المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أرسل مئات الناشطين في صناعة الهايتك في إسرائيل رسالة إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عقب تكليفه بهذه المهمة، أعربوا فيها عن قلقهم الشديد حيال العواقب التشريعية الجديدة وتحركات أعضاء الائتلاف لضعضعة مكانة السلطة القضائية في إسرائيل.

وجاء في الرسالة: "نحن رواد الأعمال ومؤسسو الشركات الناشئة في إسرائيل، المستثمرين ومديري صناديق رأس المال الاستثماري، نتوجه إليكم لنعرب لكم عن قلقنا العميق إزاء التحركات التشريعية التي تجري هذه الأيام في الكنيست وتداعياتها على الاقتصاد الإسرائيلي بشكل عام، وصناعة الهايتك بشكل خاص... إن تقويض الثقة في القضاء الإسرائيلي سيزعزع من مكانة الديمقراطية الإسرائيلية، والتشريعات الجديدة ستمس بالحقوق الإنسانية الأساسية للفرد، وتحد من عزيمة المستثمرين في هذه الصناعة. نتيجة لذلك، قد نشهد تحركات لشركات هايتك إلى خارج إسرائيل، بالإضافة إلى تحويل مردودات ضرائب تلك الشركات إلى الخارج. لهذا فنحن كمواطنين نحب دولتنا ونهتم بمصلحتها، نطالب بعدم السماح بحدوث ذلك! نتوجه إليكم طالبين بعدم إلحاق الضرر بمكانة إسرائيل في العالم وعرقلة النمو المستمر للاقتصاد الإسرائيلي لصالح جميع مواطني الدولة. نطالبكم بوقف كرة الثلج المتصاعدة، وتثبيت السفينة والحفاظ على الوضع الراهن بين جميع أطياف المجتمع الإسرائيلي". 

هذه الرسالة لم تكن موجهة لوزير أو لسلطة معيّنة بل خاطبوا فيها رئيس الحكومة مباشرة: "نحن كمواطنين نحترم نتائج الانتخابات الأخيرة التي تعكس إرادة الشعب ونعتقد أنك كرئيس للحكومة ستعمل من أجل مصلحة جميع مواطني إسرائيل... نحن نرى أن التعدي على مكانة السلطة القضائية وعلى حقوق الأقليات في الدولة سيشكل تهديداً وجودياً حقيقياً لصناعة الهايتك في إسرائيل".

إن القلق حيال تشريعات الحكومة اليمينية مبهم حقا، فإن صناعة الهايتك في إسرائيل لا تعتمد على الحكومة فقط، بل على استثمارات خارجية لا تخضع لمعرقلات قانونية من قبل الحكومة الإسرائيلية وبهذا لا تضر بأرباحها. فالسياسات النيوليبرالية التي قادها نتنياهو على مر الأعوام الأخيرة هي أكبر دليل على أهمية الخطاب الاقتصادي وتلميع صورة إسرائيل في العالم من خلال صناعة الهايتك والشركات الناشئة فيها. بالرغم من ذلك، استمرارية نجاح صناعة الهايتك كما يراها مديرو الشركات ورواد الأعمال مرهونة بالقيم الأساسية المشتركة للدول المستثمرة والتي تهتم بمكانة السلطة القضائية. فضعف السلطة القضائية يشير إلى حالة من عدم الاستقرار التي يهابها المستثمرون. وعدم استقرار الجهاز القضائي يولّد نظاماً متقلّباً دون أخذ أي اعتبارات موضوعية بالحسبان ستضر بمصلحة المستثمرين. 

إن قلق رواد الأعمال والمستثمرين في إسرائيل محق، لكنه غير كاف. فغالباً ما يهتم المستثمرون بقدرة الدول على حماية حقوق الملكية والمواهب المحلية الموجودة لدى رواد الأعمال في الشركات الناشئة المحلية. وأغلبية المستثمرين الأجانب في صناعة الهايتك في إسرائيل لا ينشغلون بالسياسات الداخلية طالما أن حقوقهم الملكية محفوظة. على سبيل المثال، الانتهاكات والسياسات القمعية الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني لم تكن موضع اهتمام في قرارات المستثمرين الأجانب. والرسالة الأخيرة التي أرسلت لرئيس الحكومة تشير إلى قلق حقيقي من أن بنيامين نتنياهو على استعداد لتكليف شركاء متطرفين وتفعيل انتهاكات قمعية أشد قسوة في قرى ومدن فلسطينية في الضفة الغربية، ما سيجعل دولا أجنبية عدة تقوم بالضغط على إسرائيل اقتصاديا وهذا يمكن أن يعرقل العلاقات الاقتصادية بين شركات الهايتك الإسرائيلية المحلية والشركات العالمية وحكوماتها. 

إن موقف المستثمرين، رواد الأعمال ومؤسسي الشركات التكنولوجية، تجاه ما يحدث الآن على الساحة السياسية الإسرائيلية يعزز من المفارقة بين الحالة الاستعمارية الفاسدة ومفهوم الديمقراطية في إسرائيل. فعلى الرغم من أن بعض الموقعين على الرسالة يعارضون وجود رئيس حكومة مع لوائح اتهام جنائية، إلا أنهم يرون أنه العنوان الوحيد لحماية نظام العدالة وصناعة الهايتك المحلية. ومع ذلك، فلا يمكن الاستهانة بأهمية هذه الرسالة واللغة التي استعانوا بها لمخاطبة رئيس الحكومة. فلغة الخطاب النيوليبرالية الاقتصادية الواضحة للحفاظ على مصلحة إسرائيل اقتصاديا هي اللغة التي يخاطب بها بنيامين نتنياهو منذ سنوات ويروّجها للحكومات الأجنبية والعربية بهدف تحسين صورة إسرائيل عالميا من خلال التكنولوجيا الحديثة في صناعة الهايتك. 

صناعة الهايتك الإسرائيلية تحظى برعاية وتوجيه حكومي مركزي تحت شعار النيوليبرالية، وقوامها الجيش والصناعات العسكرية ومشتقاتها وطابعها "سايبري" أمني، ومادتها البشرية الأساسية خريجو وحدات "السايبر". ففي السياسات النيوليبرالية نرى عمليات خصخصة وسوق حرة وقوننة حديثة تناسب الواقع التكنولوجي الحديث، حيث نرى تواجداً لرجال أعمال ومستثمرين محليين وعالميين بالقاعدة التكنولوجية الإسرائيلية. لذلك بالرغم من وجود هذه السياسات النيوليبرالية في سوق العمل الإسرائيلية، فإن صناعة الهايتك بالتحديد هي صناعة تتحدى القطبية الموجودة بين عملية الخصخصة والتأميم وذلك بسبب دور الحكومة الإسرائيلية فيها. 

الحكومة الإسرائيلية توظّف الخطاب النيوليبرالي لصالح أجنداتها التكنولوجية والأمنية منذ سنوات التسعين. حينها تحولت إسرائيل إلى قوة عظمى في صناعة التكنولوجيا المبتكرة لأنها وضعت خططا لتحقيق هدفها عبر تشريعات وسن قوانين جاءت لتخدم هذا القطاع وتشجيع الاستثمار الرأسمالي الخارجي. كما تم إنشاء مؤسسات مثل هيئة الابتكار وصندوق الثقة لسياسة الابتكار وصندوق البحث وبرامج مختلفة لتطوير الشركات الناشئة ودعم الشركات العالمية لتستثمر بالبلاد مثل إنتل ومايكروسوفت التي أقامت مراكز للأبحاث والتطوير بعد إطاعة قوانين الاستثمار وذلك من أجل الحصول على تمويل حكومي والإعفاء من دفع الضرائب. واليوم هناك أكثر من 100 صندوق لرأس المال الاستثماري يستثمر في الهايتك الإسرائيلي استثمارات تزيد عن 3 مليارات دولار سنوياً.

كما أن صناعة الهايتك الإسرائيلية هي امتداد لنموذج صناعة الهايتك في الولايات المتحدّة، حيث أن كلا من الصناعتين انطلقتا بالأساس من المؤسسة العسكرية وبينهما علاقات اقتصادية وأمنية وطيدة وثابتة. وصناعة الهايتك في إسرائيل هي نتاج مشروع قومي حيث يتم من خلال المؤسسة العسكرية تعزيز الثقافة التكنولوجية وتقوية الروح الريادية عن طريق استحضار الرجل التكنولوجي الصهيوني الريادي الفائق باعتباره نموذجاً حضارياً مثالياً للذات الريادية القومية. والخبرة التي يتم اكتسابها في الجيش تمنح الرجل التكنولوجي الصهيوني القدرة على إنتاج منتجاته وأفكاره المبتكرة وتسويقها للخارج عبر شركاته الناشئة الخاصة، حيث تستثمر الشركات العالمية والحكومة الإسرائيلية في الأفكار التكنولوجية الأكثر ابتكارا. 

نتيجة لذلك، حصل تغيير هيكلي في صناعة الهايتك مع ازدياد عدد الشركات والمنتجات التكنولوجية حيث أصبحت بحاجة ماسة إلى أياد عاملة كثيرة. وأغلب العاملين في هذه الصناعة هم من الفئة الأشكنازية التي تملك معرفة مهنية وتكنولوجية من المؤسسة العسكرية حيث نشهد امتدادا طبقيا مرورا من الجيش لسوق العمل التكنولوجية التي ترتكز غالبيتها في مدينة تل أبيب وضواحيها. أما حالة إشراك الفئات المستضعفة ("الأقليات"، بحسب الخطاب الصهيوني) في هذه الصناعة فمرتبطة أولا بالتوسّع الذي يولّد حاجة لأياد عاملة مهنية تحت شعار خطاب التعددية. والشركات العالمية أخذت توطن هذا الخطاب الأميركي، وساعد في ذلك انضمام إسرائيل إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الـ OECD، والاشتراطات التي فرضت عليها، والمتمثلة بدمج العرب واليهود الحريديم وتقوية مكانتهما الاقتصادية. وفي إثر ذلك قامت الحكومة الإسرائيلية بوضع خطط عديدة لإشراك هؤلاء في صناعة الهايتك الإسرائيلي. وما يقلق هؤلاء النشطاء أيضا هو التعصّب الديني والقوانين التي ستسن ضد الفئات المستضعفة في إسرائيل والتي ستهدد مكانة إسرائيل في منظمة الـ OECD.  إضافة إلى ذلك، فإن المجتمع الفلسطيني هو أحد اهم المحركات للاقتصاد الإسرائيلي حيث لا يمكن التخلي عن فئات مهنية فلسطينية في سوق العمل الإسرائيلية لأن ذلك سيضر بمصلحة إسرائيل الاقتصادية المحلية والعالمية.

السؤال الذي يطرح الآن هو: هل الاعتداء على النظام القضائي الإسرائيلي سيؤدي حتما إلى انخفاض الاستثمارات الأجنبية ودفع الشركات التكنولوجية العالمية إلى خارج البلاد؟ وهل الحكومة الحالية ستلغي البرامج الاقتصادية التي تهدف إلى إشراك الفلسطيني في الهايتك المحلي بسبب الحاجة لأيد عاملة؟ بحسب المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، فإن خطاب التعدّي على استقلالية النظام القضائي هو جدل محلي يخص سياسات إسرائيل الداخلية ولن يؤثر على الاقتصاد الإسرائيلي وصناعة الهايتك المحلية، حيث لم نشهد أي تدخّل عملي للنظام القضائي حتى الآن يضر بمصلحة إسرائيل الاقتصادية والتكنولوجية على حد سواء. على العكس من ذلك، فقد رأى المستثمرون الأجانب كيف أن هذا النظام عاقب في الماضي رئيس دولة، ورئيس حكومة، وحاخاماً كبيراً، ورجال أعمال، ووزراء، ورؤساء بلديات. ورئيس الحكومة الحالي سيعمل وبقوة على دعم صناعة الهايتك وعلى الأخص بيع المنتجات التكنولوجية السيبرانية والأسلحة إلى شركات خاصة وحكومات أجنبية لإنجاح "اتفاقيات أبراهام" والاستفادة اقتصادياً من الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية. 

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات