المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تصعّد حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية بشتى الأدوات والتكتيكات من سياسة الملاحقة على خلفية الإختلاف.. فكل فكرة أو نشاط لا يتلاءم مع الطروحات المهوّسة التي تملأ أروقة السلطة التنفيذية تتحوّل إلى دائرة الإستهداف. بين الأدوات المعمول بها تشريع قوانين مناهضة للديمقراطية، أي استخدام ما يُفترض أنه إجراء ديمقراطي (التشريع البرلماني) لأغراض مناقضة؛ وإخراس أي صوت يخفف من النشاز الذي يضجّ ويصمّ المسامع.

آخر هذه الحلقات ترتبط بقانونين اثنين جاء تشريعهما لغايات أيديولوجية نافية للغير، بكل وضوح وصراحة. القانون الأول هو ما يُعرف بـ "قانون النكبة"، والثاني "القانون ضد المقاطعة". كلاهما جزء من ذخيرة الطرح السلطوي المهيمن لأهداف بعيدة المدى: إبعاد جميع الطروحات التي تصرّ على الحقوق الفلسطينية الوطنية عموماً، والسيادية منها على وجه الخصوص، ومحاولة (عبثيّة عدميّة) لمحو أية سردية تعارض قصة "حرب الاستقلال الأخلاقية" الصهيونية.

من بين الخطوات التي يصح وصفها بـ"المكارثية"، جاء مؤخراً استهداف منظمات تصر على قول الحقائق الواضحة والقاسية عن ممارسات الاحتلال والاستيطان الإسرائيلية. وعملا بـ "القانون ضد المقاطعة"، تسعى وزارة المالية لإلغاء الاعفاء الضريبي المتّبع عن التبرعات لمنظمة العفو الدولية – أمنستي الناشطة أممياً من أجل حقوق الانسان، علماً بأن القوانين تعفي التبرعات التي يقدمها مواطنون لمنظمات إنسانية وحقوقية من الضرائب. هذه الوزارة التي يتولاها سياسي، موشيه كحلون، يهتم بمظهر المعتدل المختلف عن السياسيين عنيفي الموقف والطرح واللغة والظهور، تقوم عملياً بالدور العقابي المباشر لتطبيق مثل هذه القوانين. فهي تقوم بالاعتداء السياسي على "مسرح يافا اليهودي- العربي" بسبب نشاطات وإنتاجات تعرض الرواية الفلسطينية.

يرتبط هذا بالحملة العلنية التي تقودها وزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميري ريغف، ضد أية مؤسسة ثقافية لا تتحدث بلغتها التحريضية، ويزداد منسوب الرعونة ويرتفع، كالمتوقع، حين يتعلق الأمر بمضامين وإنتاجات ومؤسسات فلسطينية أو تناصر الحق الفلسطيني. وتوجهت مجدداً، ضمن حملتها ضد مسرح يافا، إلى وزير المالية بطلب "فحص" مخالفة "قانون النكبة"، لأن ممثلة تدعى ساريت فينو إلعاد استخدمت علم إسرائيل خلال عرض مسرحي، بأشكال مختلفة، منها تنورة وحجاب وغطاء للرأس. بمفاهيم ريغف كان هذا "تحقيراً للعلم".

"قانون النكبة" هذا - الذي صادق عليه الكنيست في آذار 2011 - يخوّل وزير المالية بتقليص التمويل الحكومي أو الدعم للمؤسسة التي تقوم بنشاط يعارض تعريف دولة إسرائيل كدولة "يهودية وديمقراطية" أو يحيي يوم استقلال الدولة أو يوم تأسيس الدولة على أنه "يوم حزن وحداد".

"مسرح السرايا" الذي يتقاسم المقرّ مع مسرح يافا العربي - اليهودي، تعرّض لـ"حملة ريغفيّة" هو الآخر، بسبب تقديم مقطع من مسرحية "ذاكرة للنسيان" المستندة إلى مؤلف الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش الذي يحمل الاسم نفسه. هذه الوزيرة أثارت ضجة مماثلة ضد المسرح ذاته بسبب استضافته أمسية بعنوان "دفاتر السجن" وهدّدت بقطع تمويل "مسرح يافا" الذي يشارك "مسرح السرايا" استضافة الأمسية.

وفقاً للأبجديات السياسية في لغة هذه الوزيرة – وليس وحدها طبعاً في حكومة اليمين الاستيطاني، لكن ميولها الاستعراضية الإعلامية تضعها في المقدمة – سوف يؤدي عرض هذه المضامين إلى "تفاقم ظاهرة تحوّل حرية التعبير إلى تحريض وتجاوز لحدود القانون"! هكذا كتبت في رسالة الى وزارة المالية لفحص قطع التمويل عن المسرح المذكور. (المستشار القانوني لوزارة المالية مشى في ثلم الوزيرة زاعماً أن المسرح "انتهك قانون النكبة").

في أواخر آب الماضي أعلنت وزارة المالية الإسرائيلية أنها تنظر في إمكانية قطع أو تقليص الميزانية عن "مسرح يافا"، بسبب أمسية تضامن مع الشاعرة دارين طاطور من قرية الرينة الفلسطينية. الجدير بالذكر أن "مسرح السرايا" أعلن حينذاك رفضه التهديد الحكومي وقال في بيان له: "إن إصرارنا على استضافة الأمسية يأتي على الرغم من الضجة التي أثارتها فكرة الأمسية إيماناً بقيمة حريّة التعبير، التي هي ركيزة أساسية يقوم عليها المسرح وسعياً لتمثيل قضايا هموم شعبنا ومنحها المنصة التي تحتاجها".

القانون يمس بحق الفلسطينيين ويقيّد حريتهم في التعبير

يقول مركز عدالة لحقوق الأقلية العربية في اسرائيل إن "قانون النكبة" يمس بفظاظة بحقوق الفلسطينيين الذين يقومون بمنهجية "بإحياء يوم استقلال إسرائيل الرسميّ على أنه الذكرى الوطنية للحداد وينظمون نشاطات تذكارية مختلفة. ويمس القانون حق الفلسطينيين ويقيد حريتهم بالتعبير عن آرائهم وسيتسبب بضرر كبير لمؤسسات ثقافية وتربوية وسيرسخ التمييز اللاحق بالمواطنين العرب. كما سيلحق القانون ضرراً كبيراً بمبدأ المساواة وبحق المواطنين العرب بالحفاظ على تاريخهم وثقافتهم. ويحرم القانون المواطنين العرب من حقهم في إحياء ذكرى النكبة التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من تاريخهم".

قدم مركز عدالة بالتعاون مع جمعية حقوق المواطن ولجان أولياء أمور طلاب في 4 أيّار 2011، التماساً ضد القانون للمحكمة العليا، بادعاء أن القانون غير دستوري. المحكمة العليا رفضت الإلتماس في كانون الثاني 2012، بحجة "عدم نضوج القضيّة" بحيث أن القانون لم يستخدم بعد ضد أيّ مؤسسة.

كما سبقت الإشارة، "قانون النكبة" يسمح لوزير المالية بفرض الغرامات على مؤسسات، تُموّلها الدولة، كالمدارس والجامعات والسلطات المحلية، إذا ما قامت بتنظيم برامج يشار فيها إلى "يوم الاستقلال، أو يوم قيام دولة إسرائيل، كيوم حداد" أو تقوم بتنظيم نشاطات تنفي "تعريف دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية". قدم الالتماس بمشاركة كل من: رابطة خريجي الكلية العربية الأرثوذوكسية، التي تحيي نشاطات جماهيرية تربوية في حيز الكلية، منها نشاطات حول النكبة وحول تعريف إسرائيل كدولة "يهودية ديمقراطية"؛ أهالي طلاب مدرسة الجليل ثنائية اللغة في مسغاف، التي تنظم نشاطات تربوية لذكرى النكبة بموازاة يوم الاستقلال؛ والباحث الأكاديمي البروفسور أورن يفتاحئيل من جامعة بن- غوريون، الذي ينتقد في أبحاثه الأكاديمية تعريف الدولة الحالي "كدولة يهودية وديمقراطية".

وفقا لهذا الإلتماس، فإن قانون النكبة ينضم إلى سلسلة القوانين العنصريّة من إنتاج وإخراج الدورة الحاليّة للكنيست. وأخطر ما في القانون هو "نصه الضبابي"، الذي قد يمكّن من فرض الغرامات على المؤسسة في حال تنظيمها لنشاط تذكر فيه نكبة الشعب الفلسطيني ليس فقط في ما تعتبره دولة إسرائيل كـ"يوم استقلالها" وإنما طيلة أيام السنة. كما يفرض القانون غرامات على المؤسسة التي تنتقد تعريف دولة إسرائيل "كدولة يهودية وديمقراطية" دون تحديد معايير واضحة لنوعية النشاطات التي تستوجب غرامات، الأمر الذي يبقي الباب مفتوحا أمام وزير المالية لمعاقبة المؤسسات وفقاً لاعتبارات سياسية.

القانون ينتهك مجموعة من الحقوق الدستورية، وعلى رأسها حريّة التعبير السياسي والفني، والحقّ في المساواة، والحقّ في التربية، وفي حرية العمل، والحريّة الأكاديمية. ويتوقع أن يمسّ القانون على نحو خاص حقوق المواطنين العرب الأساسيّة؛ وتشكّل الصيغة الفضفاضة والضبابيّة للقانون مصدرا للقلق حول المساس بميزانيات الكثير من المؤسسات العامة، نحو المراكز ثقافية، والمراكز تربوية والسلطات المحلية في مختلف أنحاء البلاد. وأضاف الملتمسون أن تكليف وزير المالية باتخاذ القرار حول ما إذا سيجري تغريم المؤسسات العامة وكيفية ذلك، سيؤدي بالضرورة إلى التمييز في تطبيق القانون، الأمر الذي سيعزّز من ملاحقة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.

القمع على خلفية النكبة يتسرّب إلى الجامعات

إذا كانت الحكومة التي تقوم على أعمدة الاحتلال والاستيطان ونفي الوجود السياسي للفلسطيني كمشروع رئيسي تعتمد الملاحقات السياسية أداة لتكريس هيمنتها، فمن الأكثر إثارة للقلق أن تقدم مؤسسات أكاديمية إسرائيلية على وضع حدود وقيود أمام نشاطات متعلقة بحرية التعبير والتفكير لأنها تضع النكبة في مركز النقاش والضوء. ففي أيار 2012، قررت جامعة حيفا إلغاء نشاط فني- سياسي لإحياء ذكرى النكبة بمبادرة الجبهة الطلابية في الجامعة. وعلى الرغم من أن إدارة الجامعة صادقت على إقامة النشاط قبل يومين من موعده، فما لبثت أن بدأت بوضع قيود وعراقيل أمام تنفيذه، وشمل هذا منع الطلاب من توزيع منشورات تتضمن كلمة "نكبة". وتحت ضغوط سياسية خارجية من جهة وزير التعليم في حينه، جدعون ساعر، رضخت الجامعة وتم سحب التصريح لإقامة البرنامج.

مركز عدالة وجمعية حقوق المواطن كتبا في رسالة إلى إدارة الجامعة أن إقامة النشاط لإحياء ذكرى النكبة هو جزء من حرية التعبير السياسي وحق دستوري. بينما إلغاء البرنامج أو حتى تأجيله لموعد آخر، يُفرغ هذا الحق من مضمونه وبالتالي يمس بحرية التعبير للمنظمين وللطلاب المشاركين فيه. وطالبت المؤسستان الجامعة بالمصادقة على إجراء البرنامج مجدداً دون أي تأجيل. الوزير المذكور كان قد تدخل أيضاً في
بعض المؤسسات الأكاديمية فتفننت في اختلاق أساليب غير مباشرة، واشترطت إقامة النشاطات السياسية التي يبادر إليها الطلاب العرب بدفع تكاليف تنظيم وحراسة نشاطات موضوعها النكبة. مثلا: اشترطت جامعة تل أبيب المصادقة على إقامة نشاط لإحياء ذكرى النكبة بدفع تكاليف الحراسة التي تبلغ 970 شيكل. وصرّحت إدارة جامعة تل أبيب أن طلب دفع تكاليف الحراسة ينبع من تعليمات "قانون النكبة"، لكونه يحظر على المؤسسات التي تحظى بدعم حكومي تمويل نشاط يهدف إلى إحياء ذكرى النكبة.

إمعاناً في الضغط على الجامعات، بادر حزب "إسرائيل بيتنا" في أيار من العام الجاري الى مشروع قانون يجيز فرض عقوبات صارمة على المؤسسات الأكاديمية الاسرائيلية، التي تجيز وتسمح للطلاب بإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، أو أي فعاليات من شأنها المس "برموز اسرائيل". ويستهدف المقترح إدخال تعديلات على نصوص العقوبات المشمولة في قانون النكبة الذي شرع في العام 2011. وبموجب المقترح، سيمنح رئيس مجلس التعليم العالي في إسرائيل صلاحيات لفرض عقوبات أكثر صرامة على الجامعات والكليات والمؤسسات الأكاديمية التي تسمح وتجيز للطلاب القيام بنشاطات لإحياء ذكرى النكبة أو بالمس بالرموز اليهودية والصهيونية.

هناك العديد من النشاطات والفعاليات التي ستحظر في الحرم الجامعي، ومن ضمنها فعاليات لا تعترف بإسرائيل "كدولة يهودية وديمقراطية"، و"تناهض يوم الاستقلال وتمس بالرموز اليهودية لها"، وفق المقترح. وينص مشروع القانون على منح الصلاحيات لرئيس مجلس التعليم العالي بفرض العقوبات على الجامعات والكليات، ومنها التقليص والحرمان من الميزانيات.

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, الكنيست, يوم الاستقلال

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات