المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما هو احتمال الغرق في بركة عمقها 30 سنتيمترا؟ من المتبع، من خلال سؤال كهذا، تفسير مواطن الفشل القائم في مصطلح "معدل"، وهذا يسري على كم كبير جدا من المجالات. خذوا مثلا مقياس التنافسية العالمية، الذي نشر قبل أيام، فهو يدل على أن إسرائيل ارتفعت بدرجة واحدة، وتحل في المرتبة 21 عالميا. لكن نحن منذ عدة سنوات نحوم حول هذه

الدرجة، وقبل أربع سنوات كنا في المرتبة 24، بمعنى أن الحديث يجري عن تحسن طفيف. ومن اللطيف دائما أن نرتقي بالدرجات ونتحسن في هذا التدريج، الذي ينشره معهد الأبحاث السويسري IMD، والذي يمثله في إسرائيل اتحاد الغرف التجارية.

ويتضمن المقياس عشرات المعايير، وبضمنها الصادرات، والبحث العلمي، وغلاء المعيشة، واستخدام الطاقة العصرية، وعصرنة الاقتصاد، ونسبة السكان التي تتلقى الدعم الاجتماعي، ومدى الصمود في وجه الأزمات العالمية.

وحينما نفحص مكانة إسرائيل في كل واحدة من هذه المعايير، نكتشف الفشل بالمعدل. ففي مجالات معينة، مثل عصرنة الاقتصاد، وتصدير خدمات من قطاع الهايتك، فإننا في الأماكن الأولى في العالم، بينما الدول المتطورة من خلفنا. ولكن في مجالات أخرى، ومن بينها غلاء المعيشة، ونسبة الجمهور المعتمد على الدعم الاجتماعي، واستخدام الطاقة العصرية، فإننا حتى ليس بين الدول الـ 50 الأوائل في التدريج.

وهذه الفجوات ليست مفاجئة، فهي تعكس جيدا التناقضات القائمة في الاقتصاد الإسرائيلي. فإلى جانب صناعات الهايتك المتطورة، والنسبة العالية للعاملين في هذا القطاع من اجمالي المنخرطين في سوق العمل، فإننا دولة فقر عظمى، مع نسبة الفقر الأعلى بين دول OECD. وحقيقة أننا أوائل في مجالات معينة، ومتخلفون في مجالات أخرى، نابعة من أن الاقتصاد الإسرائيلي متشعب وليس مترابطا؛ إذ يوجد هنا اقتصادان مختلفان من حيث الجوهر، وحتى ثلاثة اقتصادات: اقتصاد الهايتك والتصدير؛ اقتصاد الاحتكارات المحلية والقطاع العام؛ اقتصاد الخدمات وورشات العمل الصغيرة والتجارة والخدمات الأساسية للسوق المحلية.

وهذه الاقتصادات تختلف في ما بينها، في كل واحد من المعايير، تقريبا: في مجال معدل رواتب العاملين، المؤهلات المطلوبة، الضمان التشغيلي (ثبات أماكن العمل)، نسب النمو، ومدى التنظيم وحجم الإنتاجية. والأمر الوحيد المشترك بين الهايتك والاقتصاد المحلي الأساس، هو فقدان الضمان التشغيلي، القائم فقط في القطاع العام والشركات الحكومية السابقة، مثل البنوك، وشركتي "كيل" و"إل عال". إلا أن الهايتك ينمو، ومنه تصدر أخبار سارة وحماسية.

علينا بطبيعة الحال الحفاظ على التفوق الإسرائيلي في سوق الهايتك. فهذا هو القطاع الذي يرتكز بقسمه الأكبر على المعرفة في المجال الأمني، التي يتم اكتسابها من الوحدات التكنولوجية في الجيش الإسرائيلي، وتم تطويرها في الجامعات ومعاهد الأبحاث.

إن 9 بالمئة من العاملين في إسرائيل يعملون في قطاع الهايتك، وحتى إذا ما ارتفعت هذه النسبة ستبقى غالبية العاملين تعمل في باقي القطاعات، التي تحتاج إلى تحسين كبير، من حيث حجم الإنتاجية والنمو والعصرنة. وإذا ما أخذتم من إسرائيل قطاع الهايتك، فإنها ستتحول إلى دولة متخلفة جدا، وتفوقها الكبير سيختفي، وستنهار أكثر في باقي المقاييس: مستوى المعيشة، الصادرات، التنافسية، النمو، وجودة القوى العاملة وغيرها.

مرحليا لا أحد يأخذ منا الهايتك، فهو قطاع متعلق في صلبه بالجيش والجامعات الإسرائيلية، ولكن تعلق الاقتصاد به يثير عدم ارتياح. فهذا القطاع تجذّر في الاقتصاد، وكان قادرا على أن يتغلب على الأزمة العالمية الضخمة التي ضربت العالم قبل سنوات، ورغم ذلك فإنه يبقى قطاعا متعلقا بالأسواق العالمية، ولهذا فهو معرّض دائما للاهتزازات.

لدى المستثمرين والعاملين في مجال الهايتك ليونة في القدرة على نقل نشاطهم إلى أماكن أخرى (في العالم). وتفوق إسرائيل نابع من أن فيها آلاف الشركات بأحجام صغيرة ومتوسطة، وهذا ما يقلص مخاطر هجرة الاستثمارات. على أي حال يجري الحديث عن قطاع يعرف كيفية الرد على التغيرات، ومواجهة الأسواق العالمية، وهذا الحال مختلف جوهريا عما هو قائم في الاقتصاد المحلي.

إن تدريج إسرائيل في المرتبة 52 في مقياس غلاء المعيشة ليس صدفة. فغلاء المعيشة نابع من أسباب كثيرة، من بينها كثرة الاحتكارات؛ تمركز بمستويات عالية في عدة مجالات في الاقتصاد، مثل البنوك والخدمات الحكومية، كالكهرباء والموانئ البحرية والمطارات؛ الحواجز أمام التجارة، مثل الحصص والجمارك، وكلفة النقل، وفي قطاع المواد الغذائية يوجد جانب شروط الحلال العبري، الذي يرفع أسعار المواد الغذائية عندنا.

إذا ما قررت حكومة إسرائيل معالجة التدريج المنخفض لدينا في مجال التنافسية، فمن الأفضل أن تتركز في مجالين: رفع مستوى الإنتاجية، وتخفيض كلفة المعيشة. فالنجاح في هذين المعيارين سينعكس على سلسلة مقاييس أخرى. فتحسين مستوى الإنتاجية من شأنه أن يرفع معدلات النمو ومستويات العصرنة. وتخفيض كلفة المعيشة يلزم بدفع إصلاحات في مجالات الخدمات، وفتح الأسواق أمام المنافسة، وتخصيص موارد ومصادر أفضل بكثير، وبطبيعة الحال تقليص حاد في البيروقراطية التي تصعّب كثيرا على المصالح الاقتصادية في إسرائيل.

لا يجري الحديث عن مشاكل جديدة، أو أنها لم تكن معروفة من قبل. فلدينا ما يكفي من عناصر في الحكومة، وفي القطاع الاقتصادي، وحتى بين ممثلي العاملين، الذين يعرفون هذه المشاكل، وضرورة حلها. إلا أنه هنا تأتي الصراعات التي تصد حل هذه المشاكل. فكل قطاع اعتاد على التذمر من هيكلية كلفة انتاجه وعمله، مثل كلفة ايجارات المباني، أسعار المياه، أسعار الطاقة، كلفة ضريبة المسقفات، وكلفة الحلال العبري، ويتوقعون من الدولة أن تخفض هذه الكلفة. إلا أنه حينما تحاول الدولة فتح الأسواق أمام المنافسات، فإنها تصطدم دائما بالاعتراضات والتهديدات.

من الصعب جدا التغلب على هذه الاعتراضات في عهد السياسة الشعبوية، وهذا يسري أيضا في حالة معالجة مسألة حجم الإنتاجية. فلجنة برئاسة مدير عام وزارة المالية، شاي باباد، كان من المفترض ان تقدم قبل نصف عام توصياتها لمعالجة مسألة الإنتاجية، إلا أن اللجنة لم تكن مثمرة إلى هذا الحد. فمواضيع ملحة سيطرت على جدول أعمال باباد، وعرقلت انشغاله في هذا الموضوع. وظاهريا لم يكن سبب للضغط، لأن البطالة المتدنية جدا، والنمو العالمي، والموازنة العامة تحت السيطرة، والتضخم المالي أقرب للصفر.

إلا أن هذه الظروف ليست مثالية كي تحل مشاكل طويلة الأمد، وقد تحتد في السنوات المقبلة. فتشعب الاقتصاد لاثنين وحتى لثلاثة اقتصادات مختلفة، يبدو كتهديد مركزي مستقبلي في نظر خبراء الاقتصاد. ومن الصعب معايشة اقتصادات مختلفة إلى هذا الحد لسنوات طويلة، حينما يكون هناك اقتصاد يتقدم بسرعة 130 كيلومترا بالساعة، واقتصاد آخر يتحرك ببطء 70 كيلومترا بالساعة، وهذا الاقتصاد الأخير، إما انه يراوح مكانه أو يتراجع.

قال رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، قبل عدة سنوات، في مقابلة لصحيفة "ذي ماركر"، "إنه بإزالة العرب والحريديم، فإن وضعنا ممتاز" (يقصد إزالة أوضاع العرب والحريديم من مختلف المقاييس الاقتصادية والاجتماعية- الترجمة). وكان هذا ردا على سؤالي له عن الفجوات الضخمة في المداخيل في إسرائيل. فما الذي فعله نتنياهو؟ حيّد من الاحتساب الجمهورين الأكثر فقرا، وبذا تقلصت الفجوات في إسرائيل خلال ثانية واحدة.

وهذه المناورة مُغرية. ومن الممكن أن نجريها في مجالات كثيرة، والقول إنه بإزالة المصاريف، لدينا مداخيل فقط، وبإزالة الخيبات، لدينا نجاحات فقط، وبإزالة أيام الحر الخماسينية، فإن الصيف لدينا لطيف. ولكن ذات المناورة بالإمكان أن نجريها في الجانب الآخر، والادعاء أنه بإزالة الهايتك، وكل ما هو متعلق به، لدينا اقتصاد ضعيف جدا، ولا يتقدم. والسؤال المطروح هو ما إذا كنا نريد أن نتعطّر بالإنجازات، ونتجاهل الفشل، أو أن نتركز بما لا يتحرك، من أجل أن نحقق إنجازات أخرى.

على فكرة، نتنياهو رد على هذه الفرضية قائلا: "إنهم يرون اختناقات مرورية، وأنا أرى جسورا".

_________________

(*) محلل اقتصادي. عن صحيفة "ذي ماركر"

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات