المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كشفت التقارير التفصيلية التي نشرتها وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية بشأن نتائج امتحانات "مقياس النجاعة والنماء المدرسي"، يوم الأحد (23/9)، عن صورة قاتمة جدا لأوضاع جهاز التعليم الرسمي في إسرائيل، وعن حجم الفجوات الشاسعة جدا التي تفصل بين المدارس المختلفة وتجسد مدى الاستقطاب الاقتصادي - الاجتماعي الذي يزداد اتساعا وعمقا باستمرار.

وحال نشر هذه النتائج التفصيلية، عن كل مدرسة وأخرى في إسرائيل، سارع العديد من المهتمين في مجالي التربية والتعليم إلى اعتبارها دليلا دامغا على الحالة المتردية التي انحدر إليها جهاز التربية والتعليم الرسمي في إسرائيل، ومؤكدين أنه يكشف عن السبب الحقيقي الذي وقف خلف الرفض القاطع الذي أبدته الوزارة، خلال سنوات عديدة منصرمة، لنشر هذه النتائج.

وهذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها الوزارة بنشر نتائج هذه الامتحانات بصورة تفصيلية، على الرغم من أنها تجرى في المدارس الابتدائية والإعدادية منذ ما يزيد عن عقد من الزمن. فقد اضطرت الوزارة إلى نشر هذه النتائج الآن، مرغمة، تنفيذا للقرار الذي أصدرته المحكمة العليا الإسرائيلية بهذا الصدد في الثالث والعشرين من شهر آب الماضي، استجابة لالتماس تقدمت به "الحركة من أجل حرية المعلومات".

وامتحانات "مقياس النجاعة والنماء المدرسي" هذه (والتي تُعرف باسمها المختصر - "ميتساف") تجريها وزارة التربية والتعليم سنويا، منذ أكثر من عشر سنوات، ويتم في إطارها امتحان طلاب صفوف الثاني، الخامس والثامن، في أربعة مجالات أساسية هي: اللغة الأم (العبرية أو العربية)، اللغة الإنكليزية، الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا. كما يُسأل الطلاب، أيضا، عن الأجواء التعليمية والمناخ في داخل المدرسة. وتهدف هذه الامتحانات إلى تكوين صورة حقيقية عن نقاط القوة والضعف في المؤسسة التعليمية وتزويد مديرها وطاقمها التنفيذي بمعلومات موضوعية موثوقة كي يعتمدوها في إعداد ووضع خطط مستقبلية لرفع المستوى التعليمي وتحسين الأجواء المدرسية.

المدارس... مؤسسات تربوية أم تسويقية؟

منذ أن شرعت في إجرائها في المدارس الابتدائية والإعدادية، تحرص وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية على إحاطة نتائج امتحانات "مقياس النجاعة والنماء المدرسي" التفصيلية بالسرية التامة، إذ اقتصرت ما نشرته عنها عموما على "معدلات عامة" تعبر عن مستويات الطلاب التحصيلية على مستوى الدولة عامة، دونما تفاصيل عن النتائج التي تحققت في المدارس بصورة فردية، كل منها على حدة.

ويثير هذا الوضع من التكتم جدلا حادا ومتواصلا في الأوساط التربوية والتعليمية في إسرائيل، يتجدد كل عام مع نشر النتائج العامة لهذه الامتحانات، بين مؤيد لسياسة الوزارة في هذا المجال وبين معارض لها وداع إلى نشر النتائج على الملأ. وقد وصل هذا الجدل إلى منعطف تمثل في المبادرة التي تولتها "الحركة من أجل حرية المعلومات" بتقديم التماس إلى محكمة الشؤون الإدارية في تل أبيب مدّعية بأن عدم نشر النتائج التفصيلية لهذه الامتحانات يشكل مسّا بحرية الحصول على المعلومات ومطالبة إياها بإصدار أمر قضائي يلزم وزارة التربية والتعليم بنشر نتائج تفصيلية.

وحيال ذلك، قامت الوزارة بتشكيل لجنة خاصة للبحث في هذا الموضوع وإعداد ردّ شافٍ للمحكمة كان مؤداه: إن الكشف عن هذه النتائج سيكبد جهاز التربية والتعليم أضرارا جسيمة ستكون لها عواقب تدميرية. وفي قرارها بشأن الالتماس، تبنت محكمة الشؤون الإدارية موقف الوزارة (ولجنتها) هذا وردّت الالتماس. لكن "الحركة من أجل حرية المعلومات" قدمت استئنافا على هذا القرار إلى المحكمة العليا فقلبته هذه رأسا على عقب وأصدرت، يوم 23/8، أمرا واضحا لوزارة التربية والتعليم بنشر النتائج التفصيلية لامتحانات "مقياس النجاعة والنماء المدرسي" خلال فترة لا تزيد عن شهر واحد.

ويستفاد من التقييم الذي وضعته اللجنة المذكورة، كما عرضته على المحكمة العليا، أن الوزارة تؤسس رفضها، رسميا، على تخوف كبير من أن نشر هذه المعطيات بصورة تفصيلية سيؤدي، بالضرورة، إلى تشويش عمل الجهاز التعليمي وإعاقة أدائه، مثلما حصل في كل من الولايات المتحدة، بريطانيا والنرويج. وهي الإسقاطات التي شكلت رادعا أمام دول أخرى عن الحذو حذوها. ولفتت الوزارة (استنادا إلى ما خلصت إليه تلك اللجنة الخاصة) إلى أن نشر النتائج التفصيلية سيضع المدارس أمام "تحديات خارجية" تجعل اهتمامها الأساس ينصبّ على السعي المحموم إلى تحقيق أعلى وأفضل ما أمكن من نتائج في هذه الامتحانات و"بأي ثمن"، مما سيخلق تنافسا غير منصف بين المدارس دون أن يعود عليها بفوائد حقيقية. ذلك أن "التنافس هنا سيؤدي إلى تصنيف العديد من المدارس على أنها ضعيفة ومتدنية المستوى، ما سيدفع الأهالي والطلاب إلى هجر هذه المدارس والانتقال إلى أخرى أقوى وأفضل منها مستوى. وكذلك سيفعل المعلمون الجيدون".

وزادت الوزارة، في ردّها أمام المحكمة، بأن هذا التنافس، بل الصراع، الذي سينشأ بين المدارس حيال معرفتها بأن نتائج هذه الامتحانات ستنشر على الملأ تفصيليا، قد يقود إلى محاولات للتأثير على النتائج بأساليب وطرق مختلفة، يمكن أن تصل حد ارتكاب مخالفات جدية وخطيرة، أخلاقية كانت أم جنائية. ونمذجت الوزارة على هذه المخالفات بـ: عدم المحافظة على نزاهة الامتحانات، إبعاد الطلاب الضعفاء ومنعهم من المشاركة، بما في ذلك بواسطة تصنيفهم على أنهم يعانون من مشاكل العسر التعليمي ثم توجيههم ونقلهم إلى صفوف للتعليم الخاص، اختيار إدارات بعض المدارس زيادة الموارد المخصصة لطبقات الصفوف المشاركة في هذه الامتحانات، سعيا وراء تحقيق المكاسب الفورية، على حساب طبقات الصفوف الأخرى التي قد تكون أشد حاجة إلى تلك الموارد.

وفي المحصلة، رفضت المحكمة العليا جميع الحجج التي ساقتها وزارة التربية التعليم لتبرير نهج التكتم على النتائج التفصيلية لهذه الامتحانات، كما رفضت محاولات الوزارة الترويعية التي وصفتها المحكمة بأنها "نبوءات غضب وتحذيرات من انهيار جهاز التعليم"، مشددة على أن "سيناريوهات الرعب هي طريقة لا يمكن تقبّلها في نظام ديمقراطي". وأكدت المحكمة أنه "ليست هنالك أية أدلة تثبت أن نشر نتائج هذه الامتحانات سيؤدي، حقا، إلى بروز ظواهر سلبية. وعلى أية حال، فإن من وظيفة وزارة التربية والتعليم تشديد الرقابة ومعالجة الظواهر السلبية الناشئة، تبعا للحاجة". وأكدت المحكمة العليا أن "الرقابة الجماهيرية هي أمر جدير ومحبذ" وأنه "لا ينبغي إخفاء نتائج الامتحانات، بل يتعين تداولها بصورة علنية وحكيمة تعود بالفائدة المرجوة على الطلاب والمدارس".

وكما كان متوقعا، فقد أثار قرار المحكمة العليا هذا ردود فعل متباينة لدى الأوساط المعنية المختلفة. ففيما عبرت "الحركة من أجل حرية المعلومات"، على لسان مديرتها العامة ألونا فينوغراد، عن سعادتها بهذا القرار واعتبرت أنه "آن الأوان لتفهم السلطات المختصة أنها لا تصنع معروفا بنشرها نتائج الامتحانات، بل هذا واجبها القانوني"، اعتبرت وزارة التربية والتعليم أن نشر النتائج التفصيلية سيؤدي إلى "اتساع الفجوات التعليمية بين الأغنياء والفقراء، وإلى هجرة المعلمين الأكفاء من المدارس الضعيفة وإلى اتساع ظواهر الغش في الامتحانات". وقالت المديرة العامة للوزارة، داليت شتاوبر، إن "الوزارة معنية بالشفافية وقد درجت على نشر نتائج هذه الامتحانات على المستوى القطري وعلى مستوى البلدات والمدن، بما في ذلك الإشارة إلى الفجوات القائمة. أما نشر النتائج على مستوى المدارس فمن شأنه أن يسبب أضرارا جسيمة".

وقال أحد مدراء المدارس: "الحقيقة المرة هي أن المدارس في إسرائيل قد هجرت، منذ زمن بعيد، عالم التعليم والتربية على القيم وانتقلت إلى عالم التسويق والترويج. فبدلا من التركيز على الجوهر التعليمي ـ التربوي، تنشغل المدارس بالمظاهر والترويج لمسارات مستحدثة وتصبّ جل اهتمامها على الوسائل التي تجعلها جذابة في أعين الطلاب. والقرار الذي أصدرته المحكمة العليا سيعمق ويعزز هذه الحملات التسويقية، وبدلا من الطلاب سيصبح لدى المدارس زبائن ومستهلكون".

وقالت الحقوقية لوتم بري - حزان، المحاضرة في قسم علوم القيادة والسياسة في جامعة حيفا، إنه "كان حريا بالمحكمة العليا منع نشر أية معطيات من شأنها المس، بصورة جدية، بالمساواة وبالتكامل الاجتماعي في جهاز التعليم". وأضافت أن "توسيع إمكانيات الاختيار، بتأثير نشر النتائج التفصيلية للامتحانات، سيؤدي إلى تعميق الفوارق الاجتماعية – الاقتصادية في المجتمع، إذ سيكون بمقدور العائلات الميسورة نقل أبنائها إلى المدارس التي حققت نتائج مرتفعة في هذه الامتحانات، حتى لو كانت بعيدة وتتطلب توفير سفريات خاصة ومكلفة، بينما ستضطر العائلات الفقيرة إلى الاكتفاء بالمدارس القريبة منها جغرافيا، حتى لو كانت نتائجها متدنية".

في المقابل، قال أحد خبراء التربية إن هذا القرار سيحفز الأهالي على مطالبة رؤساء السلطات المحلية والوزارة بتخصيص موارد إضافية للجهاز التعليمي وبمعالجة المشكلات القائمة بصورة فورية. وقالت مديرة إحدى المدارس إن "المنافسة هي أمر صحيّ" وإنه "إذا كان الملك عاريا، فيتعين إيجاد ملابس جديدة له، بدلا من إخفائه والتستر عليه". وأضافت أن الكشف عن النتائج سيساعد في إزالة أجواء التشكيك المسيطرة لدى الأهالي وسيدفعهم إلى التعاون والعمل المشترك مع المدارس لتحسين الأوضاع وخدمة مصالح الطلاب".

النتائج تجسد الفجوات الاقتصادية ـ

الاجتماعية وتزيد في تعميقها

وتوفر النتائج التفصيلية التي نشرتها الوزارة معطيات حول تحصيلات الطلاب في أية مدرسة من المدارس الابتدائية أو الإعدادية في إسرائيل، مما يتيح المقارنة بينها وبين المدارس الأخرى، وخصوصا على خلفية المستوى الاقتصادي ـ الاجتماعي لدى الشريحة السكانية التي تخدمها المدرسة المعنية. ويشمل أحد فصول التقرير التفصيلي معطيات حول الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، بينما يعرض فصل آخر منه، وللمرة الأولى، تحصيلات الطلاب في سنوات سابقة، مما يتيح المقارنة وكشف التغيرات التي حصلت في مستوى هذه التحصيلات خلال السنوات الأخيرة، سلبية كانت أم إيجابية.

وتكشف النتائج عن فوارق شاسعة جدا، تثير قلقا بالغا، بين مستويات الطلاب في المدارس المختلفة، تبعا لموقعها – في مركز البلاد أم في الأطراف، في المدن والبلدات اليهودية أم في البلدات والقرى العربية. فعلى سبيل المثال، بلغ متوسط العلامات في موضوع الرياضيات لدى طلاب صفوف الثامن في مدينة رعنانا 573، وهو أعلى بكثير من متوسط العلامات القطري الذي بلغ 528، بينما بلغ متوسط العلامات في مدينة الطيبة العربية في المثلث 496 وفي مدينة رهط العربية في النقب 442 فقط.

أما في موضوع اللغة الإنكليزية، فكان متوسط العلامات القطري 534، بينما كان في مدينة رعنانا 567، وفي مدينة تل أبيب 550، وفي مدينة حيفا 561، وفي مدينة القدس 529، مقابل 483 في مدينة الطيبة و406 في مدينة رهط.

وفي موضوع العلوم والتكنولوجيا، بلغ متوسط العلامات القطري لطلاب صفوف الخامس 535، بينما بلغ في مدينة رعنانا 545، وفي تل أبيب 540، وفي حيفا 545، مقابل 518 في الطيبة و425 في رهط.

وبين طلاب صفوف الخامس، بلغ متوسط العلامات القطري في موضوع الرياضيات 553، بينما بلغ في مدينة رعنانا 575، وفي مدينة تل أبيب 559، وفي حيفا 561، وفي القدس 550، مقابل 502 في الطيبة و438 في رهط.

وفي موضوع اللغة الإنكليزية بلغ متوسط العلامات القطري بين طلاب صفوف الثامن 66، بينما بلغ متوسط العلامات في المدارس العربية 53 فقط.

وتعكس هذه العينة الصغيرة جدا من العلامات الحالة المتردية التي آل إليها جهاز التعليم الرسمي في إسرائيل من حيث الفجوات الكبيرة وتعمقها بين المدارس في مدن مركز البلاد والمدن ذات المستوى الاقتصادي ـ الاجتماعي المتين، وبين المدارس في البلدات الواقعة في الأطراف بعيدا عن المركز، من جهة، كما تعكس الواقع المزري الذي يعاني منه الوسط العربي في إسرائيل مقارنة بالوضع في الوسط اليهودي عامة.

وقالت مديرة إحدى المدارس الابتدائية في مركز البلاد، في توصيف هذه الحالة، إنه "ليس سرا أن المدرسة القائمة في حي غنيّ اقتصاديا وقوي اجتماعيا تجتذب المعلمين الأفضل والطلاب الأفضل، بينما المدرسة القائمة في طرف المدينة تعاني من مستوى تعليمي متدنٍ وتحصيلات الطلاب فيها تكون بالمثل، لأنها تعاني من شح في الموارد ومن إهمال مريع".

واعتبر البروفسور يوسي يونا، المحاضر في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع والباحث في معهد "فان لير" في القدس، أن الحكومات المتعاقبة في إسرائيل تتحمل المسؤولية الأساس عن تعمق الاستقطاب الاقتصادي ـ الاجتماعي، الذي تشكل نتائج هذه الامتحانات مؤشرا واضحا عليه، إذ تترسخ العلاقة المتبادلة بين مكان السكن وبين مستوى التحصيل التعليمي.

وقال إن نتائج امتحانات "مقياس النجاعة والنماء المدرسي" تشكل التجسيد العملي الحتمي للفجوات الاقتصادية ـ الاجتماعية وتعبر عن واقع انعدام المساواة في جهاز التعليم. وأضاف: "هذه النتائج تدل على أن المجتمع الإسرائيلي يتقدم، بسرعة مريبة، نحو واقع دول العالم الثالث. ولا تقتصر مأساوية هذا التطور على حرمان الأجيال الناشئة من فرص تنمية مواهبها وتطوير قدرتها على الإسهام في تنمية المجتمع ورقيّه فقط، بل تتعدى ذلك إلى المسّ الخطير بالمناعة الذاتية لدى المجتمع الإسرائيلي".

المصطلحات المستخدمة:

رعنانا, المثلث, يوسي يونا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات