المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الأكاديميا الإسرائيلية تتطوّع لمحاصرة حرية التعبير عن الرأي وقمعها

كتب سليم سلامة:

الواقع الطاغي الذي برز في إسرائيل جليا، بكامل حدته وخطورته، خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، منذ بدء الحرب العدوانية الأخيرة ("الجرف الصامد") عموما، ومنذ بدء مرحلتها البرية خصوصا وما رافقها من سقوط شبه يومي لجنود إسرائيليين خلال العدوان ـ هذا الواقع الذي يمكن اختزاله بخلاصة أن "جماهير الشعب" في إسرائيل لم تعد تكتفي بأن "تصمت الأقلام حين تدوي المدافع" فقط، إنما أصبحت تسعى إلى كسر هذه الأقلام، لا مجرد إسكاتها، بل إخراس أي صوت ليس فقط إذا كان يعارض الحرب ومجازرها، وليس فقط إذا كان لا يتعاطف مع الجنود ولا يؤيد الحرب الإبادية، بل إذا كان يبدي أي تعاطف مع الضحايا، ولو تلميحا فقط ومن منطلق إنساني محض.

وفي هذه الخانة، يقف المجتمع الإسرائيلي بغالبيته الساحقة جدا، باستثناء بعض الهوامش الضيقة جدا، وقفة "رجل واحد" ضد أية إشارة أو تلميح يمكن أن يشي بموقف خارج عن نطاق "الإجماع".

والتطور الجديد، الخطير جدا، الذي لا يبذل هذا "الإجماع" أدنى جهد، ولو "على عينك يا تاجر" فقط، لإخفائه، تمويهه، التستر عليه أو خفض لهيبه، هو عدم التردد أو الإحجام عن استخدام أية وسيلة أو طريقة لكتم هذه الأصوات وإخراسها.

ويبدو واضحا أن الذين يتصدرون الصفوف الأمامية في معركة / حرب الإخراس الداخلية هذه في إسرائيل، المتممة للحرب الخارجية على قطاع غزة وتشكل جزءا لا يتجزأ منها، يدركون تماما أنهم مُطلَقو الحرية وفي حلٍّ من أية مساءلة يمكن أن يخضعوا لها في واقع "وحدة الموقف" والتماثل التام، بل التماهي، المتكشف بينهم وبين المؤسسات الرسمية أو الجماهيرية المعنية على اختلافها، من وسائل الإعلام إلى النيابة العامة، مرورا بالشرطة! وعلى هذا، فحينما نقول "عدم التردد في استخدام أية وسيلة أو طريقة" لمعاقبة كل مَن يجرؤ على التعبير عن موقف غير مؤيد للحرب، فمن الواضح بالطبع أن وسائل العنف وطرق الاعتداء الجسدي تندرج ضمن الوسائل والطرق "الشرعية تماما" في مثل هذا الواقع ـ وهو ما حصل فعلا في أكثر من مرة وضد أكثر من شخص واحد ـ كما تصبح "شرعية تماما"، أيضا، وسائل الطرد من العمل وطرق قطع الأرزاق، مثلما حصل، تحديدا، للعديد من العمال والموظفين العرب من مواطني إسرائيل العاملين في مؤسسات وشركات رسمية وغير رسمية على السواء، إذ تم طردهم وفصلهم من العمل بجريرة تعبيرهم عن رأي مناوئ لحرب القتل والتدمير التي يتعرض لها أبناء شعبهم.

وإذا كنا قد ذكرنا "التعبير عن الرأي"، وهو الذي يشكل حقا أساسيا لأي إنسان في أية دولة ديمقراطية وتتبجح إسرائيل بكونها كذلك وبأنها تكفل هذا الحق وتضمن هذه الحرية، فإن ما واجهته "حرية التعبير عن الرأي" في مؤسسات الأكاديميا الإسرائيلية من تعدٍّ فظ وصارخ وتضييق خانق خلال أسابيع الحرب الأخيرة يمثل تطورا جديا وخطيرا، من حيث تجاوزه مرحلة "المحاولات" والإيحاءات وبلوغه مرحلة الممارسة الفعلية على أرض الواقع، من شأنه أن يرسم علامات فارقة لتحولات جوهرية، عميقة وبعيدة المدى. ذلك أن حرية الفكر والتعبير، وخارج حدود "المقبول" بالذات، هي أحد الأسس المكوّنة والدعائم القاعدية في تكوين المؤسسات الأكاديمية، التي لا يفترض فيها ضمان هذه الحرية وصونها فحسب، بل تشجيعها وتنميتها أيضا.

وثمة عنصران مستجدان يزيدان في جدية هذا التطور ويعمقان في خطورته: الأول ـ أن هذا التعدي والتضييق الفعليين الراهنين على "حرية التعبير عن الرأي" في الأكاديميا الإسرائيلية يأتيان طوعيا من داخلها ذاتها، لا من خارجها (أوساط يمينية متطرفة تحارب "يسارية" المؤسسات الأكاديمية في إسرائيل، كما كان يحصل من قبل)؛ والثاني ـ أن هذا التعدي والتضييق الفعليين يأتيان في خطوة استباقية، احترازية، "وقائية"، لا كـ "رد فعل" أو إجراء "علاجي"!

تعقّب الأساتذة والطلاب وتهديدهم

بالمحاكم التأديبية وبالشرطة!

وكانت إدارة "جامعة تل أبيب" الأولى من بين الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الأخرى في إسرائيل التي "بادرت" إلى تبني وإعلان موقف رسمي "يتماثل مع قوات الأمن ويندد بردود الفعل التي تنطوي على مسّ عبر صفحات التواصل الاجتماعي"(!!)، حسبما جاء في رسالة رسمية مشتركة وجهها رئيس الجامعة، البروفسور يوسف كليبطر، وعميدها، البروفسور أهرون شاي، ومديرها، موطي كوهن، إلى جميع الطلاب والأساتذة في الجامعة ونشروه، حرفيا، على موقع الجامعة على الشبكة العنكبوتية تحت عنوان: "جامعة تل أبيب تحضن قوات الأمن وتندد بأي تعقيب ينطوي على مسّ في شبكات التواصل الاجتماعي"!!

وكتب رؤساء الجامعة في رسالتهم المشتركة هذه: "تندد جامعة تل أبيب وتستنكر، بمنتهى الشدة، أية تصريحات أو تفوهات متطرفة أو تتضمن مساً كتلك التي تنتشر في هذه الأيام على شبكات التواصل الاجتماعي، والتي لا مكان لها في النقاش العام". ولم يكتف رؤساء هذه الجامعة بإعلان موقف "مبدئي" يقتصر على احتضان قوات الأمن ودعمها وتأييد ممارساتها وجرائمها، من جهة، والتنديد والاستنكار لأية تفوهات مغايرة لهذا الموقف، بل ذهبوا إلى التهديد الواضح والفظ بأن "الجامعة ستتصرف بموجب أنظمة الطاعة السارية على الطلاب وعلى العاملين، في أية حالة يُسجَّل فيها خرق أو تجاوز"!!

ورد أحد الأساتذة الجامعيين من أعضاء السلك الأكاديمي في هذه الجامعة، البروفسور هيلل شوكن، على رسالة رؤساء الجامعة هذه نافيا حق الإدارة في التدخل في حقه الأساس في التعبير عن رأيه وقال: "الجامعة هي الجسم الأخير الذي يمكنه النظر، أصلا، في احتمال فرض قيود، أيا كانت، على حرية التعبير، التي هي حق أساس في دولة ديمقراطية. ذلك أن المرحلة التالية سوف تكون، لا شك، التخلي عن الحرية الأكاديمية"!

وبعد أقل من أسبوع على نشر هذه الرسالة، انضمت "جامعة بن غوريون" في مدينة بئر السبع في النقب إلى حملة التضييق والخنق هذه، وذلك من خلال رسالة رسمية وجهتها رئيسة الجامعة، البروفسور ريفكا كارمي، إلى "جميع الطلاب وأعضاء السلك الأكاديمي في الجامعة" متذرعة بأن "إدارة الجامعة تتلقى، في هذه الأيام العاصفة والقاسية، شكاوى حول تفوهات متطرفة وغير لائقة من جانب طلابنا في شبكات التواصل الاجتماعي... وهي حالات قليلة العدد حقا، لكن خطورتها تكمن في مجرد وجودها"!!!

وكما فعلت إدارة جامعة تل أبيب، كذلك أيضا رئيسة جامعة "بن غوريون" في النقب لم تكتف بتأكيد تنديد الجامعة، استنكارها وإدانتها لهذه "التفوهات المتطرفة وغير اللائقة"، ولم تكتف بالتهديد بأنها ستلجأ إلى "الأنظمة التأديبية" لمعاقبة أصحاب هذه التفوهات، بل هددت بإحالتهم إلى الشرطة أيضا (!!)، معترفةّ، بصورة رسمية، بأن إدارة الجامعة تتعقب مثل هذه التفوهات وتمارس رقابة عليها وعلى أصحابها: "الجامعة تراقب النقاش الجاري على صفحات التواصل الاجتماعي وستعمل، عند الحاجة، وفقا لأنظمة الطاعة في الجامعة، بل وستتوجه إلى الشرطة أيضا"!!

وأثارت هذه الرسائل موجة من السخط الحاد بين منظمات السلك الأكاديمي في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الأخرى في إسرائيل عبرت عنها في بيان خاص ومشترك أصدرته لإعلان رفضها لهذه الرسائل واستنكار مضمونها.

وقال رئيس المجلس التنسيقي لمنظمات السلك الأكاديمي في الجامعات، البروفسور إيلي فايتس، في رسالة وجهها إلى رئيس لجنة رؤساء الجامعات، البروفسور مناحيم بن ساسون: "إننا نرفض ما جاء في الرسائل التحذيرية والتهديدية والتي تجاوزت الحدود في بعدين أساسيين: انتهاك الحيز الشخصي والخاص بكل طالب ومحاضر جامعي وكمّ الأفواه". وأوضحت الرسالة: "في أية حالة يتم فيها التفوه بما يتضمن تحريضا على العنف والعنصرية، وهو ما يشكل مخالفة للقانون، ثمة في الدولة الديمقراطية جهة مختصة لمعالجتها. والجامعة هي ليست هذه الجهة وليست العنوان"!

ووجهت جمعية حقوق المواطن في إسرائيل رسالة بهذا الخصوص إلى نائبة رئيس مجلس التعليم العالي، البروفسور حجيت ميسر يارون، طالبتها من خلالها بإصدار تعليمات إلى الجامعات توضح لها أنه "يُحظر عليها اتخاذ أية إجراءات عقابية بحق طلاب أو أساتذة بجريرة التعبير عن آراء على شبكات التواصل الاجتماعي، مهما كانت هذه الآراء حادة ومثيرة للتقزز"! وأضافت الجمعية في رسالتها: "للأسف الشديد، بدلا من إثارة النقاش النقدي ورعايته، من خلال الدعوة إلى التسامح، ينجرّ بعض رؤساء الجامعات خلف العربدة السائدة، بل ويسهمون أيضا في تغذيتها وإذكائها من خلال تصريحاتهم وأفعالهم التي تشجع صيد الساحرات بين الطلاب"!

مهاجمة محاضر عبر عن تعاطفه

مع الفلسطيني تلميحا!

ومع انتشار هذه الأجواء، الرسمية والفعلية، في جامعتي تل أبيب وبئر السبع اللتين كان يجري تصنيفهما بين الجامعات "الليبرالية" التي تصون الحريات الفردية الأساسية والحريات الأكاديمية ـ حتى هذا التطور الأخير، على الأقل ـ أصبح من السهل جدا شن هجوم شخصي، حاد وشرس، ضد أستاذ جامعي في "جامعة بار إيلان" (في "رامات غان")، والمعروفة بأنها تشكل "معقلا" لما يُعرف في إسرائيل بـ "التيار الديني الوطني" الذي يحظى بالأغلبية الساحقة بين المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، والتي اشتهرت بشكل خاص على خلفية كون يغئال عمير، قاتل رئيس الحكومة السبق في إسرائيل، إسحاق رابين، أحد طلابها.

فقد تعرض البروفسور حانوخ شينمان، أستاذ القانون في كلية الحقوق في هذه الجامعة، إلى هجوم رسمي عنيف من جانب إدارة الجامعة، تخلله تهديده باتخاذ إجراءات عقابية بحقه ومطالبته بتقديم اعتذار "للطلاب الذين شعروا بالأذى"!!

وقصة هذا الأستاذ الجامعي أنه وجه لطلابه في كلية الحقوق، يوم 28 تموز الأخير، رسالة بالبريد الإلكتروني يبلغهم فيه تغيير مواعيد بعض الامتحانات بسبب الأوضاع الأمنية السائدة في البلاد من جراء الحرب العدوانية. وقد استهل البروفسور شينمان رسالته هذه ببعض الكلمات حول الوضع قال فيها: "أرجو أن تصلكم رسالتي هذه وأنتم في مكان آمن، وأنتم وأفراد عائلاتكم وأقرباؤكم لستم بين مئات الأشخاص الذين قـُتلوا، الآلاف الذين أصيبوا، أو عشرات الآلاف الذين دمرت بيوتهم خلال المواجهة العنيفة في قطاع غزة ومحيطها، أو نتيجة مباشرة له"!

وعلى الفور، ثارت عاصفة هوجاء ضد هذا المحاضر الجامعي لمجرد ذِكرِ ضحايا ومعاناة الآخرين (الفلسطينيين)، حتى من غير الإفصاح عن هويتهم، فانهالت شكاوى الطلاب ضده إلى إدارة الكلية والجامعة بزعم "المساس بالمشاعر"!!

وحال تلقيه هذه الشكاوى، سارع عميد كلية الحقوق في الجامعة، البروفسور شاحر ليفشيتس، إلى إصدار "بيان عاجل" حول الموضوع قال فيه: "صُدِمتُ لمعرفة أمر رسالة البريد الإلكتروني التي أرسلها البروفسور شينمان... إنها رسالة مؤذية ونحن نتلقى منذ الصباح توجهات صادقة من طلاب كثيرين ومن عائلات يشارك العديد من أبنائها هذه الأيام في المعارك الدائرة في الجنوب"!

ولم يكتف شاحر بهذا، بل ذهب إلى التأكيد على أن "رسالة البروفسور شينمان تتعارض، من حيث المضمون والأسلوب معا، مع قيم الجامعة وكلية الحقوق فيها... لقد نقشت هذه الكلية على راياتها قيم التعددية، التسامح وحرية التعبير، غير أن دمج المواقف كما حصل في رسالة البروفسور شينمان إلى الطلاب لا يندرج في إطار حرية التعبير الفردية، ولا بأي حال من الأحوال، بل هو إساءة استغلال للقوة الممنوحة لمحاضر جامعي لتوجيه رسائل تعبر عن مواقفه وآرائه بصورة شكلت مساً فظا بمشاعر الطلاب وأبناء عائلاتهم"!

وبعد تقديم الاعتذار باسمه وباسم الكلية والجامعة، تعهد عميد الكلية في بيانه/ رسالته بـ "معالجة المسألة بمنتهى الخطورة المناسبة"!، فضلا عن مطالبة شينمان نفسه بتقديم اعتذار للطلاب، هو أيضا.

وردّ شينمان على هذه العاصفة وما رافقها من هجوم شخصي بالتأكيد على أنه لا ينوي تقديم أي اعتذار لأن ما كتبه في رسالته يعبر عن "اعتراف بالمعاناة الإنسانية التي يكابدها جميع الأطراف... وقد اخترت التعبير عن هذا القلق بدون التمييز المتبع والمعتاد بين اليهود والعرب"!

وكانت "جامعة بار إيلان" نفسها قد صادقت، قبل ذلك بأسبوع، لثلاثين طالبا يدرسون للقب الثاني في موضوع "إدارة الأعمال" تغيير مساق تعليمي واستبداله بآخر لأن "المُحاضر يساري متطرف"!!

والمحاضر المعني هو د. أوري فايس يدرّس مساق "القانون التجاري" في دراسات اللقب الثاني في كلية "إدارة الأعمال" في الجامعة. له مدونة خاصة ويكتب مقالات رأي في صحيفة "هآرتس".

وقد ثار غضب الطلاب عليه ورفضهم التعلم عنده على خلفية ما نشره على صفحته الخاصة في موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك"، في الأيام الأولى من الحرب العدوانية الجديدة، من تعليقات تعارض الحرب، كان من بينها: "هذه حكومة حروب، جرائم حرب، ملاحقة لاجئين، ضرب المؤسسات الديمقراطية وضرب الفقراء"، و"أنا أؤيد لجنة غولدستون 2" و"القصف التحذيري هو جريمة حرب"!

المصطلحات المستخدمة:

شاي, رامات غان, رئيس الحكومة, هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات