المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في أعقاب قرار ليبرمان: مطالبة واسعة باستقالة المستشار القانوني للحكومة

*"في نظرة شاملة إلى كيفية تعامل المحاكم مع لوائح الاتهام المقدمة إليها ضد منتخبي الجمهور ـ من قرار التبرئة الجزئية في ملف أولمرت في تموز 2012 وحتى قرار التبرئة التامة بحق ليبرمان اليوم ـ يمكن الجزم بأنه خلافا لفترة المستشار القانوني السابق، ميني مزوز، توقفت المحاكم عن تبني نهج الادعاء العام بشأن مخالفات الفساد السلطوي، ما يشكل ضربة قاسية جدا لأذرع تطبيق القانون في الدولة. وهذا هو الضرر الأكبر والأخطر الذي يخلفه قرار تبرئة ليبرمان"!*

كتب سليم سلامة:

أثار قرار محكمة الصلح الإسرائيلية في مدينة القدس تبرئة وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، أفيغدور ليبرمان، وبالإجماع، من جميع التهم التي تضمنتها لائحة الاتهام الجنائية التي قدمتها ضده النيابة العامة للدولة، موجة عارمة من النقد الشديد واللاذع للمستشار القانوني للحكومة، يهودا فاينشتاين، رافقتها مطالبة واسعة، قضائية وصحافية وشعبية، باستخلاص استنتاجات شخصية وتقديم استقالته من منصبه، باعتبار أن ملف ليبرمان هذا شكّل "امتحان فاينشتاين الأكبر، وقد فشل فيه فشلا ذريعا"، كما قالت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في افتتاحية خصصتها للموضوع (7/11).

وكانت محكمة الصلح في القدس قد قررت، يوم 6 تشرين الثاني الجاري، وبإجماع قضاتها الثلاثة، تبرئة ساحة وزير الخارجية ليبرمان من تهمة الغش والخداع وخيانة الثقة التي وجهت له في إطار ما عرف في إسرائيل باسم "قضية السفير زئيف بن أرييه". وقد تبنى القضاة الثلاثة، في قرارهم، وبالكامل تقريبا، رواية ليبرمان نفسه حول القضية مؤكدين أن "النيابة العامة لم تفلح في إثبات الاتهامات المنسوبة إليه في لائحة الاتهام"! وذلك بالرغم عن، وإلى جانب، إقرارهم بأن "المتهم لم يتصرف بصورة مقبولة وجديرة، حقا، لكن ليس كل إخفاق هو مخالفة وليس كل خطأ في التقدير هو عمل جنائي"!

وسجل قضاة المحكمة، في حيثيات قرارهم، انتقادات عديدة وحادة لما أسموه "قصورات التحقيق"، ومنها إحجام الشرطة عن التحقيق مع عضو الكنيست فاينا كيرشنباوم، الأمينة العامة لحزب "إسرائيل بيتنا" (حزب ليبرمان)، ورفض النيابة العامة استدعاء زوجة السفير بن أرييه للإدلاء بإفادتها أمام المحكمة وكذلك امتناع النيابة العامة عن تقديم الرواية التي عرضها بن أرييه خلال فحص جهاز الكذب (بوليغراف) في أيلول 2009 ـ أي قبل شهر واحد من تعيينه سفيرا في جمهورية لاتفيا ـ باعتبارها "رواية تلقائية وأولية كان من الممكن أن يكون لها وزن جدي"، كما قال القضاة.

وأشار القضاة إلى أن بن أرييه لم يقل خلال إفادته والتحقيقات معه سوى مرة واحدة فقط أنه أبلغ ليبرمان بأن "الورقة التي سلمه إياها مصدرها مواد حصل عليها من خلال منصبه سفيرا في لاتفيا، لكنه عاد وغيّر إفادته لاحقا مدعيا بأنه التزم الصمت خلال اللقاء (مع ليبرمان) ولم يكشف عن مصدر معلوماته". واعتبر القضاة أن هذه "تشكل نقطة مركزية في الملف كله، ورغم أن النيابة العامة كانت تدرك ذلك إلا أنها اختارت عدم التحقيق مع بن أرييه بشأن التناقضات التي تضمنتها إفادته في هذا الشأن. وهو ما يمثل إهمالا فظيعا من جانب النيابة العامة"!!

ووجه القضاة نقدا حادا للنيابة العامة حيال عدم إجرائها أي تحقيق مع زوجة السفير بن أرييه، وهي التي "كان بإمكانها إلقاء الضوء على القضية"، معتبرين أن "حقيقة عدم التحقيق معها تُسَجَّل ضد النيابة العامة"!

وسجل القضاة استغرابهم من "عملية تقييم القرائن من جانب النيابة"، و"كيف لم ير رجال النيابة المصاعب التي اعترضت طريق التحقيقات وجمع القرائن ولم يحققوا مع كل الشهود؟ وكيف يمكن تفسير قرار فاينشتاين عدم إجراء تحقيق مع عضو الكنيست فاينا كيرشنباوم، التي تبين للمحكمة لاحقا أن إفادتها كان يمكن أن تشكل مفتاحا لفهم إفادة السفير بن أرييه المتغيرة والمتناقضة؟"!

وعللت "هآرتس" موقفها المذكور أعلاه، الذي يشكل لائحة اتهام خطيرة ضد النيابة العامة ورئيسها المستشار القانوني للحكومة، بالقول إن "الملف الذي قُدّم إلى المحكمة كان مقلصا جدا وأخفى، منذ البداية، الملف الكبير والحقيقي"! موضحة أن "هذه هي المرة الأولى، كما يبدو، التي يُقدَّم فيها إلى المستشار القانوني للحكومة ملفّ جاهز ومتكامل، ينطوي على أهمية قصوى وكان من شأنه تكريس معايير جماهيرية جديدة وتجسيد شارة تحذير شديدة الوضوح لأية شخصية جماهيرية. لكن الخوف استبد بالنيابة العامة حيال جبل الوثائق والأدلة فقرر رؤساؤها الاكتفاء بالفأر، بدلا من النظر في الثقب الأسود وفي ما يستتر خلفه"!

ولفتت "هآرتس"، في السياق، إلى أنه "لم تكن لائحة الاتهام وحدها هامشية وهشّة مقارنة بالشبهات المركزية، بل كان أداء ممثلي الادعاء العام في المحكمة، أيضا، هزيلا ومفتقرا إلى الثقة. فما العجب، إذن، في أن القضاة لم يقتنعوا بقوة وصلابة القرائن التي عرضت عليهم، بل بطعونات محامي الدفاع عن ليبرمان؟". ثم خلصت إلى القول: "إذا كانت هذه هي النتيجة بعد سنوات طويلة جدا ومُهدَرة من مساعي التحقيق وما رافقها من تشويش للإجراءات القضائية، فلا مفر أمام المستشار القانوني من تقديم استقالته"!

وذهبت أوساط قضائية وصحافية إسرائيلية واسعة، أيضا، إلى ما ذهبت إليه افتتاحية صحيفة "هآرتس" من أن قرار المحكمة تبرئة ليبرمان، بالإجماع، يعكس الإهمال المريب الذي ميّز عمل أذرع تطبيق القانون في إسرائيل، وفي مقدمتها النيابة العامة للدولة، في مجمل هذا الملف، بدءا من التحقيقات مرورا بإعداد لائحة الاتهام وانتهاء بتقديمها إلى المحكمة، بمتضمناتها المختلفة بما فيها لائحة شهود الادعاء.

واعتبرت هذه الأوساط أن المستشار القانوني للحكومة، فاينشتاين، قد "راهن على كل ما يملك في هذا الملف، لكنه هُزم"! وخاصة على خلفية مرافقته الشخصية والوثيقة لجميع مجريات التحقيق وجمع الإفادات في هذا الملف الذي "كان يرتجى أن يعيد الحياة إلى وجه النيابة العامة في حربها ضد الفساد السلطوي"!

وما يزيد فشل النيابة العامة، والمستشار القانوني شخصيا، في هذا الملف حدة وخطورة يتمثل في حقيقة أن المحكمة توصلت إلى قرارها تبرئة ليبرمان من خلال رفض ودحض الغالبية الساحقة من "الحقائق" التي أوردتها النيابة العامة في لائحة الاتهام وعرضتها أمام المحكمة، وليس من خلال تفسيرات قانونية قد تخضع للنقاش والجدل، وهو ما يعني أن فرص تغيير قرار الحكم هذا بواسطة تقديم استئناف عليه إلى محكمة أعلى تكاد تكون معدومة تماما، ذلك لأن العرف القضائي المتبع في إسرائيل، إجمالا، هو إحجام المحاكم التي تنظر في الاستئنافات عن التدخل في "الحقائق الموضوعية".

وتضيف الأوساط القضائية المطلعة قولها إن "هذا الملف كان يفترض أن ينتهي، بالنسبة لفاينشتاين، بلائحة اتهام مقتضبة وذكية"، لكن النتيجة التي انتهى إليها "لا تقل أذى وإيلاما عن التبرئة الجزئية التي انتهت إليها لائحة الاتهام ضد إيهود أولمرت، خاصة وأن النيابة العامة نجحت في إثبات الحقائق الأساسية حتى في البنود التي تمت تبرئة أولمرت منها، بينما أخفقت النيابة هنا في إثبات أي من الحقائق في أي من بنود الاتهام"!

ومن هنا، تصل هذه الأوساط إلى القول إن "ملف السفير انهار قبل بدء النظر فيه. ولذا، فإن قرار تبرئة ليبرمان يشكل فشلا مدويا للمستشار القانوني، أكثر من كونه تطهيرا لليبرمان واسمه. وعلى هذا، فليس في وسع فاينشتاين التنصل من المسؤولية الكاملة عن دلالات هذه الفشل وإسقاطاته على الجهاز الذي يقف هو على رأسه"!

لكن الدعوات إلى استقالة فاينشتاين الآن لا تنطلق من الفشل الأخير المتمثل في تبرئة ليبرمان فحسب، بل تستعيد إخفاقات أخرى متعاقبة مني بها هذا المستشار القانوني والنيابة العامة تحت إدارته خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في مجال محاربة الفساد السلطوي إذ انتهى الجزء الأكبر من لوائح الاتهام التي قدمتها النيابة العامة ضد وزراء ومسؤولين آخرين، سواء في الحكم المركزي أو في الحكم المحلي، بفشل النيابة وتبرئة المتهمين.

ويؤكد أحد المحللين القضائيين، في هذا السياق، أن قرار تبرئة ليبرمان يمثل "انهيار الرؤية القضائية التي اعتمدها فاينشتاين منذ تسلمه منصبه وتحطمها إلى شظايا ما يجسد فشل ولايته كلها: صفر إدانات بحق ممثلي الجمهور الذين قدم لوائح اتهام ضدهم"! مضيفا أن "قضية ليبرمان كانت، منذ بدايتها، قضية صغيرة، فصلا هامشيا في مسلسل طويل ومعقد وكثير الشبهات تدحرج إلى طاولة مستشار قانوني يفتقر إلى التجربة والخبرة في إدارة ملفات كبرى"!

وفي سياق محاولته إثبات قصور فاينشتاين وعجزه عن الاضطلاع بمهام ومسؤوليات المستشار القانوني للحكومة، بوصفه رئيس النيابة العامة والادعاء العام، أعاد هذا المحلل إلى الأذهان تصريحات فاينشتاين العنجهية والمتعالية التي قال فيها: "ليس ثمة من يستطيع أن يعلمني، بعد أربعين عاما من العمل، ما هو القضاء الجنائي... فلديّ القدرة على التشخيص ومعرفة متى يمكن أن ينتهي ملف ما بالتبرئة"!

ورأى محلل قضائي آخر أن "قرار تبرئة ليبرمان يضع المستشار القانوني للحكومة، فاينشتاين، في مأزق كبير"، مضيفا أن "النقد الذي يتعرض له فاينشتاين الآن، في أعقاب هذا القرار، يجسد النهج المأساوي الذي اعتمده هذا المستشار في قضايا عديدة، ومن بينها قضايا ليبرمان نفسه"، علما بأن ثمة ملفا آخر ضد ليبرمان كان المستشار قد قرر إغلاقه، وهو المعروف بـ "ملف الشركات الوهمية"، الذي كانت جميع الأوساط القضائية في البلاد قد وصفته بأنه "الملف الرئيس ضد هذا السياسي المشتبه بالفساد"!

ويضيف هذا المحلل قوله إنه "في نظرة شاملة إلى تعامل المحاكم مع لوائح الاتهام المقدمة إليها ضد منتخبي الجمهور ـ من قرار التبرئة الجزئية في ملف أولمرت في تموز 2012 وحتى قرار التبرئة التامة بحق ليبرمان اليوم ـ يمكن الجزم بأنه خلافا لفترة المستشار القانوني السابق، ميني مزوز، فقد توقفت المحاكم عن تبني نهج الادعاء العام بشأن مخالفات الفساد السلطوي، ما يشكل ضربة قاسية جدا لأذرع تطبيق القانون في الدولة. وهذا هو الضرر الأكبر والأخطر الذي يخلفه قرار تبرئة ليبرمان"! ومشيرا إلى أن هذا يمثل "تراجعا انتكاسيا إلى سنوات التسعينيات الأولى، حينما تكبدت النيابة العامة سلسلة طويلة من قرارات التبرئة المهينة التي أصدرتها المحاكم في أعقاب تقديم لوائح اتهام جنائية ضد منتخبي جمهور، سواء في الحكم المركزي أو المحلي"!

ومن جهتها، طالبت "الحركة من أجل جودة الحكم"، أيضا، باستقالة فاينشتاين من منصب المستشار القانوني للحكومة، في أعقاب قرار تبرئة ليبرمان، كما طالبت مراقب الدولة، يوسف شابيرا، بإجراء فحص شامل ومعمق "لأداء سلطات تطبيق القانون" على هذه الخلفية.

وأشارت الحركة، في رسالتها إلى فاينشتاين نفسه، إلى أن "أداء سلطات تطبيق القانون، التي يقف هو على رأسها، وخاصة في كل ما يتعلق بعملية اتخاذ القرارات، يثير جملة من التساؤلات الخطيرة، لا سيما عند النظر إلى الفترة الزمنية الطويلة جدا ـ نحو 11 عاما! ـ التي استغرقها التحقيق في القضية"! وهو ما يشكل "ضررا جسيما على صعيد ثقة الجمهور بجهاز تطبيق القانون، استقامته ومهنيته"!

والموقف نفسه، أيضا، صدر عن حركة "أومتس" ("مواطنون من أجل الإدارة السليمة، العدل الاجتماعي والقضائي") التي طالبت فاينشتاين بالاستقالة من منصب المستشار القانوني للحكومة، نظرا لما "يعكسه قرار التبرئة من انعدام الرؤية السليمة لدى المستشار القانوني في عملية اتخاذ القرارات القضائية"!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات