المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا يزال الانتداب البريطاني حاضرا داخل إسرائيل. إنه لا يزال موجودا في التراتبيات العرقية- الإثنية التي تقوم عليها دولة إسرائيل، وفي عدم القدرة على وضع حدود واضحة بين "الخطر الأمني" و"الخطر السياسي". الانتداب البريطاني لا يزال حاضرا أيضا في سياسات إسرائيل القائمة على الفصل بين السكان وممارسة سياسات مختلفة في التعامل مع كل مجموعة سكانية. وبالطبع، الاستعمار البريطاني لا زال حاضرا في قانون الطوارئ الذي لا تزال إسرائيل تستخدمه ويعتبر حجر الأساس الذي يجعل كل هذه الأمور ممكنة في دولة إسرائيل.

في إسرائيل ثمة اعتقاد سائد بأن الانتداب البريطاني هو جزء من التاريخ المنتهي. وأن حكم ملك إنكلترا بات حدثا عابرا حصل قبل قيام إسرائيل. اليهود الذين يتبنون آراء ليبرالية يمزحون أحياناً بأنهم يرغبون في "عودة الانتداب البريطاني"، لأنه في فترة الحكم البريطاني (1917-1948) تم إنشاء بنية تحتية فعالة، سكك حديدية، تم رسم الخرائط، وإجراء الإحصائيات، ومد الكهرباء، وحفر المناجم، وتم قمع الإضرابات العمالية (في إشارة الى تبلور النضالات الطبقية في تلك الفترة)، وتم إجراء التحقيقات القائمة على التعذيب... إلخ. ومنذ ذلك الحين تدهور كل شيء.

سواء اعتقدنا أن الأمر نكتة أم لا، فإن الاستعمار البريطاني ليس إرثاً أو شيئاً من الماضي في فضاء دولة إسرائيل وفلسطين. بل إن إسرائيل هي واحدة من آخر المساحات في العالم التي لا تزال فيها النظم البيروقراطية والقانونية والسياسية تستند، وبشكل مباشر، الى مبادئ المنظومة الاستعمارية البريطانية. تتمثل إحدى خصائص هذا الاستعمار في الجمع بين التراتبيات العرقية من جهة والعنف المفرط ضد "الرعايا" غير الأوروبيين، وكل ذلك وسط انشغال شبه مهووس بالشرعية السياسية والمعيارية القانونية؛ يمكنك تسميتها هاجس "سيادة القانون".

منذ أيام شركة الهند الشرقية- التي كانت أول من استخدم قانون الطوارئ لإقرار عقوبة الإعدام والإبعاد- كان معنى هذا الهوس أنه طالما كان هناك إجراء جديد، أو تطوير على إجراء قائم، مرفوض من قبل الشعب المستعمَر، فإن السلطات الاستعمارية كانت تبرر أي عنف ضد السكان بحجة "الخطر الأمني".التباين بين "الخطر الأمني" والمخاطر السياسية حدث في محاولات الحكومات الاستعمارية الفاشلة لتبرير القبضة الحديدية التي مارستها ضد السكان الأصليين "المعادين".

في السنوات الأخيرة، أدرك مؤرخو الإمبراطورية البريطانية، بغض النظر عن توجهاتهم، أنه لا يمكن الفصل بين الاستعمار والقيم الليبرالية للدولة الحديثة، بما في ذلك أهمية "سيادة القانون" كقيمة عليا. لكن بينما يحاول العالم التخلص من الإرث الاستعماري والتفكير في إنهاء استعمار الحقل السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي، فإنهم يتجاهلون حقيقة أن الاستعمار البريطاني ظل طريقة رئيسة في تفكير الدولة، التي تستمر في تشكيل حياة مواطنين ومقيمين ورعايا في فضاء إسرائيل- فلسطين.

داخل المستعمرات، أدرك البريطانيون بسرعة كبيرة أنهم لا يستطيعون الحفاظ على سيطرتهم على الدول الخاضعة من خلال قوة السلاح وحدها. وبالتالي تبنوا أساليب إدارة سكانية متقدمة (population management)، بما في ذلك تصنيف المجموعات السكانية المختلفة وتحديد السكان الذين يمثلون خطراً أمنياً. هذا هو أول مبدأ منظم للبيروقراطية الاستعمارية: الفصل المنهجي للسكان، ثم إنشاء ممارسات حكم منفصلة لكل مجموعة.

من الأدوات الرئيسة الأخرى التي استخدمها البريطانيون القيود المفروضة على الحركة. مثلا، إعلان منطقة عسكرية مغلقة، أو ممارسة الاعتقالات الإدارية، أو منع الخروج من "مستعمرة" أو منطقة معينة إلى أخرى، أو فرض أنظمة التصاريح التي تمنع حركة السكان وتقيدها وتبطؤها. لقد حولت أنظمة المراقبة الخاصة بهم ليس فقط رجال الشرطة والجنود إلى مصادر للرقابة والاستخبارات، ولكن أيضاً المعلمين وموظفي البريد والعاملين في المجال الطبي... إلخ، كلهم أصبحوا أدوات رقابة وضبط.

عندما تنظر إلى السلطة التنفيذية في إسرائيل اليوم، يمكن بكل سهولة رؤية بعض المبادئ التي كانت تنظم البيروقراطية البريطانية في المستعمرات. هذه المبادئ واضحة بشكل أكبر في الاستيطان. المبدأ الأول هو التسلسل الهرمي- العرقي: في البداية بين الأوروبيين (يهود أوروبا) والسكان الأصليين (الفلسطينيين)، وثم داخل المجموعات نفسها (مثلا بين اليهود أنفسهم) وفقاً لدرجة "ثقافتهم".

والمبدأ الثاني هو المرونة الإدارية؛ أي الإدارة من قبل القادة المسؤولين على الأرض وليس من خلال قوانين برلمانية. الثالث هو السرية. الرابع – الشخصنة (personality)؛ أي أن هوية الشخص هي التي تحدد نوع القانون أو الممارسة التي ستطبق عليه، وهذا بالطبع على العكس من مفهوم "المساواة أمام القانون". المبدأ الخامس هو إنشاء الاستثناءات: يعتمد شكل التحكم في الواقع على مجموعة من الاستثناءات، التي تتغير باستمرار بطريقة روتينية، وهذا يتضارب مع التخطيط طويل المدى.

من الانتداب وحتى قرار الجيش الأخير المتعلق بالمنظمات الفلسطينية الست

عندما يتذكر الإسرائيليون الانتداب البريطاني، فإنهم يفكرون بمسألتين اثنتين: الأولى، هم يتذكرون السنتين الأخيرتين من عمر الانتداب حيث أعلنت المنظمات اليهودية كفاحاً عسكرياً ضد الحكم البريطاني، وأطلق على هذا الكفاح اسم "الإرهاب". المسألة الثانية هي أن إحدى الأدوات الرئيسة للسلطة التنفيذية في إسرائيل مستمدة من الانتداب البريطاني، وهي "تشريعات الطوارئ". ويتناسى الإسرائيليون أن هناك قضايا أخرى ورثتها إسرائيل عن الانتداب البريطاني، ولا تزال حاضرة في ممارسة إسرائيل، وهي بناء العلاقات بين اليهود والفلسطينيين باعتبارها علاقات هرمية- عرقية، وكذلك خطة التقسيم. وُلد كلا الأمرين من رغبة إمبريالية في إدارة الصراع مع استمرار الحفاظ على السيطرة والنفوذ في المنطقة.

لا شك في أن "أنظمة الدفاع" (أو قانون الطوارئ) هي القلب النابض للنظام في إسرائيل. ولا شك في أن إلغاءها سيشكل خطوة أساسية على طريق إقامة نظام ديمقراطي. في الممارسة العملية، ساهم قانون الطوارئ في تشكيل الحكم العسكري الذي فرض على الفلسطينيين في الداخل ما بين 1949 و1966، وفي تشكيل "مواطنة" الفلسطينيين داخل إسرائيل.

كما أن البنية التحتية التنظيمية لمؤسسات الاحتلال في أراضي 1967 ترتكز، هي الأخرى، على الأنظمة الدفاعية أو قانون الطوارئ. ففي العام 1963، تم فتح سجلات أنظمة الدفاع البريطانية واستبدلت عبارة "صاحب الجلالة" بعبارة "القائد العسكري للمنطقة"، وذلك كي يمهد مئير شمغار، النائب العسكري الإسرائيلي في حينها، الطريق القانونية لاحتلال الضفة الغربية.

حتى "قانون مكافحة الإرهاب" المطبق في إسرائيل حوّل فعليا الأدوات القانونية الاستعمارية، التي ظلت مستخدمة مدة 80 عاماً، إلى تشريعات إسرائيلية أساسية. كان المنطق الاستعماري - الذي يحول الخطر السياسي إلى خطر أمني- الدافع وراء قرار وزير الدفاع، بيني غانتس، إعلان ست منظمات حقوقية ومجتمعية فلسطينية منظمات إرهابية.

لا تحضر ذكرى ملكة إنكلترا الراحلة فقط في تشريعات الطوارئ. يمكن رؤيتها أيضاً في نظام يكون معظم اهتمامه هو الفصل بين السكان، والقيام بممارسات مختلفة بحق السكان المختلفين، حتى لو عاشوا داخل مساحة واحدة تسيطر عليها حكومة واحدة في ظل انعدام حدود ثابتة للسيادة.

_____________________

هذه ترجمة لمقالة باللغة العبرية نُشرت في موقع "سيحا مكوميت" الإلكتروني يوم 20 أيلول 2022. أنجز الترجمة عن العبرية وليد حباس، باحث في مركز مدار. والكاتبة ياعيل بيردا هي عضو هيئة تدريس في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في الجامعة العبرية وباحثة زائرة في كلية كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد. مؤلفة كتاب "بيروقراطية الاحتلال وحالات الطوارئ المعيشية.. نظام التصاريح الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة".

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات