المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.


إسرائيل والمحكمة الجنائية الدولية

بقلم: دوري غولد (*)

في الخامس من شهر آب الماضي قام وزير الخارجية الفلسطينية رياض المالكي بزيارة علنية للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، بهدف

ويتيح الانضمام للمعاهدة للفلسطينيين من ناحية نظرية التوجه لمدعي عام المحكمة الجنائية الدولية بطلب تفحص اتهامات بشأن مسؤولية قادة إسرائيليين عن ارتكاب جرائم حرب أثناء الحرب الأخيرة في غزة.

وهناك مؤشرات عديدة تدل على أن الفلسطينيين ماضون قدما نحو التوقيع على "معاهدة روما"، فقد صرح نبيل شعث، مستشار الرئيس محمود عباس، أن قرار الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية قد اتخذ، لكنه لم ينفذ بعد. كذلك أكد رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله في مقابلة مع صحيفة "الشرق الأوسط" منتصف الشهر الماضي، أن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية عازمة على التوقيع على معاهدة روما، مشيرا إلى أن السلطة الفلسطينية شكلت طاقما من رجال القانون الذين سيتولون عرض الأدلة والبيانات التي جمعت (ضد إسرائيل) أمام المحكمة الجنائية الدولية.


عموما فإن هذه ليست المرة الأولى التي تتوجه فيها القيادة الفلسطينية إلى هذه المحكمة. ففي أعقاب عملية "الرصاص المصبوب" (2008 – 2009) سلم وزير العدل الفلسطيني مكتب المدعي العام في المحكمة، رسالة تعبر عن استعداد السلطة الفلسطينية للاعتراف بالصلاحية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية في "أراضي فلسطين"، وعلى الرغم من أن المكان الدقيق لهذه "الأراضي" يكتنفه الغموض، إلا أن السلطة الفلسطينية اختارت استخدام هذا المصطلح.


بصورة عامة فإن أي كيان يطالب بتطبيق الصلاحية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية على منطقة معينة، يجب أن يكون دولة، وأسهل طريق إلى ذلك هي التوقيع على "معاهدة روما". أما الدولة غير الموقعة على المعاهدة فيمكن لها قبول الصلاحية القضائية للمحكمة لـ "غرض معين"، أو لمرة واحدة، عن طريق تسليم مدعي المحكمة "إعلان نوايا" في هذا الشأن، وهذا ما فعلته السلطة الفلسطينية في العام 2009. غير أن العائق الرئيس الذي وقف حائلا دون السلطة الفلسطينية في هذا الصدد، تمثل في حقيقة أنها ليست دولة من ناحية قانونية.


وفي شهر نيسان من العام 2012، صرح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لويس مورينو أوكامبو بأنه ليس من صلاحيته على الإطلاق البت في مسألة متى ستصبح السلطة الفلسطينية دولة، وأن هذه الصلاحية تخص السكرتير العام للأمم المتحدة بالتشاور وبتوجيه من الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، على الرغم من أن الجمعية العامة صوتت في تشرين الثاني 2012 على منح السلطة الفلسطينية مكانة "دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة".


في مطلع شهر آب الماضي طرحت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، عدة أسباب لعدم اعتزامها فتح تحقيق في جرائم حرب ربما تكون قد وقعت في العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة (عملية "الجرف الصامد") في قطاع غزة. أولا- فلسطين لم توقع على "معاهدة روما"، ثانيا- لم تعلن (دولة) فلسطين في وثيقة جديدة (أو طلب جديد) قبولها سريان الصلاحية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية في أراضيها.


من الواضح إذن، أنه لو كانت السلطة الفلسطينية قد وقعت على "معاهدة روما"، لكانت تمكنت من تحريك إجراءات قانونية ضد إسرائيل (في المحكمة الجنائية الدولية). وقد ولّد سقوط ضحايا مدنيين فلسطينيين في المواجهة العسكرية الأخيرة في قطاع غزة، انطباعا لدى بعض المحللين والمراقبين بأن الفلسطينيين ربما يجدون في ذلك سببا لتقديم دعوى ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية. غير أن مثل هذه الاقتراحات تتجاهل في الغالب مسؤولية حركة "حماس" في سقوط الضحايا المدنيين، من خلال نصب منصات إطلاق الصواريخ وسط تجمعات سكانية مدنية. وتجدر الاشارة في هذا السياق إلى التصريحات التي أدلى بها السكرتير العام للأمم المتحدة بان كي مون في 23 تموز الماضي، والتي قال فيها، دون أن يذكر "حماس" بالاسم: عندما ينصبون منصات الصواريخ في مدارس وكالة الغوث (الأونروا) في قطاع غزة، فإنهم "يحولون المدارس إلى هدف لهجوم عسكري محتمل، ويعرضون للخطر حياة أطفال أبرياء والموظفين التابعين للأمم المتحدة وكل من يحتمي داخل مثل هذه المباني والمنشآت". وباختصار فإن المسؤولية عن تهديد حياة المدنيين في هذا النوع من النزاع تقع على عاتق حركة "حماس".


وتحدد "معاهدة روما" تدخل المحكمة الجنائية الدولية في "جرائم بشعة تهدد الأسرة الدولية برمتها".


وخلافا لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، المخولة بتقديم دعاوى ضد دول، فقد أقيمت المحكمة الجنائية الدولية من أجل محاكمة أشخاص على جرائم دولية. أما الضرر المرافق أو العرضي الذي يتضمن فقدان حياة مدنيين، فيعتبر حاليا نتاجا مأساويا لمعظم النزاعات المسلحة في العالم، لكنه لا يعتبر أوتوماتيكيا موضوعا لمحاكمات جرائم حرب أو من مواضيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وكما أشار مدعي المحكمة السابق أوكامبو في 9 شباط 2006 "في إطار القانون الدولي الإنساني ومعاهدة روما، فإن موت مدنيين أثناء نزاع مسلح.. لا يشكل في حد ذاته جريمة حرب". وكان أوكامبو يرد بذلك على شكاوى رسمية تقدمت بها عدة منظمات حقوقية من الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا، ارتكبت بموجبها قوات التحالف في العراق جرائم حرب في العام 2003، وأكد أوكامبو أن الأمر سيعتبر جريمة حرب بالفعل فيما لو وقع هجوم متعمد ضد مدنيين، أو ضد هدف عسكري في ظل إدراك مسبق بأن "عدد المصابين المدنيين العرضي سيكون مبالغا فيه مقارنة مع أية أفضلية أو نتيجة عسكرية متوقعة".


وبما أن إسرائيل كانت ترسل إنذارات موضعية تدعو السكان المدنيين في غزة لمغادرة مناطق القتال قبل أي هجوم تشنه قواتها وطائراتها (إلقاء منشورات، مكالمات هاتفية وبلاغات كلامية للهواتف النقالة) فإنه سيكون من الصعب الإدعاء بأن السياسة الإسرائيلية كانت موجهة للمس بالسكان المدنيين الفلسطينيين.


كيف تقدم الدعاوى للمحكمة الجنائية الدولية؟


أولا: يحق لكل دولة موقعة على "معاهدة روما" أن تطلب من مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في الجرائم الدولية الخطيرة التي وقعت على أراضي هذه الدولة.


ثانيا: يمكن لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة دعوة المحكمة الجنائية الدولية إلى فتح تحقيق في جرائم حرب.


ثالثا: بما أنه يمكن أيضا لمنظمات دولية، مثل وكالات الأمم المتحدة أو منظمات غير حكومية، عرض مواد وأدلة أمام مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم حرب محتملة، فإن المدعي العام يمكن أن يستنتج بأن عليه فتح تحقيق.


من الواضح بطبيعة الحال أنه لا يحق لأحد من الموقعين على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية أن يطلب، أو أن يقترح على المدعي العام للمحكمة فتح تحقيق في أحداث جرت داخل إسرائيل، ذلك لأنها (إسرائيل)، وعلى الرغم من أنها وقعت على "معاهدة روما" في العام 2000، لم تُصدِّق بعد على المعاهدة ذاتها، وبالتالي لا توجد للمحكمة الجنائية الدولية صلاحية قضائية في الأراضي الإسرائيلية. مع ذلك ينبغي التأكيد أنه يمكن للمحكمة الجنائية أن تحاكم أي مواطن إسرائيلي يرتكب جريمة دولية في أراضي دولة موقعة على "معاهدة روما"، على الرغم من عدم تصديق إسرائيل على المعاهدة حتى الآن.


وفيما يتعلق بدعاوى محتملة تقام في المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب أثناء عمليات عسكرية للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، هناك مسائل كثيرة تطرح في هذا السياق أيضا:


أولا، إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التي لم توقع، أو تصدق، على "معاهدة روما"، وإنما هناك أيضا دول مثل الولايات المتحدة والهند ومصر والصين، وكذلك السلطة الفلسطينية التي لا تعتبر دولة عضوا في المحكمة. وإذا كانت السلطة تعتمد على رفع مكانة بعثة مراقبيها في الأمم المتحدة إلى مستوى دولة مراقب غير عضو، وأن هذا الأمر سيمكنها من الانضمام إلى "معاهدة روما"، فقد فاتها الإشارة إلى ذلك عندما اتخذت الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة قرارها في الشأن المذكور في 29 تشرين الثاني 2012.


ثانيا، حتى لو كانت السلطة الفلسطينية طرفا في معاهدة روما باسم "دولة فلسطين"، فإن مسألة البقعة الجغرافية التي تمثلها بالضبط ما زالت قائمة بعينها. وكانت السلطة الفلسطينية قد اعترفت في العام 2009 بالصلاحية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية في أراضي "فلسطين"، لكنها لم تحدد بالضبط منطقة أو "أرض فلسطين" التي تتحدث عنها. وإذا كانت تقصد بذلك منطقة الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن لإسرائيل مطالب (إقليمية) في الضفة الغربية، وخاصة في القدس الشرقية، التي ضمتها في العام 1967. فضلا عن ذلك، ما زالت مسألة "السيطرة الفعلية" في منطقة الضفة الغربية وقطاع غزة غير محسومة، وهناك أطراف وجهات كثيرة في المجتمع الدولي تقول إن هذه المناطق تخضع للاحتلال الإسرائيلي، وإن إسرائيل هي التي ما زالت تمارس السيطرة الفعلية في قطاع غزة، على الرغم من انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع في العام 2005، وذلك لأنها تسيطر على المنافذ البرية والبحرية والجوية للمنطقة. ويمكن تفنيد إدعاء السلطة الفلسطينية بشأن سلطاتها وصلاحياتها القضائية في منطقة قطاع غزة، نظرا لأن حركة "حماس" تشكل جهة السيطرة الوحيدة في المنطقة منذ العام 2007، على الرغم من وجود صلة رمزية وواهنة للمنطقة بسلطة الرئيس محمود عباس في رام الله. وطالما أن إسرائيل تسيطر على أجزاء في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإنه سيكون من الصعب على السلطة الفلسطينية الإدعاء بأنها تمتلك سيطرة فعلية، إلاّ إذا قالت إن هذه المناطق لم تعد خاضعة للاحتلال، الأمر الذي سيسحب البساط كليا من تحت شكواها الرئيسة أمام المجتمع الدولي.


ثالثا، لقد أقيمت المحكمة الجنائية الدولية في الأصل من أجل التعامل مع جرائم بشعة ارتكبها أشخاص لم يعاقبوا على أفعالهم. وفي الحالات التي يقدم فيها مواطن معين في دولة ذات جهاز قضائي جاد ونزيه، على ارتكاب جريمة حرب، فإنه سيحاكم في دولته، مما سيلغي الحاجة إلى تدخل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. من هنا فقد قامت هذه المحكمة إذن على أساس مبدأ "الاستكمال"، بمعنى أن الأولوية هي صلاحية المحاكم الدولانية في استنفاد القانون، ولكن إذا امتنعت الدولة أو تعذر عليها في حالة معينة تطبيق أو استنفاد القانون إزاء مخالفة أو جريمة ارتكبت في منطقة صلاحياتها القضائية، فإنه يحق للمحكمة الجنائية الدولية التدخل عندئذ.


هنا يطرح السؤال: هل يمكن الاعتماد على جهاز القضاء في إسرائيل في أن يبحث بنزاهة واستقامة اتهامات موجهة للجيش الإسرائيلي؟


هذا السؤال أثير في سياق آخر، عندما شرعت محاكم في دول أوروبية في اتخاذ إجراءات قانونية ضد ضباط إسرائيليين في إطار نظرية القضاء العالمي، التي يمكن بموجبها تطبيق صلاحية جهازها القضائي على حالات تتعلق بأفراد ليسوا من رعايا هذه الدول، بسبب جرائم محتملة لم ترتكب في أراضيها. ففي العام 2010 صادقت المحكمة العليا في إسبانيا على قرار محكمة الاستئناف رفض طلب لإجراء تحقيق جنائي في قضية عملية اغتيال صلاح شحادة، قائد الجناح العسكري لحركة "حماس" في قطاع غزة، والتي قامت بها إسرائيل في العام 2003. وكانت عملية الاغتيال التي نفذها الطيران الحربي الإسرائيلي قد اسفرت عن مقتل 14 مدنيا فلسطينيا من سكان البناية التي تواجد فيها شحادة.


وقد استند القرار الأصلي لمحكمة الاستئناف على الإدعاء بأنه بذل في التحقيق الداخلي الذي أجراه الجيش الإسرائيلي والإجراءات التي اتخذها جهاز القضاء في إسرائيل، جهد حقيقي للبت في مسألة ما إذا كانت قد ارتكبت جرائم محتملة نتيجة لاغتيال شحادة. بعبارة أخرى فقد أكد القضاة الإسبان أن الإجراءات التي قام بها جهاز القضاء الإسرائيلي فيما يتعلق بقضية اغتيال شحادة كافية، وبالتالي فإن تدخل المحاكم الاسبانية لا لزوم له في هذه الحالة. ويشكل قرار المحكمة الإسبانية نموذجا لمبدأ التكامل أو "الاستكمال"، الذي يوجه اتخاذ القرارات في المحكمة الجنائية الدولية أيضا.


كذلك نالت مصداقية التحقيقات الداخلية الإسرائيلية المتعلقة بسلوك وممارسات الجيش الإسرائيلي، تأييدا من جانب لجنة خبراء مستقلة شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في العام 2011، لفحص الطريقة التي تصرف وعمل بها الجانبان الإسرائيلي والفلسطيني في التحقيقات الداخلية حول الأعمال التي قام بها الجيش الإسرائيلي خلال عملية "الرصاص المصبوب" في قطاع غزة (2008 – 2009). وقد كتبت رئيسة لجنة الخبراء، القاضية الأميركية المتقاعدة ماري مكغوان ديفيس، مؤكدة أن "إسرائيل كرست جهودا كبيرة من أجل التحقيق في أكثر من 400 اتهام حول ارتكاب مخالفات أثناء العملية العسكرية في غزة". في المقابل أشارت اللجنة إلى أن حركة "حماس" لم تجر أي تحقيق حول إطلاق الصواريخ نحو إسرائيل.


وتؤكد "معاهدة روما" بوضوح التزامها بمبدأ الناحية المكملة في عمل المحكمة الجنائية الدولية، إذ أكدت مقدمة المعاهدة أن المحكمة التي أقيمت في إطارها سوف "تشكل مكملا للمحاكم الجنائية الدولانية". كذلك عاد البند الأول في "معاهدة روما" وأكد هذه النقطة: المحكمة الجنائية الدولية ستشكل هيئة دائمة ذات صلاحيات قضائية تسري على الأفراد في شأن الجرائم الأشد خطورة ذات الاهتمام الدولي.. وسوف تكون مكملة للسلطة والصلاحية القضائية للمحاكم الجنائية القومية.


كذلك شدد البند السابع عشر في "معاهدة روما" على أن المحكمة الجنائية الدولية لن تقبل دعاوى لا تأخذ في الحسبان المبدأ المذكور: تقرر المحكمة عدم قبول ملف (دعوى) طالما جرى تحقيق في الموضوع أو قدمت دعوى من قبل دولة تمتلك الصلاحية القضائية عليه، إلا إذا كانت الدولة لا تريد، أو لا تستطيع، التحقيق أو إجراء محاكمة.


وعليه فإن اتخاذ اجراءات قانونية ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية ليس بالمسألة الهينة أو السهلة، إذ يتعين على مدعي عام المحكمة أن يأخذ في الحسبان مبدأ الاستكمال في بحثه لمسألة ما إذا كان من الممكن محاكمة ضباط عسكريين أو قادة سياسيين إسرائيليين في نطاق "معاهدة روما". ففي حالة السودان على سبيل المثال، والتي هي ليست طرفا في "معاهدة روما"، كان من الواضح أن أية محكمة سودانية لن تقدم على اتخاذ إجراءات لمحاكمة الرئيس عمر حسن البشير على ضلوعه في ارتكاب جرائم إبادة جماعية في دارفور. ونظرا لخطورة هذه الجرائم الدولية، قرر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إحالة قضية الرئيس السوداني للمحكمة الجنائية الدولية، التي أدانته ببنود الاتهام الموجهة ضده. وفي حالات أخرى في القارة الإفريقية، فإن الحكومات المركزية لا تمتلك بالضرورة سيطرة على كل ما يحدث في أنحاء دولها، ولذلك تغدو المحكمة الجنائية الدولية الهيئة القضائية الوحيدة لضمان جلب المتهمين بارتكاب الجرائم الخطيرة ضد الانسانية إلى العدالة.


من الواضح أن إسرائيل حالة مختلفة من حيث الجوهر عن الحالات المذكورة. ففي هذا العام (2014) كانت إسرائيل ضحية هجمة شنتها منظمة إرهابية دولية (حركة "حماس") وأطلقت خلالها بصورة متعمدة صواريخ على تجمعات سكانية، وهي جريمة حرب في حد ذاتها. فضلا عن ذلك فإن إسرائيل تمتلك جهازا قضائيا متقدما يراقب أداء وسلوك الجيش الإسرائيلي في ساحة القتال. والقرار الأولي حول ما إذا كان يجب اتخاذ إجراءات قضائية ضد جنود إسرائيليين، لا يقع ضمن صلاحية قادة الفرق العسكرية كما هو متبع في جيوش كثيرة، وإنما هو من اختصاص المدعي العسكري الرئيس، الذي يعمل بصورة مستقلة عن التسلسل القيادي في الجيش الإسرائيلي. وفي حال امتناع المدعي العسكري عن اتخاذ الاجراءات اللازمة إزاء تجاوز خطير، فإنه يحق عندئذ للمدعي العام المدني للدولة التدخل، وإذا رفض هذا الأخير التدخل، فإنه يمكن للمحكمة الإسرائيلية العليا اتخاذ الإجراءات اللازمة.


وبغية اتخاذ إجراءات قضائية حيال اتهامات بارتكاب جرائم دولية من جانب إسرائيليين، ستضطر المحكمة الجنائية الدولية للتغاضي عن مبدأ دورها المكمل، والمنصوص عليه، كما أسلفنا، في "معاهدة روما". ومثل هذه الحالة ستشكل تسييسا جليا للمحكمة الجنائية الدولية، وإساءة سافرة لسمعتها، كما حدث في مؤسسات وهيئات دولية أخرى سمحت لنفسها بالانجرار إلى النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، كمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على سبيل المثال.


إلى ذلك، فإن القيادة الفلسطينية ستواجه معضلات حقيقية إذا ما وقعت على "معاهدة روما" وباشرت في إجراءات قضائية ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية. وليس من الواضح نهائيا إذا ما كان مدعي عام المحكمة سيرى في هذه الملفات قابلة للبحث، إذا ما كانت قيد التحقيق والبحث في جهاز القضاء الإسرائيلي. إن توقيع القيادة الفلسطينية على "معاهدة روما" من شأنه أن يجعلها عرضة لمواجهة دعاوى حول ارتكاب جرائم حرب، نظرا لأن السكان المدنيين الإسرائيليين هم الذين كانوا مستهدفين في هجمات حركة "حماس". وخلافا لإسرائيل، فإن "حماس"، التي تعتبر "منظمة إرهابية"، لا تمتلك أي جهاز قضائي.


أخيرا، وفيما عدا الانعكاسات المحتملة للتوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية بطلب اتخاذ إجراءات ضد (عسكريين وسياسيين) إسرائيليين، فإن من المحتمل أن تكون لمثل هذه الخطوة أيضا، انعكاسات سياسية خطيرة. فقد أقر الكونغرس الأميركي تشريعا لن يواصل بموجبه المصادقة على تحويل المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية إذا ما توجهت السلطة إلى المحكمة الجنائية الدولية، فيما سيكون رئيس السلطة محمود عباس عرضة لضغوط من جانب فصائل المعارضة الفلسطينية التي تطالبه بتجاهل موقف واشنطن في هذا الخصوص. وكانت الإدارة الأميركية قد مارست الضغط على الرئيس عباس في العام 2009 من أجل تأجيل التصويت على تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وقد استجاب "أبو مازن" لطلب الولايات المتحدة، غير أن هذا التأجيل جر موجة احتجاج وانتقادات في صفوف الفلسطينيين، اضطرته للتراجع عن قراره. ومن هنا قد يتكرر الآن سيناريو مشابه أيضا، وبالتالي سيكون من الخطأ استبعاد إمكانية لجوء السلطة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية الدولية.


وفضلا عما يمكن أن يترتب على مثل هذه الخطوة من انعكاسات سلبية على أي تعاون مستقبلي بين الجانبين، فإن إسرائيل لن تسلم بأية خطوة أو إجراءات قانونية تهدد جنودها وضباطها، وهذا ما يفسر الموقف الحازم للحكومة الإسرائيلية في هذا الموضوع. فحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني يجب أن يتم حول مائدة المفاوضات، والذي لن تفيده قطعا جهود ومساع قانونية لجر تدخل من جانب المحكمة الجنائية الدولية أو هيئات قضائية دولية أخرى.


______________________________


(*) رئيس "المركز المقدسي لشؤون الجمهور والدولة" وأشغل في السابق منصب سفير إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة وعمل مستشارا سياسيا لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. وهو حاصل على لقب دكتوراة في العلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط من جامعة كولومبيا في نيويورك. ترجمة خاصة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات