المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
ميري ريغف.. رأس جسر لتبني نهج الاستيطان في الثقافة الإسرائيلية "الشرعية".
ميري ريغف.. رأس جسر لتبني نهج الاستيطان في الثقافة الإسرائيلية "الشرعية".

استخدم روّاد السينما الأوائل في الحركة الصهيونية الأفلام الوثائقية والإخبارية بدءاً من عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، بغرض إثارة يهود الشتات للانضمام إلى جهود "البناء والإحياء" والهجرة إلى فلسطين. وشكّلت هذه الأفلام وسيلة لبناء الهوية الجديدة ونشرها، وعرض أشكال الحياة في الييشوف الزراعي. وكان ذلك قبل ظهور سينما "وطنية" حقيقية وممأسسة، وقبل أن تصبح الدولة الإسرائيلية المرجع الأول لإدارة البروباغندا السياسية والوطنية. لم يكن الفيلم وسيلة تقديم السرد التاريخي وتوثيقه فحسب وإنما أيضاً لبنائه، ولا يزال موضوع الإنتاج الفني الإسرائيلي يشغل صناّع القرار في إسرائيل، وتتخذ النقاشات المتعلقة بموضوعاته ومصادر تمويله وأهدافه حيّزاً كبيراً من النقاشات والقرارات الحكومية.

ولقد تناولنا في تقرير سابق بعنوان "خطة حكومية إسرائيلية لإنشاء صندوق بقيمة 45 مليون شيكل لجذب إنتاجات الأفلام الأجنبية!"، قرار الحكومة الإسرائيلية إنشاء صندوق داعم للإنتاج الأجنبي في إسرائيل وبعض المحاولات لصياغة قرارات مشابهة. سنحاول في هذا التقرير تناول بعض القرارات والنماذج الحكومية التي تتعلق بدعم الإنتاج الفني والإعلامي المحلي الإسرائيلي، وتحديداً إنتاج الأفلام في المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية المحتلة، كما يستعرض التقرير بعض النقاشات المتعلقة بدعم الإنتاج حول موضوع المستوطنين والاستيطان. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الأفكار التي ترد في التقرير مستمدة بشكل مباشر من البيانات والقرارات الحكومية وبعض المواد المتاحة عن صناديق دعم الأفلام على الإنترنت.

في 13 آذار من العام الحالي قررت وزارة الاتصال الإسرائيلية إطلاق "نموذج دعم جديد للاستثمارات في الفن الإسرائيلي وفي المناطق البعيدة"،وزارة الاتصالات تطلق نموذج دعم جديد، https://www.gov.il/he/Departments/news/13032022_2.

وبحسب البيان الصادر عن المتحدث باسم الوزارة، يخصص نموذج الدعم الجديد هذا ميزانية تبلغ 1.5 مليون شيكل سنوياً لبرامج إثراء الشباب في المناطق البعيدة جغرافياً واجتماعياً في إسرائيل، وسيشجع الاندماج في مجال الإعلام والبث الإذاعي، بهدف تقليص الفجوات بين التجمعات الاجتماعية والجغرافية المختلفة بطريقة يتم فيها الكشف عن الشباب في الأطراف وتدريبهم وتطوير مهاراتهم في هذه المناطق، وتعريف الشباب على عوالم جديدة من المحتوى، بحيث يكون عالم الإعلام والإبداع الإسرائيليين بجودة أفضل وأكثر ثراءً وتنوعاً تمكنه من إخبار "القصة الإسرائيلية المعقدة".

يعيد هذا النموذج تنظيم توزيع أموال الدعم من وزارة الاتصال على المؤسسات العامة التي تساهم في "البث المجتمعي" على القنوات التلفزيونية المحلية والفضائيات، أي إنتاج الأفلام وبثها على المستوى المحلي، كما يلغي بعض الشروط السابقة المفروضة على الدعم والمتعلقة بكيفية توزيع الأموال مع بعض التحديدات المتعلقة بالمحتوى. بحسب البيان فإن الشروط المعدلة تهدف لضم جهات وسلطات محلية جديدة، يصفها البيان بـ "السلطات المحلية البعيدة"، لمجال الدعم الذي توفره وزارة الاتصال. سيوفر النموذج الجديد ميزانية تصل إلى 150 ألف شيكل لصالح أي برنامج إثرائي للشباب في مجالات الإعلام والبث بشكل عام، والإنتاج المحلي الإسرائيلي بشكل خاص، والذي ستديره وتنفذه سلطة محلية وفقاً للشروط الجديدة.

يشير تصريح وزير الاتصال الإسرائيلي، يوعاز هندل، المرفق بالبيان الحكومي لنموذج الدعم الجديد، إلى التوجه الحكومي الواضح لدعم الإنتاج الفني الإسرائيلي الذي يتناول موضوع الاستيطان والمستوطنات، والذي يشجع التوجه إليها كموقع للتصوير وكمركز للإنتاج. ويقول هندل في تصريحه: "تتمثل إحدى وظائف الإعلام في عكس وتمثيل القصة الإسرائيلية بأكملها، والتي تشمل الاستيطان والصهيونية والتنوع الثقافي الغني. سيشجع نموذج الدعم الجديد الشباب في المناطق البعيدة على الاندماج في صناعة البث والصحافة، وسيعبّر عن فئات سكانية أخرى عانت من نقص التمثيل في وسائل الإعلام حتى الآن".

تكشف هذه الدعوة الصريحة للإنتاج في مواضيع الاستيطان والصهيونية، ودمج مستوطني الضفة الغربية "كفئات مهمشة" في عناصر "القصة الإسرائيلية الكاملة"، إلى التوجه الحكومي نحو استدخال الاستيطان كموضوع طبيعي في الفن والإنتاج الإسرائيلي. ليس هذا فحسب، بل إنها أيضاً محاولة لشرعنة الأشكال المختلفة من الاستيطان ومصادرة وضم الأراضي الفلسطينية وتهويدها، والتي تصبح مواضيع تتناولها وتعرضها الأفلام وتسوق لها باستخدام حبكة الإنتاج الفني وما تضفيه من سياق درامي ينزع الأحداث الحقيقية من سياقها السياسي، الاستعماري بشكل أساس، ويخلق لها واقعاً جديداً يتماهى مع الرواية التوراتية عن أراضي الضفة الغربية والاستيطان فيها.

هذا التوجه الحكومي في دعم الإنتاج الفني للمستوطنات لم يبدأ اليوم، ففي 3 تشرين الأول 2019 وافق مجلس الفيلم الإسرائيلي، وهو جسم حكومي تابع لوزارة الثقافة والرياضة تأسس في العام 2000 بموجب قانون السينما للعام 1999، على تمويل ثلاثة صناديق أفلام مناطقية، كجزء من الإصلاحات التي قادتها وزيرة الثقافة والرياضة آنذاك ميري ريغف، بحيث يقع اثنان من الصناديق الجديدة في شمال إسرائيل أحدهما يديره مركز "نوف هجليل" الثقافي من خلال مؤسسة "رابينوفيتش" للفنون، والآخر يديره صندوق أفلام الجليل، ويعمل الثالث في الضفة الغربية ويديره "المجلس الإقليمي السامرة". وقد تم تخصيص مبلغ 8 ملايين شيكل للميزانية السنوية للصناديق، وخُصصت نصف الميزانية الإجمالية، أي حوالي 4 ملايين شيكل، لصندوق أفلام السامرة وتم تقسيم باقي الميزانية بين الصندوقين في الجليل. مجدداً، تم التعبير عن هذه الإصلاحات كجزء من مسعى الدولة الاسرائيلية لزيادة تمويل المؤسسات الثقافية في المناطق "البعيدة" و"الفئات المهمشة".

عن "صندوق أفلام السامرة"!

تحت شعار سينما لنهج جديد، تم تأسيس "صندوق أفلام السامرة لترويج العمل السينمائي في يهودا والسامرة ووادي الأردن"أنظر/ي موقع الصندوق على الانترنت: https://shomron-cinema.org.il/ على أراضي مستوطنة بركان، شمالي الضفة الغربية، من خلال مبادرة حكومية جاءت كجزء من "تحديث وزارة الثقافة لاختبارات الدعم" في العام 2019، والتي أقرت مجالاً جديداً لدعم المؤسسات التي تساعد في إنتاج الأفلام التي تتم بشكل أساس في المحيط الجغرافي لصانعيها أو من خلال المبدعين المقيمين في مناطقهم.

الغرض الأساس من الصندوق هو تطوير الصناعة المحلية في مجالات السينما والتلفزيون ووسائل الإعلام الجديدة في منطقة "يهودا والسامرة". تستند المبادرة إلى منطق أهمية تعزيز رؤية المحيط الاجتماعي والثقافي لمجتمع المستوطنات، وتمثيله على الشاشة، وتطوير حوار ثقافي ومهني بين صانعي الأفلام الإسرائيليين الذين يعيشون في المستوطنات وصناعة السينما الإسرائيلية الواسعة العاملة في المركز.

يرى القائمون على الصندوق أن تأسيسه كان خطوة تاريخية وسابقة، قادتها وزيرة الثقافة والرياضة السابقة ميري ريغف، وأن "يهودا والسامرة" ستكون الآن جزءاً من الخريطة الثقافية والسينمائية في إسرائيل، وسيعكس الصندوق الأصوات التي يرغب الكثير من الجمهور الإسرائيلي في سماعها، وسيحكي قصة إسرائيل والصهيونية والاستيطان، وهي، على حد تعبيرهم، قصة مثيرة ومؤثرة، تعكس الصورة الحقيقية للمجتمع الإسرائيلي. ويعتقد القائمون على الصندوق أن أكبر عدو للمجتمع الإسرائيلي بشكل عام والاستيطان بشكل خاص هو الجهل، معتبرين أن أهمية النشاط الثقافي للاستيطان توازي أهمية البناء والتوسع الاستيطاني، وهي طريق نحو تصحيح الخارطة الثقافية لإسرائيل إلى جانب الاستيطان الذي يتمم الخارطة الجغرافية للدولة اليهودية.للمزيد حول النقاشات المتعلقة بتأسيس "صندوق أفلام السامرة": https://www.mazav.co.il/28471 إذاً فالإنتاج السينمائي هو عملية استيطان ثقافي، يصفها يعقوب نتنائيل، حاخام مدرسة السينما اليهودية "تورات هحاييم"، بأنها مثل الدخول في الحرب مسلحين بالكاميرات ومعدات الإنتاج.

ينتج الصندوق ما يزيد عن عشرات الأفلام سنوياً، بين أفلام وثائقية وسينمائية طويلة وقصيرة، تتناول موضوعات مختلفة تتعلق بحياة المستوطنين في مستوطنات الضفة الغربية، وعلاقتهم المركبة بباقي المدن الإسرائيلية، ومواضيع توراتية تناقش علاقة اليهودي بالأرض وعلاقته بالفلسطينيين من وجه نظر المستوطنين أنفسهم. وتأتي هذه الأفلام بديلاً عن تلك التي تتناول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والاحتلال من وجهة نظر "نقدية"، والتي وصفتها ريغف بالأفلام التي تسعى لتشويه صورة إسرائيل، بعد تصريحها على صفحتها على فيسبوك عقب فوز مخرج فيلم Foxtrot صموئيل معوز بجائزة التحكيم الكبرى لأفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل وأفضل ممثلة مساعدة في مهرجان البندقية في شهر أيلول من العام 2017، بأن الدولة الإسرائيلية "لن تمول الأفلام التي تشوه بلدنا".وزيرة الثقافة الإسرائيلية تعرض على المستوطنين صندوق أفلام دعائية خاصاً بهم، المونيتور، 6 تشرين الثاني 2019
https://www.jpost.com/Israel-News/Culture/Israeli-film-Foxtrot-wins-silver-lion-award-at-the-Venice-film-festival-504628

إن منح الدعم الحكومي لمجالس إقليمية بدلاً من مدارس أفلام، لتصوير أفلام محلية في محيطها، لغاية إنتاج أفلام عن الاستيطان والمستوطنات وطبيعة الحياة فيها، لا يهدف فقط للترويج للاستيطان والمستوطنات، بل أيضا لمحاولة إعادة إنتاج صورتهما خارج القيود والحساسيات التي يفرضها القانون الدولي، وإلى إظهار الحياة فيها بشكل إيجابي، مع إضفاء سحر "قصة يهودا والسامرة" وإعادة تعريفها ضمن المشروع الصهيوني، وضمها للمركبات "الطبيعية" للدولة الإسرائيلية. وكمثال على التوجه العام "لمشروع أفلام السامرة"، فتح الصندوق الباب لتقديم المقترحات لتوفير التمويل في مسارات جديدة في شهر آذار من العام الجاري، يتمحور اثنان منها حول "قصص وراء البوابة الصفراء" وهي البوابات التي تفصل المستوطنات عن "العالم الخارجي"، وفيلم يناقش "غوش قطيف" و"التهجير القسري" لسكانها، على حد تعبير الإعلان.

في النهاية، لا يمكن فصل الإنتاج الفني والثقافي الإسرائيلي خارج حدود المستوطنات في الضفة الغربية، عن باقي الإنتاج الإسرائيلي المرتبط بالبنية الاستعمارية للدولة، والتي تعمل على إعادة انتاج علاقات الهيمنة والسيطرة، حتى وإن كان ذلك من خلال نقدها. إلا أن توجه الحكومة الإسرائيلية مؤخراً لتوجيه دعم خاص للإنتاج الفني الذي يدعو للاستيطان ويروج له، على اعتبار أن مجتمع الاستيطان هو جزء أصيل من المجتمع الإسرائيلي، لا يجب أن يظل مهمشاً محارباً، هو تعبير عن وضوح السياسات الرسمية في تبني نهج الاستيطان والتهويد وتعميمه من خلال الوسائل الفنية والثقافية.

 

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات