المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
تظاهرة للمعلمين خارج محكمة بات يام الإقليمية.  (عن "واي نت")
تظاهرة للمعلمين خارج محكمة بات يام الإقليمية. (عن "واي نت")

بدأت نقابة المعلمين في إسرائيل نضالاً جديداً ضدّ وزارة التربية والتعليم منذُ حزيران الماضي، وأعلنت إضرابات عدّة ومستمرّة إلى أن وصلت إلى مفاوضات جادّة، ولكن الأمر لم ينته نهائياً بعد. وأعلنت نقابة المعلمين عن تجميد الإجراءات، وفي نهاية اجتماع بين الطرفين قالت يافه بن دافيد الأمينة العامّة للنقابة إن "وزارة المالية طرحت أخيراً اقتراحاً ملموساً على الطاولة".

وانتهت صلاحيّة اتفاقية رواتب أعضاء هيئة التدريس الممثلة في نقابة المعلمين قبل نحو ثلاث سنوات، لكن المفاوضات بشأن بنود الاتفاقية الجديدة أرجئت مراراً بسبب الأزمة السياسية، ولم تبدأ إلا في كانون الثاني الماضي. وزاد الطرفان في الآونة الأخيرة من وتيرة الاجتماعات، لكن نشأت خلالها خلافات بين الطرفين أدّت إلى فرض عقوبات في الأسابيع الأخيرة ("هآرتس"، 27/6/2022).

نبذة تاريخيّة

"تلعب المدرسة دوراً مهماً في خلق وتجذير اللامساواة في المجتمع الإسرائيلي. اليوم، أصبحَ من الخاطئ اعتبار المدرسة - كما تعاملنا معها في النصف الأول من القرن- أنها مؤسسة تقف، إذا جاز التعبير، خارج صراعات المجتمع وتعمل على زيادة المساواة بين الطبقات، باعتبار أنّها تمنح كل طالب فرصة متساوية للنجاح في المدرسة وتسلق السلم الاجتماعي".

هكذا افتتح عالم الاجتماع الإسرائيليّ شلومو سفيرسكي كتابهُ "التعليم في إسرائيل: قسم المسارات المنفصلة" الذي نُشر في العام 1990، حيث كشف عن حجمِ التفرقة العرقيّة والعنصريّة داخل المؤسسات التربويّة، حيثُ أنّها تؤثر على الفصل العنصريّ وتتأثّر، وفي حال اعتقدنا في السابق أنّها انعكاس للتفرقة العنصريّة في المجتمع، أو تقف على الحياد من هذهِ التشكيلات الاجتماعيّة/ السياسيّة، يبيّن لنا سفيرسكي أنّ المؤسسات التربويّة عموماً وفي إسرائيل خاصّة لديها دور كبير في تشكيل هذا الواقع. ولعلّ منهجيّة النقد التي يستخدمها تساعدنا في فهم ما يجري مؤخراً في سياق البنية الاقتصاديّة النيوليبراليّة.

المهمّ فيما كتبهُ سفيرسكي أنّه يأتي ضمن سياق التغيّرات البنيويّة للبنيةِ الاقتصاديّة/ السياسيّة لإسرائيل، وانتقالها إلى نمط علاقات نيوليبراليّ في الاقتصاد، المجتمع، السياسة، التعليم، والصحة وما إلى ذلك. مما يمهّد لنا الطريق لفهمِ المُجريات وآثار وحدود الإصلاحات التي أجريت بهدف التعاطي مع المُشكلة البنيويّة التي طرحها سفيرسكي، إذ أن كتابهُ أصبحَ من أهمّ ما أنتجتهُ السوسيولوجيا الإسرائيليّة وتحوّل إلى مرجعٍ أكاديميّ. وهُنا في هذا التقرير نتساءل: ما هي هذهِ الإصلاحات؟ وهل فعلاً قدّمت حلولاً أمّ أنّها قامت بزيادةِ هذهِ الفروقات ضمن أشكالٍ وعلاقات جديدة، مرتبطة أكثر بالنمط النيوليبراليّ، الذي تهيمن فيهِ العوامل التالية؛ التكنولوجيا، رأس المال، الإدارة الميكانيّكيّة وغيرها والتي تقلّل دور المعلّم، وقامت بتحويلهِ إلى آلةٍ ميكانيكيّة؟

إن سياق الإضرابات هو طبعاً نتيجة أزمةً أكثر راهنيّة فجّرت جميع المُشكلات الأخرى التي سنطرحها كما جاءت على لسانِ المعلّمين، وهي أزمة وباء كورونا، وآثارها السلبيّة على جهاز التربية والتعليم عموماً، وعلى الطلبةِ والأهمّ المعلّمين؛ إذ أنّها كشفت بوضوحٍ ما هي المُشكلات والأزمات، التي يواجهها هذا الجهاز.

وفي تقرير لـ"مركز أدفا" بعنوان "جوانب الخصخصة في نظام التعليم" الصادر في العام 2010، عدّد أهم المُشكلات التي تعاني منها منظومة التربية والتعليم في ظلّ تجذّر السياسات النيوليبراليّة وهي مقدّمة المقالة لفهمِ الأزمة من كلّ جوانبها: 1) تخفيضات كثيرة في ميزانية التعليم مع زيادة مستمرة في التمويل الخاص المكمل في المدارس الحكومية. 2) اعتماد نموذج اقتصاد السوق بغرض إدارة النظام مع تأكيد تفرد المدارس وقدرتها التنافسية وتسويقها: كجزء من اعتبارات السوق 3) القياس والتقويم بوسائل مأخوذة من عالم الشركات؛ وإن نجاح الشركات التجارية يقاس بالأرباح التي تجنيها لمالكي الأسهم، حيث يتم قياس المدارس حالياً بقدرتها على إصدار الإنجازات. وتنعكس الإنجازات الأخرى في تبني سياسة التأكيد على معايير قياس المخرجات، وإلقاء المسؤولية عن المخرجات على المدارس بدلاً من تحميلها لوزارة التربية والتعليم، أي نقل مركز الثقل من التعليم كغاية في حد ذاته للتدريب في سوق العمل. 4) الاستعانة بمصادر خارجية وتسويق الوظائف التي كانت تؤديها وزارة التربية والتعليم في السابق مباشرة، ويشمل ذلك تخطيط وإدارة وتنفيذ ومراقبة البرامج والمشاريع من قبل المنظمات التعليمية غير الهادفة للربح والشركات التجارية. وقد انتشرت الاستعانة بمصادر خارجية التي بدأت بالأنشطة المساعدة إلى الأنشطة الأساسية للشركة.

الوباء والهبوط في مكانة المعلّم

في تقرير على موقعٍ "كلكاليست" نجد أن صورة المعلّمين منخفضة في ظلّ التغيّرات الاقتصاديّة الجارية، قبل أزمة كورونا، في إسرائيل بشكلٍ خاصّ وحادّ وفي العالم عموماً. وإحدى النتائج الملفتة لبحثٍ أجري مؤخراً، أن مراتب مهنة المعلّمين في المراحل الثلاث متدنيّة جداً مقارنةً مع باقي المهن، وما هو أكثر خطورة، الانخفاض الحادّ في نظرة الجمهور الكلية بالنسبة لوضع المعلمين على مقياس تكون فيه أعلى مهنة هي الطبيب الذي يحصل على الدرجة 13. وانخفضت درجة معلّمي المدرسة الثانوية. كما انخفضت درجة معلمي المدرسة الابتدائيّة بشكلٍ أكبر ويعود ذلك إلى الفوارق والفجوات بينَ الفئتين من ناحيتي القبول والرواتب المدفوعة.

وبرزَ في التقرير أن ما يفوق 80% من الجمهور يعتبرون أن مهنة التعليم غير مُحترمة، وأيضاً 77% يعتبرون أنهم في مكانة متدنية، ونسبة 57% تعتبر أنّ المهنة غير مُلهمة، بالإضافةِ إلى نسبة 50% يرون أن المعلّمين هم متوسّطو المستوى، وتوجد نسبة أقلّ من الغالبيّة، ولكنها أيضاً مقلقة ومؤشرة على حجم الأزمة، وهي أكثر من 35%، يرون أن المعلّمين غير أذكياء وغير جديرين بالثقة.

إحدى القضايا التي أكد عليها الباحثون هي أن مهنة التدريس تتمّيز بمفارقة تدني المكانة والهيبة، ولكن أيضاً بتقدير مهني عالٍ. يُنظر إلى المعلمين أيضاً على أنهم محترفون ومستعدون للمساهمة في المجتمع. وتتأثر المكانة المتدنية بالراتب المنخفض للمعلمين المبتدئين، وظروف العمل غير المواتية، وشروط القبول المنخفضة، والافتقار إلى مسارات ترقية كبيرة ونقص الاستقلالية المهنية.

ما يهمّنا أن وباء كورونا كشف لنا بوضوحٍ عن مكانةِ المعلّم السلبيّة، وانعكاسها عند الجمهور العامّ، وغالبيّة الأسباب تتعلّق بالأزمات الأخيرة والمتراكمة على منظومة التربية والتعليم، ولم تتحقّق أي إصلاحات حقيقيّة في وضع المعلّم كما يتبيّن في الأسباب التي عددها التقرير؛ من تدّني وضع المعلّم الاقتصاديّ إلى الاهتمام أكثر في المقاييس والمعايير العالميّة وخصوصاً مع دخول إسرائيل إلى منظمّة OECD مما جعل المعلّم أداةً فقط، ضمن المسار البيروقراطيّ وفقدانهِ أيّ استقلاليّة (كالكاليست، 29/11/2021).

ووصفت سمدار مورس، وهي مديرة مدرسة ابتدائيّة كانت تعمل في وزارة التربية والتعليم لأكثر من 20 عاماً، أنّ المعلمين يأتون إلى المدرسةِ بحماسٍ وشغف ومبادرة ورسالة، ثمّ يجدون أنفسهم يعملون أمام النماذج والجداول والبيانات والتعليمات والمبادئ التوجيهية، مشيرةً بشكل واضح إلى انعدام الاستقلاليّة عند المعلّم، وعدم الاكتراث العامّ في وظيفتهِ ودوره، ضمن المجتمع الإسرائيليّ. ويرتبط ذلك بالأزمة التي لاحظها سفيرسكي في كتابهِ ومنهجيّة نقدهِ لمنظومة التربية والتعليم على أنّها تتأثر من السياق الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، وتتأثر بالصراعات الاجتماعيّة للمهن.

وأضافت أن اهتمام المديرين ينصبّ بشكل أساس على المسائل البيروقراطية ويريدون نظاماً مشغولاً بالاختبارات والقياسات. ونتيجة لذلك، ليس لديهم الوقت والموارد للتفكير في علم أصول التدريس والطلاب والاحتياجات والتعليم. هذا النهج يُطفئ شعلة الإبداع والهروب. وأوضحت: "خلاصة القول إن المعلمين ينهارون، ويبدو أنهم يتجهون نحو أزمةً خطيرة للغاية. ليس هناك ضوء في النهاية. حتى حقيقة أنهم لم يبدأوا في مناقشة اتفاقيات الأجور لدينا [معلمو الابتدائيّة] مقارنة بالمعلمين في القسم الإعداديّ وبالطبع، هذا الأمر لا يساعد في تهدئة قلقنا" (موقع "ماكو"، 28/11/2021).

مُشكلات التربية والتعليم لا تنحصر في الأجور!

وفي مقالةٍ أخرى بعنوان "النضال ليس فقط حول الأجور" لمورس، حولَ الإضراب والنضال الأخير، فإنها تصفه بأنه مرتبط فيما هو أعمق من الأجور، إذ أنّ الأزمة تتعلّق في عدّة جوانب: أولاً ما تسمّيه "احتياجات النظام كأولويّة"، وتعتبر أن منظومة التربية والتعليم قامت بمحو وتجاهل منهجيّ لقدرة المديرين والمعلمين الفرديّة. فليس مهماً إذا كنت قادراً أو مهتماً، بل المهمّ هو ملء الفراغات وإعطاء حلول سطحيّة وسريعة لجميع المُشكلات، ويتمّ التعامل معك على هذا الأساس، وتحويلك إلى مسمارٍ صغير ضمن الآلة الضخمة.

ثانياً، إلغاء المهارات التربويّة عند المعلّم، إذ أنّه ليس مهماً إن كنت بارعاً في مجالك، أو تشعر بالثقة في التدريس ضمن مجال معرفتك، عليكَ فقط تمرير المضامين، ثمّ في الوقت الباقي "كن جليس أطفال"، إذ أنّك كشخص وما تملكهُ ليسَ معياراً بل المعيار قدرتك في الحفاظ على النظام والعلامات العالية. وأضافت أن "واجباتك اليوم كمعلّم هي أن تدخل إلى الفصل الدراسي وترتجل شيئاً ما، فلا يوجد وقت للتعليم طويل المدى وعمليات التطوير، ولا يوجد مكان للحديث والتفكير في مساعيك التربوية والتعليمية"، مشيرةً إلى أن منظومة التربية والتعليم فاقدة لأي برنامج وطني موجه للأهداف والقيم، "وهذا هو السبب في أن كل برنامج أو مشروع أو إصلاح لامع من الخارج وفارغ في المضمون تم قبوله من قبل وزارة التربية والتعليم، بتصفيق عاصف. الرؤية متقطعة وليست نظامية، يومية وليست دائمة، متفرقة وغير متسقة".

ثالثاً، التدريب المتقطّع والموسمي للمعلّمين، قائلةً إنهُ "لا يوجد أي مبرر أو تفكير حول بناء المعرفة المهنية للمعلمين". وتوضّح أن جميع المسارات التدريبيّة هي ليست موحّدة ولا تخدم هدفاً واضحاً، إنّما مزاجيّة، وبمعزل عن بعضها البعض، وسبب ذلك "لأن وزارة التربية والتعليم لا تعمل وفق مبادئ وليس لديها خطّة عمل مهنية طويلة الأمد. وبالتالي، الحالة التي يجد فيها الموظّفون أنفسهم داخل النظام كأنهم يتحركون مثل البندول من تدريبٍ إلى آخر، دونَ أيّ علاقة أو اتصال أو مبدأ ينظّم التدريبات".

وفي الختام تبيّن أنّ المعلّمين لا يجدون وقتاً للحديث والحوار، حولَ أساليبهم وتجاربهم، وتطويرها، وبالتالي تمّ إقصاء التواصل البشري، "كل يوم عبارة عن حركةٍ مستمرّة من مكان إلى آخر، كما لو كنا فئراناً مسمومة في متاهةٍ لا نهاية لها، من دخول غرفة المعلمين، والانتقال السريع بين الردهات من الفصلِ إلى الفصل، والمناوبات في الفناء الخارجيّ، ومحادثةٍ سريعة مع طالب، أو لقاء سريع مع أحد الوالدين، إلى كلمتين في ردهةٍ مع معلّم، ودقيقتي محادثة في غرفة المدير". وأضافت أن "أجندة أسبوع العمل ليست مبنية على آليات وانتظامات تتيح للموظفين التربويين عقد اجتماعات فيما بينهم تتناول التفكير في عملهم التربوي والتعليمي. إنها نتيجة آلية بقاء لا تنوي الحفاظ على عمليات طويلة الأجل عميقة وهامّة".

ولا شك في أن هذهِ المُشكلات المطروحة راهناً عند المعلّمين تجسّد ما هو أعمق من مجرّد اتفاقيّات على رواتب وساعات العمل وحقوقهم المترتّبة على ذلك، بل تصل في نقدها إلى العلاقات داخل التربية والتعليم، إلى المضامين، إلى الآليات المعتبرة، إذ أنّه في ظلّ تحوّل التربية والتعليم إلى سلعةٍ إضافيّة داخل مجموع السلع التي نستهلكها، لم تعد تملك المنظومة أيّ قيمة إضافيّة تعطيها للطلبة، بل فقط العمل الدؤوب لربطهم بسوق العمل.

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, دورا, مركز

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات