المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قبل عام واحد تقريباً، ضجت وسائل الإعلام الإسرائيلية بحادثة انتحار جنديّ من وحدة "غولاني" في الجيش الإسرائيلي. والعنصر المثير الذي استدعى تلك التغطية الإعلامية الواسعة لتلك الحادثة آنذاك تمثل في الطريقة التي اختارها الجندي لوضع حدّ لحياته: القفز من المقعد الخلفي في سيارة أجرة كانت تسافر بسرعة كبيرة على الشارع السريع المركزي في إسرائيل والمسمى "شارع عابر إسرائيل".

في المراسم العسكرية التي نظمها الجيش الإسرائيلي لتشييع جثمان الجندي المنتحر قال شقيقه البكر: "رأيته مهموماً ومحبطاً. سألته ماذا به فقال لي: لم أحصل من الجيش على أي شيء مما طلبتُه"!  وأضاف: "فهمت من زملائه الذين كانوا يخدمون معه في وحدة غولاني أنه كان دائم التوتر ويشكو من آلام في البطن وأعراض تدل على ضائقة نفسية. لكن الجيش لم ينتبه إلى حالته النفسية ولم يهتم بتشخيصها ثم معالجتها بصورة صحيحة. وبدلاً من ذلك، اتصل بالعائلة وطلب منا الحضور لاصطحابه إلى البيت وكأنه يقول لنا: أنا رفعت يديّ ورفعتُ مسؤوليتي عن هذا الجندي وحالته وعليكم أن تتكفلوا أنتم الآن بمتابعتها ومعالجتها"!!

الجندي المقصود هنا يدعى أبيبا سردخ وهو أحد أبناء طائفة اليهود الأثيوبيين (الفلاشا) في إسرائيل والذي تقيم عائلته في مدينة بيت شيمش في منطقة القدس. وقد استذكر موقع مركز "شومريم" / الحرّاس (الذي يعرّف نفسه بأنه "مركز للإعلام والدمقراطية؛ جسم إعلامي غير سياسي غايته تعزيز أسس الديمقراطية في إسرائيل من خلال المشاريع الإعلامية والتعاون مع وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى") ليستهل به تقريراً موسعاً نشره مؤخراً عن حالات الانتحار بين الشبان اليهود من أصل أثيوبي، تحت عنوان "ضياع: الشبان القادمون من أثيوبيا ينتحرون أكثر من أية مجموعة أخرى في إسرائيل"، ثم ليقول بعد ذلك إن "ثمة ما هو أوسع وأخطر من مأساة هذا الشاب الشخصية وعائلته؛ إنها المشكلة الواسعة والخطيرة المعروفة جيداً بين المهاجرين من أثيوبيا في إسرائيل  ـ معدلات الانتحار الاستثنائية بكل المقاييس بين شبان هذه الطائفة، والتي لم تحظ حتى الآن بأي علاج ولا تزال تتفاقم باستمرار". 

وبالرغم من أن هنالك "جدلاً حول الأرقام، إلا أنه لا خلاف ولا جدال حول المشكلة ذاتها: الشبان من أبناء الجيلين الثاني والثالث بين المهاجرين الفلاشا ينتحرون أكثر من أية مجموعة سكانية أخرى في إسرائيل وكذلك أكثر من أية مجموعة سكانية أخرى في العالم أجمع". و"لئن كانت مشكلة الانتحار أكثر اتساعاً في السابق بين البالغين في السن الذين لم يستطيعوا التأقلم مع ظروف وواقع الحياة في إسرائيل، فإن متوسط أعمار المُقدمين على الانتحار يتراجع باستمرار حتى أن المعدلات أصبحت مرعبة حقاً، بما في ذلك بين الجنود الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي". ولهذا يأتي تقرير "شومريم" الخاص هذا ليسلط ضوءاً مكثفاً على "انعدام الثقة القاتل بالمؤسسة الرسمية وسلطاتها المختلفة، منظومات التيئيس التي تبقي كثيرين من هؤلاء الشبان في حالة من الضياع"، مؤكداً ـ على لسان الطبيب النفسي البروفيسور غيل زلتسمان، مدير مستشفى "جيها" للأمراض النفسية ورئيس "المجلس القومي لمنع الانتحارات" ـ أن "الشبان اليهود من أصل أثيوبي هم المجموعة الأكثر إقداماً على الانتحار في إسرائيل وفي العالم قاطبة، وليس مقارنة بأبناء جيلهم فقط"! 

بطالة وفقر، عنصرية وتمييز وإهمال

في حزيران الأخير، أعلنت إسرائيل أنها ستستأنف جهودها الرامية إلى جلب نحو 3000 يهودي آخر من أثيوبيا، هم أقارب من الدرجة الأولى لمهاجرين أثيوبيين موجودين هنا في إسرائيل، وذلك بعد أن جمدت العمل في هذا المشروع إبان جائحة كورونا. لكن إحضار آلاف المهاجرين الجدد من أثيوبيا إلى إسرائيل في هذه المرحلة يشكل مناسبة جديدة، أخرى، لدى قيادات هذه الطائفة في البلاد لمطالبة الدولة "ليس فقط بإحضار هؤلاء وإنما، وهذا الأهمّ، توفير ما يضمن لهم حياة كريمة، بل يضمن لهم البقاء على قيد الحياة أصلاً"، كما تقول نيجيست منغيشا، رئيسة إحدى الجمعيات من أجل اليهود الأثيوبيين في إسرائيل والذين يبلغ عددهم اليوم نحو 135 ألفاً. وتضيف: "إسرائيل الرسمية تعرف جيداً كيف تمنح المهاجرين إليها شعوراً بأنهم قد وصلوا إلى البيت، لكن الامتحان الحقيقي يكون عندما يتحول المهاجرون الجدد من ضيوف شرف إلى مواطنين متساوي الحقوق والواجبات ليكتشفوا عندئذ مدى تدني مكانتهم على السلم الاقتصادي ـ الاجتماعي في إسرائيل... أي أن تجند إسرائيل المثير من أجل إنقاذ اليهود الذين يواجهون مخاطر جدية في مناطق مختلفة من العالم لا ينبغي أن ينتهي ويتوقف عند الحدود، مع لحظة الدخول إلى البلاد". وقالت منغيشا: "لقد أتينا إلى بلاد السمن والعسل، لكي نشارك بقية أبناء الشعب اليهودي بناء المشروع الصهيوني الكبير، لكننا فوجئنا بأن أحداً لا يريدنا هنا"، مؤكدة أن اليهود الإثيوبيين "يتعرضون إلى تمييز عنصري واضح من قبل المؤسسات الرسمية وعامة الإسرائيليين"، ومشيرة إلى ظاهرة الانتحار في صفوف اليهود الأثيوبيين التي أرجعتها إلى "واقعنا الاقتصادي الاجتماعي المتردي جداً، من حيث معدلات البطالة والفقر الناجمة عن عنصرية رسمية تتجسد في التمييز والإهمال في جميع مجالات الحياة، الأمر الذي يمنع اليهود الأثيوبيين من الاندماج في المجتمع الإسرائيلي" وأكدت أن "مساعي الدولة نحو تقليص معدلات الانتحار بين اليهود الأثيوبيين هي قضية حياة أو موت، بالمعنى البسيط والفعلي تماماً". وللنمذجة على ذلك، ذكرت منغيشا أن نسبة البطالة العامة في إسرائيل هي 7.4 بالمائة بينما تبلغ بين اليهود الأثيوبيين نحو 16 بالمائة وبينما تبلغ نسبة الفقر في إسرائيل عامة 15.8 بالمائة فإنها تزيد عن 52 بالمائة بين اليهود الأثيوبيين. 

 منذ بدء هجرة/ تهجير اليهود من أثيوبيا إلى إسرائيل، وتحديداً ضمن "عمليّة موسى" في العام 1984، ثم في "عملية سليمان" في العام 1991، تسجل بينهم معدلات مرتفعة من حالات الانتحار قياساً بمعدلاتها بين السكان عموماً في إسرائيل، وبمعدلاتها بين المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق الذين اصطدموا بمصاعب عديدة لدى وصولهم إلى البلاد، وكذلك قياساً بمعدلات الظاهرة في العالم أجمع. وتعتبر سنة 2005 "سنة الرقم القياسي السلبي" في هذا المجال إذ بلغ معدل انتحار الشبان من أصل أثيوبي 13 ضعفاً عن معدل الانتحار بين الشبان الإسرائيليين الآخرين في شريحة الجيل ذاتها. وقد أشار تقرير بعنوان "الانتحارات في إسرائيل" أعدّته دائرة المعلومات في وزارة الصحة في تموز 2018 إلى أنه في الأعوام 2010- 2015 كانت نسبة الانتحار بين الشبان اليهود المهاجرين من أثيوبيا تعادل 8 أضعاف النسبة المتوسطة في إسرائيل عموماً لدى الفئات العمرية ذاتها. وأفاد معطى آخر نشرته وزارة الصحة الإسرائيلية في السنة نفسها أن "نحو الثلث من حالات الانتحار بين اليهود المهاجرين من أثيوبيا تحصل بين الفتيان والشبان في سن 15- 24 عاماً، مقابل نحو عُشر فقط بيت المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق ونحو عُشر أيضاً بين المولودين في إسرائيل من الفئة العمرية نفسها".

تشير دراسات عديدة إلى العلاقة بين الهجرة والميل إلى الانتحار، بما في ذلك الانتقال من دولة إلى أخرى، من بيئة اجتماعية إلى أخرى، من بيئة ثقافية إلى أخرى، وبما يخلق في المحصلة أزمة هوية ترافقها زعزعة المبنى العائلي المعروف ومواجهة التحديات الحياتية الخارجية المختلفة، مثل العنصرية وكراهية الآخر، ثم ما يتبعها من تمييز وإهمال في مختلف مناحي الحياة وغيرها. 

وترى عالمة الأنثروبولوجيا البروفيسور إستير هرتسوغ أن اليهود الفلاشا تم تهجيرهم إلى إسرائيل"للعمل في الوظائف المتدنية مثل كنس الشوارع وتنظيف دورات المياه، ويتم التعامل معهم على أنهممواطنون من الدرجة الثالثة ليس لهم نفس حقوق اليهود السفاراديم أو الأشكنازيين". وذكّرت بـ"الخوفالذي تبديه الحكومة من أن هؤلاء الأثيوبيين المهجرين قد يكونون غير يهود، الأمر الذي يزيد من حدةالعنصرية اليهودية البيضاء تجاه يهود الفلاشا". وتطرقت هرتسوغ أيضاً إلى العوائق التي تضعها المؤسسة الدينية أمام أبناء الطائفة الأثيوبية إذ "يُفاجأون بأنهم ليسوا يهوداً، أو هكذا أخبرتهم المؤسسةالدينية في إسرائيل، وأن عليهم بالتالي الدخول في عملية تهويد جديدة قبل أن يتم قبولهم في المجتمعاليهودي. 
ومثلما قررت المؤسسة الدينية عدم الاعتراف بيهوديتهم، كذلك أيضاً قررت المؤسسة الطبية في إسرائيلعدم صلاحية دمائهم، وبناءً عليه جرى إتلاف كميات من الدم التي كان قد تبرعت بها مجموعة من يهودالفلاشا، بحجة الخوف من أن تكون تلك الدماء ملوثة بعدوى مرض الإيدز"!

ينوه تقرير "شومريم" إلى أنه "لا تتوفر في إسرائيل معطيات دقيقة وموثوقة عن ظاهرة الانتحار"، لكن تقارير المكتب المركزي الرسمي للإحصاء تفيد بوقوع نحو 400 حالة انتحار ونحو 7000 محاولة انتحار في إسرائيل سنوياً. غير أن التقديرات المختلفة تُجمع على أن هذه "معطيات جزئية فقط" وتعزو ذلك إلى "موقف الشريعة اليهودية التي تعتبر الانتحار إثماً كبيراً، إلى جانب النظرة النمطية الاجتماعية التي تتميز بالسلبية حيال الانتحار، إضافة إلى القصور في جمع المعطيات". وفي هذا السياق، يشير التقرير إلى دراسة حديثة نسبياً نشرها قبل نحو سنتين "المركز القومي لمراقبة الأمراض" في وزارة الصحة الإسرائيلية وتوصلت إلى أن 28 بالمائة فقط من حالات الوفاة التي تم فحصها وتبين أنها نتيجة الانتحار قد سُجّلت بوصفها كذلك في شهادة الوفاة. كما بينت الدراسة أيضاً أن نحو خُمس حالات الانتحار المؤكدة لم تُسجَّل بوصفها كذلك في تقارير المكتب المركزي للإحصاء. أما تقرير مراقب الدولة الذي نُشر حول هذا الموضوع قبل نحو سنتين فقد "قدّر" أن الحجم الحقيقي لظاهرة الانتحار في إسرائيل "أعلى بنحو الثُلث من الأرقام الرسمية".   

فوق هذا كله، ثمة صعوبة استثنائية، أكبر بكثير من تلك العادية، في تحديد حجم ظاهرة الانتحار بين الشبان من الطائفة الأثيوبية في إسرائيل. 

وقد وجد تقرير نشرته وزارة الصحة الإسرائيلية قبل ثلاث سنوات أن التبليغ عن محاولات/ حالات الانتحار بين الأثيوبيين هو أقل بنحو الثلث من المتوسط العام للتبليغ عن هذه الحالات. 

ويبين التقرير أيضاً أن عدداً كبيراً من حالات الانتحار/ محاولات الانتحار بين الأثيوبيين لا يُدرج ضمن المعطيات حول ظاهرة الانتحار بين أبناء هذه الطائفة، لأن المعطيات تشير إلى الدولة التي وُلد فيها المنتحر علماً بأن كثيرين من هؤلاء المنتحرين قد ولدوا في إسرائيل نفسها وليس في أثيوبيا.  

الانتحار في الجيش الإسرائيلي: 3 من كل 11 ـ أثيوبيون

تدل المعطيات الرسمية الحديثة والمحدثة حتى العام 2021 والمتوفرة لدى سلطات الجيش الإسرائيلي، كما يؤكد تقرير "شومريم"، على أن الشبان الأثيوبيين يحتلون مرتبة متقدمة جداً في ظاهرة الانتحار بين جنود الجيش، إذ تفيد هذه المعطيات التي جمعها قسم القوى البشرية في الجيش بأن ثلاثاً من بين كل 11 حالة انتحار وقعت في الجيش خلال العام الأخير كانت لجنود من أصل أثيوبي. ويكتسب هذا المعطى درجة استثنائية من الخطورة على ضوء حقيقة أن نسبة اليهود المهاجرين من أثيوبيا من مجموع السكان العام في إسرائيل لا تزيد عن 1.5 بالمائة (135 ألفاً، كما ذكرنا أعلاه). 

بالرغم من أن ضابطاً مسؤولاً في "سلاح الخدمات الطبية" في الجيش الإسرائيلي حاول التقليل من أهمية هذه المعطيات وخطورتها "نظراً لصِغر العيّنة"، كما نقل تقرير "شومريم"، إلا إنه لم يجد مهرباً من الاعتراف بأنه "في غضون العقد أو العقدين الأخيرين تحديداً، بقيت نسبة عمليات الانتحار بين الجنود المهاجرين من أثيوبيا ثابتة على حالها وتتراوح حول الـ 10 بالمائة من مجمل حالات الانتحار في الجيش، وحتى هذه النسبة هي أعلى بكثير من نسبتهم من مجموع السكان في الدولة وكذلك من نسبتهم من أبناء الطائفة الذين يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش". 

الدراسة التي أجريت في العام 2020 وخُصصت لتقصي المميزات المشتركة للجنود من أصل أثيوبي الذين انتحروا خلال تأديتهم الخدمة العسكرية توصلت إلى حقيقة أنهم كانوا يعانون من ضغط اجتماعي شديد، يعود جزء كبير منه إلى ضغوط ومصاعب اقتصادية ومشكلات عائلية. وفي هذا السياق، قال الضابط المسؤول في "سلاح الخدمات الطبية" إن "نسبة أبناء الطائفة الأثيوبية الذين يتجندون للوحدات القتالية هي أكبر بكثير من نسبتهم من مجموع السكان في البلاد وكثيراً ما يضعهم هذا أمام تحديات اقتصادية كبيرة في مقدمتها مسؤوليتهم عن إعالة عائلاتهم". كما يعترف الضابط أيضاً بما يصفه "صعوبة فهم المنظومة للمصاعب الخاصة التي يواجهها أبناء الطائفة الأثيوبية"، إذ أن "ضائقة هؤلاء لا تنعكس في الكلام الذي يقولونه ولا يتم تشخيصها من الناحية النفسية بصورة صحيحة". 

المصطلحات المستخدمة:

تهويد, مراقب الدولة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات