويشير "عكيفوت" إلى أن هذه الحقيقة تساهم في استمرار انخفاض معدل الوصول إلى التوثيق التاريخي في دولة إسرائيل.

ويتابع أن هذا الوضع يتواصل على الرغم من وجود "تحسن كبير في عمل الأرشيفات في السنوات الأخيرة، إذ أن نسبة العناوين التي تظهر في قوائم الفهارس التي يمكن للجمهور الوصول إليها والتي تجعل من الممكن معرفة المواد المؤرشفة، قد زادت بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات السابقة".

أي أنه لا يمكن للجمهور الوصول إلى 86% من الملفات المسجّلة في أرشيفات الدولة، على الرغم من اكتمال فحص معظمها ومسحها ضوئياً. فهي تنتظر فحصاً يدوياً لمحتوياتها من قبل موظفي الأرشيف قبل أن يتم تحميلها على موقع أرشيفات الدولة، ولكن نظراً للكم الهائل من المواد، فإن نهاية العملية ليست في الأفق، وفقاً لما أفاد تقرير لصحيفة "هآرتس" كتبه عوفر أديرت. تم إجراء مسح ضوئي لنحو 78% من الثلاثة ملايين ملف مسجل في الأرشيفات – وبالأرقام: هناك نحو 2.3 مليون ملف قد تحتوي على مئات الملايين من الصفحات. أما عدد الملفات التي يمكن للجمهور الوصول إليها على موقع الأرشيف فيبلغ حوالي 433 ألفاً فقط.

إدارة الأرشيف توجّه المسؤولية للوزارات الحكومية

قبل خمس سنوات، كان 5% فقط من الملفات الموجودة في الأرشيفات متاحة للجمهور. ومع ذلك، فإن المحصلة النهائية هي أن قدرة الجمهور على الاستفادة من المواد المؤرشفة محدودة للغاية. إدارة أرشيف الدولة تقول للصحيفة إنهم يتعاطون مع "ثغرات كبيرة في الكشف" عن الوثائق. وهذه سيرورة طويلة تشمل قراءة الملفات وتحديد ما إذا كان يمكن تحميلها على موقع الأرشيف، وكذلك ما إذا كان يجب مراقبة أجزاء منها وفقاً لاعتبارات مختلفة مثل "أمن الدولة وخصوصية الفرد". إدارة الأرشيف، تضع مسؤولية التناقضات في الأرقام، ما بين الجاهز وما فُحص والمُتاح، أيضاً على الجهات التي تودع وثائقها في أرشيف الدولة، بما في ذلك الوزارات الحكومية، التي كان من المفترض أن تعد الوثائق للنشر بنفسها، لكنها لم تفعل ذلك منذ سنوات. 

يمكن تصفح العديد من الوثائق التاريخية على الموقع الإلكتروني للأرشيف، بما في ذلك محاضر اجتماعات الحكومة، اجتماعات لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست، اجتماعات اللجنة الوزارية لشؤون الأمن، ومجموعات الوثائق من حرب 1967، وحرب 1973، واتفاقيات أوسلو. وهناك وثائق أخرى منها: قوائم المهاجرين واللاجئين، محاكمة النازي أيخمان، مواد عن هجرة اليهود الأثيوبيين، وبيانات عن علاقات إسرائيل مع دول مختلفة بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية ومصر وإيران وألمانيا.

لكن الأرشيف يقول إنه لن يكون من الممكن أبداً نشر جميع الثلاثة ملايين ملف المودعة فيه، حيث إن بعضها "لا يُسمح بالكشف عنه ونشره. ومن بين هذه الملفات مئات الآلاف من الملفات من السجل السكاني، والتعدادات السكانية، والمحاكم، وملفات وجرائم خطيرة وغيرها". وهناك أيضاً 1.6 مليون ملف لم يتم فتحها مطلقاً ولا أحد يعرف محتواها حتى اليوم. وفقاً للأرشيف، بدأ قبل حوالي عام "مشروع لتسجيلها ومسحها ضوئياً، لكن المشروع سيستغرق وقتاً طويلاً".

0.36% فقط من الملفات متاحة في أرشيف الجيش الإسرائيلي 

يلاحظ "معهد عكيفوت" أن وضع إتاحة مواد أرشيف الجيش الإسرائيلي ونظام الدفاع أسوأ بعدة أضعاف: وفقاً لبيانات الأرشيف، هناك حوالي 14 مليون ملف محفوظ هناك (إلى جانب 4.5 مليون صورة فوتوغرافية، و 100 ألف شريط صوتي، و 80 ألف فيلم). يمكن الاطلاع على 0.36% فقط من جميع الملفات في أرشيف الجيش الإسرائيلي، ومنها ما هو متاح بشكل جزئي وليس بالكامل. وبالأرقام هناك حوالي 51 ألف ملف متاح في هذا الأرشيف لا غير. بينما تشير تقديرات الباحثين إلى أن فترة التقادم على حوالي مليون ملف قد انتهت بالفعل.

بعض الملفات الأرشيفية التي لم تُنشر بعد تتعلق بالنكبة الفلسطينية. توثق هذه الملفات عمليات ترحيل وقتل الفلسطينيين ونهب ممتلكاتهم من قبل جنود الجيش الإسرائيلي، مثل مذبحة دير ياسين العام 1948. كذلك هناك وثائق لجهاز الأمن العام الشاباك المتعلقة بالتحقيق في مقتل يسرائيل كاستنر العام 1956، وتورّط الشاباك في قمع احتجاج اليهود الشرقيين في حي وادي الصليب بحيفا العام 1959، ووثائق توثق علاقات إسرائيل مع أنظمة ديكتاتورية في دول مثل تشيلي والأرجنتين، والتي باعتها إسرائيل أسلحة استخدمت أيضاً لقتل مواطنين يهود، ووثائق الموساد عن مجزرة مخيمي اللاجئين الفلسطينيين صبرا وشاتيلا في أيلول 1982، في خضم ما يُعرف في إسرائيل بحرب لبنان الأولى.

تقرير "هآرتس" الذي جاء فيه إنه نتاج تعاون مع "عكيفوت" طرح علامات استفهام على مدى النزاهة في استخدام تعريف "السريّة" في كثير من الحالات، إذ يتم استخدام ختم "سري للغاية"، الذي يدمغ العديد من الوثائق التي لم يتم الكشف عنها للجمهور، كذريعة لفرض رقابة على الوثائق التي لا علاقة لها بأمن الدولة. 

وتتابع الصحيفة أن الدولة اختارت فرض الرقابة عليها لأسباب مختلفة مثل حماية صورتها، وأحياناً حتى بدون سبب.

في المقابل، يعرّف قانون العقوبات 5737-1977 "المعلومات السرية" على أنها "المعلومات التي يتطلب أمن الدولة الحفاظ عليها سرية"، أو "المعلومات التي يشير محتواها أو شكلها أو ترتيبات حيازتها أو مصدرها أو ظروف استلامها، إلى واجب إبقائها سريّة".

كذلك، فقد تناول مراقب الدولة الإسرائيلية هذه القضية، وخلص إلى أن هناك تأخيرات حقيقية في الكشف عن الوثائق التي انتهت فترة وجوب إخفائها، بالرغم من أن الأنظمة تنص على وجوب الإفصاح عن المواد الأرشيفية المقيّدة التي انتهت مدة حجبها، في نهاية الفترة المحددة.

 

بحث في الكنيست حول حظر الوثائق: ممارسات مخالفة للقانون

عقدت لجنة العلوم والتكنولوجيا في الكنيست في أواسط هذا الشهر جلسة حول هذه المستجدات المتعلقة باستمرار الحظر الجارف للوثائق عن أعين الباحثين والصحافيين وسائر الجمهور. وقال رئيس اللجنة عضو الكنيست أيمن عودة: "أقل من 3% من الملفات في أرشيف الدولة متاحة للجمهور بينما أرشيفات الجيش والشاباك مغلقة تماماً، بشكل مخالف للقانون. إن إتاحة للأرشيفات لا يجب أن تكون مرتبطة بأهواء سياسية. إنهم لا يكشفون الحقيقة لي فقط لأنهم لا يريدون لنا، العرب، أن نعرف وإنما لأنهم لا يريدون أن يطلع اليهود على الحقيقة أيضاً". بينما تساءل عضو الكنيست عوفر كسيف: "لماذا تقوم الدولة بالإخفاء؟ لأنه على ما يبدو يوجد لديها ما تخفيه. الدولة تريد السيطرة على الماضي من أجل السيطرة على المستقبل".

وشدّد مدير عام "معهد عكيفوت" ليئور يفني على أن: "هناك كمية هائلة من المواد التي انتهت مدة التقييدات المفروضة عليها، إلا أن الملفات ما زالت مغلقة بسبب الأنظمة التي تلزم بفحص المواد قبل فتحها أمام الجمهور. يجب تحضير إجراءات واضحة وعلنية للكشف عن الملفات ونحن نقترح الكشف بشكل فوري عن المواد التي انتهت فترة التقييدات الخاصة بها". 

وقال الباحث في المعهد آدم راز: "لا يمكن تقريبا إجراء بحث ودراسة أكاديمية في البلاد إذا لم تكن مؤرخا ولم تعمل في وزارة الدفاع – لا توجد إمكانية وصول وإتاحة للأرشيف. كذلك، فأرشيف الشاباك مغلق تماما، وهناك مجالات بحث كاملة غير قائمة. ومن أجل الحصول على معلومات عليك أن تتوجه للمحكمة ولأشخاص وهذا الأمر يستغرق الكثير من الوقت. بالإضافة إلى ذلك يتم توجيه الطلاب الجامعيين إلى مواضيع هي ليست في لب الاهتمام. وعموماً، الأرشيفات لا تحترم القانون ولا تعمل وفقاً لما ينص عليه".

مديرتا أرشيف الدولة وأرشيف الجيش: ذرائع وتبريرات

مديرة أرشيف الجيش الإسرائيلي والجهاز الأمني التي حضرت الجلسة، أورنا زوهر، ادّعت أن "المعطيات غير دقيقة. من بين 14 مليون ملف في أرشيف الجيش الإسرائيلي، انتهت فترة التقييدات على 1.1 مليون ملف. نحن نقوم باستثمار الكثير من الموارد، وكمية الملفات التي يتم الكشف عنها غير قليلة. نحن نحاول العثور على أشخاص ذوي رؤية أمنية وتاريخية وتجنيدهم للعمل"، واعترفت: "كأرشيف عسكري وأمني فإن 95% تقريبا من المواد مصنفة سريّة بهذه الدرجة أو تلك".

كذلك، ادعت مديرة أرشيف الدولة روت أبراموفيتش: "يوفر أرشيف الدولة خدمة للجمهور إلا إذا كان هنالك منع للكشف عن المعلومات. نحن نتواجد في المكان الذي يتوسط أمن الدولة من جهة وحقوق الفرد في الكشف عن المعلومات للجمهور، من جهة أخرى". وأضافت: "ينص القانون على أن الجهة المسؤولة عن الكشف عن معلومات هي الهيئات التي تقوم بإيداع المواد، كالوزارات. يوجد في أرشيف الدولة نحو 3 ملايين ملف مسجل و1.6 مليون ملف غير مسجل، ونحن الآن في خضم مشروع تسجيل الملفات".

كما سبقت الإشارة في تناوُل لهذه القضية، فإن الجمهور العام، بما يشمل المعنيّين بكشف المواد من مؤرخين وباحثين وصحافيين ومهتمّين، يقف أمام وضع يتم فيه لَيّ عنق القانون بقبضات بيروقراطية، ويصطدم بذريعتين تكمّل إحداهما الأخرى، الأولى "ضخامة حجم المواد الموجودة في أرشيف الجيش الإسرائيلي" والثانية وجود "فريق عمل صغير". أي أنه ليس هناك نفي للتفسير القانوني الذي يلزم بفوريّة الكشف، بل يجري الالتفاف على هذا بذرائع تشكل هي نفسها مثالب ومدعاة للنقد، بل للمساءلة. فمسؤولو الأرشيف يعرفون ويعترفون مسبقاً بهاتين الإشكاليتين اللتين يقع واجب معالجتهما عليها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات