المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

 

 

 

ارتفاع نسبة الزواج المختلط ليهود العالم يزيد انصهارهم ويثير القلق في إسرائيل

 

 

 

 

 

*في العالم 85ر13 مليون يهودي أقل من نصفهم في إسرائيل *أعداد اليهود في تراجع مستمر في العالم باستثناء إسرائيل *الزواج المختلط هو السبب المركزي لهذا الانصهار *قلق إسرائيل والصهيونية نابع من تراجع رافد الهجرة إلى إسرائيل مستقبلا*

 

 

 

 

كتب برهوم جرايسي:

 

انشغل قادة إسرائيل في الأيام الأخيرة، وبشكل غير مألوف، في قضية ارتفاع نسبة انصهار اليهود في العالم، الذين تتراجع أعدادهم سنويا بشكل ملحوظ، وما يسد النقص ويضمن إضافة محدودة، هو التزايد في إسرائيل، الذي سيكون بعد سنوات عاجزا عن سد النقص، ويدعو قادة إسرائيل إلى رصد مئات ملايين الدولارات سنويا، لتمويل مشاريع يهودية في العالم، تقرّب أبناء الديانة اليهودية إلى ديانتهم في أوطانهم.

 

فقد عقد في إسرائيل في الأسبوع الماضي، ما يسمى بـ "مؤتمر الرؤساء"، والقصد منظمة رؤساء المنظمات الأميركية اليهودية، وهي من أهم المؤسسات الصهيونية في الولايات المتحدة، وتعقد مؤتمرا سنويا في إسرائيل، عدا المؤتمر السنوي في الولايات المتحدة.

 

وظهرت في محيط المؤتمر مبادرة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الاقتصاد في حكومته نفتالي بينيت، لرصد ميزانية من 100 مليون دولار لإقامة مشاريع ومؤسسات يهودية في عدة نقاط في العالم، للجم ظاهرة انصهار اليهود في مجتمعات أوطانهم، وفي اليوم التالي لظهور تلك المبادرة، ظهر وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان على منصة المؤتمر بخطاب حاد، يعبّر فيه عن قلق أكبر من مسألة الانصهار، ودعا إلى تخصيص 365 مليون دولار سنويا، على مدى ثلاث سنوات على الأقل، بتمويل مشترك من الحكومة الإسرائيلية والحركة الصهيونية ومستثمرين يهود، من أجل بناء مؤسسات تعليمية وتربوية يهودية في مختلف الدول.

 

 

خلفية القضية

 

تقول معطيات الحركة الصهيونية، التي تظهر في عدة مؤسسات تابعة لها، ومن بينها "معهد سياسة الشعب اليهودي"، إنه حتى نهاية العام 2012، كان في العالم نحو 85ر13 مليون نسمة من أبناء الديانة اليهودية، من بينهم نحو 6 ملايين في إسرائيل، ولكن هذا العدد يشكل زيادة لا تتعدى 6ر9%، عما كان عليه عددهم في العام 1970، نحو 63ر12 مليون نسمة، رغم أن العالم ضاعف عدده بأكثر من 100% في هذه الفترة الزمنية (42 عاما).

 

وتشير كل التقارير إلى أن عدد اليهود يتناقص سنويا، في كل دول العالم وبأعداد ملحوظة، باستثناء إسرائيل، فمثلا كان يعيش في القارة الأميركية الشمالية (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك) حتى نهاية العام 2012، نحو 8ر5 مليون نسمة، من بينهم أكثر من 4ر5 مليون في الولايات المتحدة وحدها، ولكن هذا العدد سيتراجع بفعل الانصهار حتى العام 2020، إلى 58ر5 مليون نسمة.

 

وهذه الحال نجدها أيضا في مختلف الأماكن، ففي أوروبا سيتراجع العدد من 14ر1مليون إلى 07ر1 مليون، وفي أميركا اللاتينية من 383 ألفا إلى 364 ألفا، وفي دول الاتحاد السوفياتي السابق من 296 ألفا إلى 173 ألفا (أعلى نسبة انصهار)، وفي دول القارة الإفريقية من 75 ألفا إلى 60 ألفا.

 

بينما في إسرائيل، فإن عددهم سيرتفع من 6 ملايين في العام قبل الماضي، إلى 543ر6 مليون نسمة في العام 2020، وكل هذه المعطيات لا تأخذ بعين الاعتبار الهجرة إلى إسرائيل ومنها، لأنها تتعامل مع أعداد اليهود اليوم.

 

وهذا يعني أن عدد اليهود في دول العام عدا إسرائيل سيتراجع خلال ثماني سنوات بنحو 551 ألف نسمة، وهو ما يشكل نسبة 7% من اليهود خارج إسرائيل حاليا، ولكن الزيادة في إسرائيل لن تكفي لسدّ كل هذا النقص، إذ ستكون بحجم 530 ألفا، وهذا مشهد سيستمر في السنوات اللاحقة، وهو ما يقلق إسرائيل والحركة الصهيونية.

 

 

وهذا التراجع في الأعداد يعود لعدة أسباب، منها التكاثر الطبيعي بنسبة منخفضة، باستثناء المتدينين المتزمتين (الحريديم) ومن ثم المتدينين في التيار الديني الصهيوني، بينما التكاثر لدى العلمانيين أقرب لنسب الدول المتطورة.

 

لكن السبب الأكبر في هذا التراجع يعود إلى "الزواج المختلط"، أي زواج اليهود مع أبناء ديانات أخرى، وبحسب الشريعة، فإن اليهودي هو من والدته يهودية، بمعنى أن الرجل الذي زوجته ليست يهودية، لا يعتبر أبناؤه يهودا، والعكس بالعكس حين تكون الوالدة يهودية، بمعنى زوجها ليس يهوديا. وتثبت أبحاث مؤسسات الحركة الصهيونية أنه حين لا يتم الاعتراف بأبناء اليهودي من زوجة ليست يهودية كيهود، فإن الغالبية الساحقة جدا ممن يولدون لأم يهودية وأب ليس يهوديا، لا يعتبرون أنفسهم يهودا.

 

وحسب تقديرات مؤسسات الحركة الصهيونية، فإن نسبة زواج اليهود المختلط في العالم 45% بالمعدل، وهذه النسبة قائمة في الولايات المتحدة، أكبر تجمع لليهود في العالم بعد إسرائيل، وفي القارة الأميركية اللاتينية تصل النسبة إلى 35% بالمعدل، وتتراوح في أوروبا ما بين 35% إلى 60%، وفي فرنسا وحدها التي تعد المركز الثالث لليهود في العالم تتراوح نسبة الزواج المختلط ما بين 25% إلى 35%، ويعيش هناك قرابة 480 ألف نسمة من ابناء الديانة اليهودية.

 

كما ترتفع النسبة بشكل حاد في دول الاتحاد السوفياتي السابق، وتتراوح ما بين 55% إلى 71%، لذا رأينا أنهم خلال ثماني سنوات سيتراجع عددهم بنسبة 35%.

 

 

الابتعاد عن اليهودية

 

وليس الزواج المختلط فقط هو ما يقود إلى الانصهار، بل الابتعاد عن الديانة ومؤسساتها، فحيث يوجد يهود هناك مدارس يهودية تدرّس اللغة والديانة، وتظهر سلسلة من الأبحاث تراجع اليهود باستمرار عن انخراط أبنائهم في تلك المدارس والمعاهد، ففي الولايات المتحدة الأميركية 25% فقط من اليهود يرسلون أبناءهم إلى مدارس ومؤسسات يهودية، وترتفع هذه النسبة في فرنسا إلى 40% وفي بريطانيا إلى 60%، وتهبط في ألمانيا إلى 20% وفي دول الاتحاد السوفياتي السابق إلى 15%.

 

وبنظر الحركة الصهيونية وإسرائيل، فإن الانخراط في المدارس والمؤسسات اليهودية هو مؤشر ومقدمة لتمسك الأجيال الناشئة بديانتهم، ورغم إثارة هذه القضية بشكل مكثف في العقدين الأخيرين، إلا أن كل الأبحاث والاستطلاعات تدل على تراجع مستمر في نسب المنخرطين في هذه المؤسسات.

 

وما يعزز هذه الاستنتاجات، معطيات استطلاع ظهر في نهاية العام الماضي في الولايات المتحدة، كشف الكثير عن ابتعاد اليهود عن المؤسسات وأثر هذا الابتعاد. ويقول الاستطلاع إن نسبة الزواج المختلط بين اليهود في أميركا، بلغت في السنوات الأخيرة 58%، وبين العلمانيين من اليهود وحدهم ترتفع إلى 71%، كذلك قال الاستطلاع إن 32% من اليهود ممن أعمارهم 32 عاما وما دون يعتبرون أنفسهم من دون ديانة، وهي نسبة ترتفع باستمرار، حسب البحث الذي رافق الاستطلاع.

 

كذلك فإن 34% من اليهود في الولايات المتحدة على استعداد للإيمان بالسيد المسيح، ما يعني تقاربهم من المسيحية وترك اليهودية، ولكن النتيجة المقلقة أكثر للحركة الصهيونية أن أكثر من 66% من اليهود لا يربون أبناءهم على الحياة اليهودية، ولا يرسلون أبناءهم إلى مؤسسات تعليم يهودية في الولايات المتحدة، ورغم ذلك فإن 69% أعلنوا أنهم يعتزون بأنهم يهود.

 

أما على مستوى السياسة، فقد رفض 83% من الذين شملهم الاستطلاع مقولة أن استمرار الاحتلال وبناء المستوطنات يضمن "أمن إسرائيل"، وهذا مؤشر واضح لازدياد ابتعاد الأميركان اليهود عن سياسة اليمين الإسرائيلي، لأنه على مدى سنوات كانت نسبة الرافضين لسياسة اليمين الإسرائيلي في حدود 75%، وهي أيضا نسبة عالية.

 

 

مخططات للجم الظاهرة

 

قد تكون هذه هي المرّة الأولى التي يجاهر فيها قادة بارزون في إسرائيل بقلقهم بهذه الدرجة، ويطرحون برامج مع مقترحات تمويل، إذ أن هذا الملف كان يشغل أكثر قيادة مؤسسات الحركة الصهيونية، وصدرت عدة أوراق وأبحاث في العقدين الأخيرين، تهدف إلى ربط أبناء الديانة اليهودية بديانتهم، والأهم بمشروع الحركة الصهيونية، والسياسة الإسرائيلية، ولكن كما يبدو فإن هذه المشاريع لا تجد تجاوبا بالمستوى الذي يريده أصحاب هذه المشاريع.

 

وكما ذكر، فإن مخطط نتنياهو ووزيره بينيت يدعو إلى رصد 100 مليون دولار لوضع برامج عامة للجم ظاهرة الانصهار، إلا أن وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان عبّر أمام "مؤتمر الرؤساء" عن عدم رضاه من هذا المخطط، داعيا إلى رصد أكثر من مليار دولار توزع على مدى ثلاث سنوات، بهدف بناء مدارس ومؤسسات، وأشار في كلمته إلى أن آخر أبحاث دلّت على أن نسبة الزواج المختلط في الولايات المتحدة، وحدها، أعلى من النسبة التي جرى الحديث عنها من قبل، ويقول إنها ارتفعت إلى نحو 58%.

 

وبما أن الزواج المختلط هو أمر مستبعد كليا لدى المتدينين اليهود، فيعني أن هذه النسبة ترتفع كثيرا بين العلمانيين، وقد تكون وصلت إلى 75% بين هذا الجمهور.

 

وتريد إسرائيل من وراء رصد هذه الميزانيات تشجيع أبناء الديانة اليهودية على الاقتراب من المؤسسات اليهودية في أوطانهم، كمقدمة لتقريبهم من المشروع الصهيوني، ومن ثم تحفيزهم على الهجرة إلى إسرائيل، خاصة وأن الهجرة إلى إسرائيل تراوح مكانها، وبلغ معدلها في السنوات الأخيرة ما بين 16 ألفا إلى 17 ألفا، وقد كانت من بين السنوات الأخيرة سنوات وصل فيها أقل من 14 ألف نسمة، بينما هدف إسرائيل والحركة الصهيونية، استقدام ما لا يقل عن 30 ألف مهاجر سنويا، وهو "العدد السحري" الذي يزداد به عدد الفلسطينيين في إسرائيل.

 

لكن إسرائيل ومعها الصهيونية تعرف أن "كلمة السر" المُحفزّة على الهجرة هي الاقتصاد، إذ أن 90% من يهود العالم يعيشون في أوطان فيها مستوى المعيشة أعلى من إسرائيل، ولذا ليس صدفة أن ظهرت دعوات في إسرائيل في السنوات الأخيرة للبحث عن "الهجرة النوعية"، بمعنى استقدام ذوي القدرات المالية، وليس الفقراء، الذين يتحولون إلى عبء على الخزينة الإسرائيلية العامة، ونسبة التكاثر بينهم ضئيلة، ولا يضيفون شيئا للعامل الديمغرافي.

 

وهذه معطيات لا تأخذ بعين الاعتبار الهجرة السنوية من إسرائيل، لأن القانون الإسرائيلي لا يلزم بإسقاط الجنسية عمن هاجر من إسرائيل ولم يعد إليها إلا في ما ندر كزائر، واستنادا إلى تقارير مكتب الإحصاء المركزي، فإنه يغادر إسرائيل سنويا "لأمد طويل" (كتعبير آخر للهجرة) حوالي 22 ألف شخص من حملة الجنسية الإسرائيلية، ويعود سنويا بعد غياب طويل ما بين 10 آلاف إلى 12 ألف نسمة، وهذه معدلات شبه ثابتة منذ العام 2001 ولاحقا.

 

وبحسب المعطيات الإسرائيلية الرسمية، فإن أكثر من 800 ألف من حملة الجنسية الإسرائيلية هم في عداد المهاجرين ويعيشون في الخارج، ونسبة عالية منهم عادوا من حيث أتوا سابقا، أو من حيث هاجر أهلهم من قبل، وحافظوا على الجنسية الأصلية، وما يدعم هذه المعطيات هو تقرير مكتب الإحصاء المركزي في الانتخابات البرلمانية التي جرت في مطلع العام 2013، إذ تبين أن 540 ألفا من ذوي حق التصويت الواردة أسماؤهم في سجل الناخبين (فوق 18 عاما) هم مهاجرون خارج إسرائيل.

 

إن انخراط قادة الحكومة الإسرائيلية في لجم ظاهرة انصهار اليهود في مجتمعات أوطانهم قد يكون جاء بمناسبة انعقاد "مؤتمر الرؤساء"، ولكن حينما يبدأ الحديث عن مشاريع وتمويل فهذا قد ينتقل قريبا إلى جدل في داخل إسرائيل، والسؤال الذي سيبقى مطروحا: إلى أي حد بمقدور كل هذه المشاريع أن توقف هذه الظاهرة؟.

 

 

 

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات