المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

وجهة نظر مغايرة لما هو سائد حول تراث إسحق رابين الحقيقي

بقلم: يغئال ميخائيل مايمون (*)

لن تروق هذه الحقيقة قطعاً للكثيرين في إسرائيل، خاصة على خلفية "مهرجان رابين" الأحادي الجانب الذي يهل علينا مرتين في كل سنة، لكن هذه حقيقة حتى وإن لم تكن لائقة سياسياً، لا سيما وأنها لا تأتي على لسان شخص يكن البغض والكراهية لرابين، بل على العكس فقد ربطتني به صداقة شخصية وقد رأيت فيه "صابرا" إسرائيليا يجسد "شخصية فذة" وكنت معجباً به كعسكري لامع أعد وقاد الجيش الإسرائيلي في انتصار "حرب الأيام الستة" (حرب حزيران 1967)، وكرجل يمتلك عقلية تحليلية مبدعة، وذلك حتى اتفاق أوسلو، ولست أدري ما الذي جرى له في أوسلو؟!

إن التراث الحقيقي لرابين الأكثر صلة بعلاقتنا مع الفلسطينين في الماضي والحاضر على حد سواء، يتلخص في تصريحه المقتضب الذي أصاب به بدقة جوهر النزاع غير القابل للحل بين الحركه الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية، التي لن تتخلى قط عن تطلعها وجهودها الرامية الى القضاء التام على دولة إسرائيل، والذي قال فيه: "لا لقاء مع منظمة التحرير الفلسطينية إلا في ساحة المعركة".

هذا التصريح الصادق والعلني حرّره رابين في آذار 1975 في أثناء العملية ضد "المخربين" الفلسطينيين الذين تسللوا (واحتجزوا رهائن) إلى فندق "سافوي" على شواطئ تل أبيب. فهذا التصريح على الرغم من بساطته وحدته وقسوته التي تشي في الظاهر بعدم وجود أي أمل بالسلام يجسد رؤية عميقة تنفذ إلى جذور النزاع القائم بين الحركة الصهيونية و"الحركة الوطنية الفلسطينية" التي تدعي تمثيل السكان "الأصلانيين" الذين عاشوا في هذا البلد منذ القدم.

وكحال كثيرين آخرين لم أدرك في ذلك الوقت ما قصده رابين بالضبط، وملت إلى الاعتقاد بأن تصريحه هو مجرد كلام جاء في لحظة غضب. في تلك الفترة التي سرحت فيها من خدمة طويلة في شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) كنت قد تأثرت أيضاً بالأجواء التي سادت في وسائل الإعلام واعتقدت أن منظمة التحرير الفلسطينية تمثل تطلعات مشروعة لشعب مقموع يرنو إلى تحقيق مطلبه العادل في "التحرر الوطني". وقد استبعدت من تفكيري، الذي اتسم وقتئذ بسطحية تصل إلى حد التحايل والخداع، أن كفاح منظمة التحرير الفلسطينية لم يكن يهدف على الإطلاق إلى "التحرر الوطني" وإنما إلى "تحرير فلسطين" وتحرير الأراضي "المحتلة" ولم تكن منظمة التحرير الفلسطينية مختلفة من هذه الناحية عن جمال عبد الناصر وغيره من الحكام الديكتاتوريين في الشرق الأوسط. لقد عبر رابين في أقواله المقتضبة- وان كانت ردة فعله أتت بصورة تلقائية في حمأة ثورة غضب إزاء الهجوم الدموي (عملية فندق سافوي) الذي قتل فيه رهائن وجنود وضباط من مقاتلي الجيش الإسرائيلي بينهم قائدي السابق في فرقة النخبة الخاصة التابعة لهيئة الأركان العامة الكولونيل عوزي يائير - عن وجهة نظر واضحة انطوت على نظرية كاملة يمكن اعتبارها "نظرية رابين". ذلك هو حسب رأيي، التراث الحقيقي الصحيح لرابين، الذي يتعين علينا أن نتبناه ونعمل بهديه في هذا الوقت بالذات، الذي ما زالت فيه "انتفاضة الأقصى" ماثلة في ذاكرتنا وكذلك فشل اتفاقيات أوسلو وخطة "الانفصال" التي قادها أريئيل شارون، وبينما ما زالت "المشكلة الفلسطينية" مطروحة أمامنا. فضلاً عن ذلك هناك فوارق كبيرة بين تلك الفترة وبين الفترة الحالية التي تشهد من جهة انهياراً للأنظمة القديمة في الشرق الأوسط وفوضى وحروب داخلية تصرف اهتمام وأنظار العرب عن "القضية الفلسطينية"، وفشلاً وانحساراً لدور ومكانة الولايات المتحدة في المنطقة من جهة أخرى. وقد نشأ في ضوء كل هذه العوامل وضع غير معقول باتت فيه الأطراف الوحيدة المهتمة بـ "المشكلة الفلسطينية" هي الولايات المتحدة (التي تبحث عن "إنجاز" للتفاخر به) وإيران ومنظمة "القاعدة"، بينما تمارس الضغوط على اسرائيل من أجل إيجاد "حل" لهذه المشكلة.

المغزى الحقيقي لأقوال رابين

إن المغزى الحقيقي لتصريح رابين المذكور بسيط وواضح فحواه: لا مجال لوجود أو قيام كيانين سياسيين يتنافسان على السيادة في "أراض إسرائيل"، وإذا كنا ننشد الحياة والبقاء فإن من واجبنا بل يتحتم علينا أن نزيل هذه الحركة الوطنية الفلسطينية وحلمها من مسرح التاريخ، ذلك لأنه طالما بقيت هذه الحركة الانفصالية فإنها لن تتخلى أبداً عن تطلعاتها ومساعيها الرامية في أحسن الأحوال إلى إلغاء دولة اليهود، وفي أوسطها إلى طرد اليهود من هذا البلد، وفي أسوئها إلى إبادتهم جسدياً.

ذلك هو التراث المنسي والمهمل لرابين، والذي يتعين علينا العودة إلى تبنيه مجدداً، وكم هو مؤسف حقاً أن رابين أخطاْ في أواخر حياته حين تراجع وتخلى عن هذا الموقف الحازم والشجاع. فهذا الموقف ما زال موقفاً سليماً في الوقت الحالي أيضاً، إذا أن الواقع بمكوناته وعناصره الأساسية لم يتغير، كما أن المواقف الأساسية والتطلعات والأهداف الحقيقية للفلسطينيين لم تتغير ولن تتغير في المستقبل. فاليوم، بعد أن اتضح للجميع أن اتفاقيات أوسلو كانت تجربه كارثية وبعد أن تكشف غدر وخداع ياسر عرفات (مؤسس حركة "فتح" ورمز "الكفاح المسلح" لحركة التحرير الوطني الفلسطينية) بات الكثيرون يدركون أن الكيان المسمى "شعب فلسطيني" ما هو إلا خدعة تاريخية كبرى منقطعة النظير. وقد نشرت العديد من الكتب والأبحاث التي تبين بأن (الفلسطينيين) هم في غالبيتهم الساحقة خليط من المهاجرين أتوا من خارج "أرض إسرائيل" واستوطنوا فيها، وخاصة خلال القرنين الماضيين، وذلك في موازاة الاستيطان الصهيوني وكنتيجة له. مؤخراً فقط طالعت كتابا بعنوان "جولة في فلسطين" كتبه باحث هولندي يدعى هدرياني ريلاندي استناداً إلى دراسة شاملة أجراها أثناء زيارته لـ "أرض إسرائيل" في العام 1695. ويبين كتاب ريلاندي أن السكان العرب كانوا أقلية صغيرة (غالبيتها من البدو الرحل) في البلد، وأن اليهود كانوا يشكلون تجمعات كبيرة جداً في القدس والخليل وعكا وصفد وطبريا وغزة.

ويتضح من الكتاب أيضاً أن أسماء الحمائل "الفلسطينية" تعتبر مصدراً يدل على أصولها العرقية أو الجغرافية، والتي تؤكد قدومها من خارج "أرض إسرائيل" وهو ما لا ينكره أو ينفيه الفلسطينيون من أبناء هذه الحمائل.

في ضوء كل ذلك يتعين علينا العودة إلي الوصايا المهمة التي تركها إسحق رابين (لا لقاء مع منظمه التحرير الفلسطينية إلا في ساحة المعركة ) وغولدا مئير (لا يوجد شعب فلسطيني) وإسحق شامير (البحر نفس البحر، والعرب نفس العرب). ولكن على المستوى الأكثر عمقاً وجذرية يجب أن نفهم أن "الحركة الوطنية الفلسطينية" على اختلاف فصائلها ومنظماتها هي حركة "انعزالية" عربية إسلامية، ترى في "تحرير فلسطين" مرحلة انتقالية ضرورية لتحقيق الهيمنة في الشرق الأوسط.

تلك هي الحقيقة، وحسبنا أن نتأمل البرامج السياسية والأيديولوجية (لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية) ومناهج وكتب التعليم في المدارس ورياض الأطفال الفلسطينية، كي نتوصل إلى هذا الاستنتاج البديهي.

وفي هذه الأيام، وفي الوقت الذي يجري فيه وفد إسرائيلي برئاسة الوزيرة تسيبي ليفني مفاوضات مع وفد فلسطيني حول التوصل إلى تسويه سياسية، يواصل الفلسطينيون الحض والتحريض في جهازهم التعليمي ووسائل إعلامهم على كراهية وقتل اليهود. إذن عن أي سلام بالضبط يتحدثون ويقصدون؟! إنهم يقصدون في الحقيقة "خطة المراحل" التي وضعها عرفات، والذي علم وبين أنه يمكن خداع الإسرائيليين والعالم من خلال التحدث بلغه السلام والاستمرار في الوقت ذاته في "الكفاح المسلح" كما لو أن ذلك أمراً بديهياً.

وللأسباب ذاتها لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نقبل أو أن نشجع سيطرة "الحركة الوطنية الفلسطينية" على الأردن وفق ما يرغب به كثيرون في إسرائيل. فهذه الحركة ينبغي القضاء عليها والعمل من أجل زوالها من مسرح التاريخ، وكل ما تمثله من حلم وتطلعات، وذلك لأنها ستواصل، في جميع الظروف والأحوال، السعي إلى إنهاء وجود الدولة، اليهودية، فتلك هي خلاصة جوهرها وغاية وجودها.

في الوقت ذاته، وبروح التفكير والرؤية العميقين لزعماء (إسرائيليين) سابقين مثل غولدا مئير وإسحق شامير وإسحق رابين، ينبغي اعتبار مملكة الأردن "الوطن القومي" الذي يتجسد فيه "حق" الفلسطينيين في "تقرير المصير" في دولة مستقلة، هذا إذا كان لهم أصلاً مثل هذا الحق، ذلك لأن غالبية الفلسطينيين أتت أيضاً من مكان آخر (من الحجاز في شبه الجزيرة العربية).

____________________________

(*) تولى كاتب المقال في الماضي مناصب رفيعة في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وعمل في مجال الدعاية وتقديم الاستشارة السياسية، ويزاول حالياً في حياته التي يمضيها متنقلاً بين اسرائيل ولوس انجلوس في الولايات المتحدة، الكتابة في مواضيع مختلفة. المصدر: شبكة الانترنت.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, عوزي, دولة اليهود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات