في كل مرة تُعلن فيها إسرائيل عن بدء حرب أو عملية عسكرية، يُرفق بها اسم خاص يستخدم في البيانات الرسمية والتغطيات الإعلامية، والخطابات السياسية. وبرغم أن هذه الأسماء قد تبدو غريبة للوهلة الأولى؛ إلا أنها تحمل في الواقع مضامين دينية، ورمزية، وسياسية.
بعبارة أخرى، فإن اختيار هذه المسميات لا يتم بطريقة عبثية، بل تُصاغ ضمن طواقم مختصة، بما يخدم وظيفة مزدوجة: توجيه رسالة للعدو من جهة، ورسالة للمجتمع الإسرائيلي وتهيئة الرأي العام من جهة أخرى.
في هذه المساهمة، سنستعرض الخلفية التاريخية لتسمية الحروب على المستوى العالمي، والمعايير الاستراتيجية التي توجّه عملية اختيار الأسماء. كذلك، الآلية المؤسسية التي تُدار بها هذه التسمية في إسرائيل. وسنقدّم بعض النماذج من تسميات بعض الحروب والعمليات التي شنتها إسرائيل في السنوات الأخيرة.
من الترميز الأمني إلى هندسة الوعي
يعود أصل تقليد تسمية العمليات العسكرية إلى هيئة الأركان العامة الألمانية خلال العامين الأخيرين من الحرب العالمية الأولى، حيث استُخدمت الأسماء الرمزية (code names) كأداة أساسية للحفاظ على أمن العمليات.
ويُرجّح أن ظهور هذه الممارسة ارتبط بتبلور ما عُرف لاحقاً بـ فن العمليات (Operational Art)، إذ ساعدت الأسماء المختارة – التي كانت غالباً مستوحاة من رموز دينية وأساطير كلاسيكية مثل "رئيس الملائكة" و"القديس ميخائيل" – في ترسيخ رؤية متماسكة على مستوى القيادة العسكرية الألمانية.[1]
وفي المقابل، تبنّى الجيش الأميركي ممارسة التسمية الرمزية على نطاق أوسع خلال الحرب العالمية الثانية، بدوافع أمنية مشابهة، مستنداً في ذلك إلى تقليد سابق استخدم الألوان لترميز الخطط الحربية خلال الحقبة بين الحربين.
فعلى سبيل المثال، أُطلقت تسميات"Indigo" ، "Gray"،"Black" ، على عمليات تعزيز أو احتلال في كل من آيسلندا، الأزور، والسنغال.
وفي العام 1942، شرعت شعبة خطط الحرب الأميركية في إعداد قائمة تضم عشرة آلاف كلمة مشتقة من معجم إنكليزي غير مختصر، متجنّبة استخدام الأسماء الخاصة أو الجغرافية، ومراعية التنسيق مع النظام البريطاني لتفادي التكرار أو التضارب. وقد أسفرت هذه الجهود عن إقرار فهرس الكلمات الرمزية المشترك (Inter-Services Code-Word Index)، وتم توزيع مجموعات الأسماء حسب المسارح العملياتية.
في العام 1975، انتقلت هيئة الأركان المشتركة الأميركية إلى مرحلة جديدة عبر إدماج تسمية العمليات ضمن بنية تنظيمية مؤتمتة، من خلال إنشاء نظام حاسوبي خاص أُطلق عليه اسم NICKA، وهو اختصار لعبارة Code Word, Nicknames, and Exercise Terminology System- نظام الكلمات الرمزية والأسماء المستعارة ومصطلحات التمرين.
صُمم هذا النظام لإدارة عملية تقديم الأسماء والتحقّق منها وتخزينها، من دون أن يضطلع بصلاحية التسمية نفسها، التي بقيت في يد مكوّنات وزارة الدفاع ووكالاتها وقياداتها الموحدة والمتخصصة. وعلى الرغم من هذا التقدّم التنظيمي، فإن الفترة الممتدة بين 1975 و1988 اتسمت باستخدام أسماء رمزية بلا دلالة واضحة، كما في عمليات "Eldorado Canyon" ضد ليبيا العام 1986.
غير أن نقطة التحوّل الحاسمة جاءت مع عملية " Just Cause" خلال غزو بنما العام 1989، إذ شكّلت هذه العملية بداية حقبة جديدة في تسمية العمليات العسكرية الأميركية، حيث باتت الأسماء تُنتقى بعناية فائقة بهدف توجيه إدراك الجمهور الأميركي والدولي وتوفير غطاء رمزي يُضفي على التدخل العسكري بعداً أخلاقياً أو إنسانياً، وهو ما شكّل امتداداً وظيفياً لمفهوم "الحرب الإعلامية" ضمن الاستراتيجية العسكرية الشاملة.
المعايير الاستراتيجية لتسمية الحروب
يؤكد الباحث غريغوري سيمينسكي، في دراسته المنشورة في مجلة Parameters (خريف 1995)، أن تسمية العمليات العسكرية لا تُعدّ إجراءً إدارياً تقنياً فقط، بل تعد ممارسة رمزية واتصالية ذات وظيفة استراتيجية بالغة الأهمية في توجيه الإدراك العام، وصياغة الانطباعات المحلية والدولية إزاء طبيعة التدخل العسكري وأهدافه. حيث إن اسم العملية يمكن أن يشكّل أداة لتعزيز الشرعية السياسية، ورفع الروح المعنوية للقوات، وبناء السردية المؤسسية، كما يمكن في المقابل أن يتحوّل إلى عنصر مثير للرفض أو السخرية في حال افتقاده المعنى الدلالي.[2]
خلال تحليله لعدد من الحالات التطبيقية يستخلص سيمينسكي مجموعة من المعايير الهادية لاختيار أسماء العمليات العسكرية بفعالية، وهي:
أولاً، ضرورة أن يكون الاسم ذا دلالة وظيفية تعكس جوهر المهمة بدون أن ينطوي على حكم أخلاقي مسبق.
ثانياً، أن يُوجَّه بشكل دقيق إلى جمهور محدّد سواء أكان داخلياً (الجنود، الرأي العام) أو خارجياً (الحلفاء، الخصوم).
ثالثاً، أن يتحرّر من الصيغ اللغوية النمطية التي تفقده طابعه الفريد.
وأخيراً، أن يتّسم بالإيجاز، والوضوح، والقدرة على استدعاء صورة ذهنية مميزة.
في العام 1943، وضع ونستون تشرشل قواعد مشددة لتسمية العمليات العسكرية، بعد أن أدرك استحالة إشرافه الشخصي على كل اسم. أكد تشرشل في مذكرته على ضرورة تجنّب الأسماء التي تحمل طابعاً متباهياً أو هزلياً، أو تلك التي قد تسيء لذكرى القتلى مثل "عناق الأرنب"، مطالباً باختيار أسماء مستعارة من الأساطير والكواكب وأبطال التاريخ، شرط ألا تكشف طبيعة العملية.[3]
كيف تختار إسرائيل أسماء حروبها؟
في تحقيق استقصائي نشرته صحيفة "معاريف" بتاريخ 1 تشرين الأول 2024، أشير إلى أن الجيش الإسرائيلي حرص منذ تأسيسه على منح عملياته العسكرية أسماء رمزية تتجاوز وظيفتها الإجرائية، لتصبح جزءاً من الخطاب السياسي والدعائي العام. أسماء مثل "عملية قادش" و"حارس الأسوار" باتت تحمل دلالات زمنية وأيديولوجية، وتُختار غالباً لربط الحدث العسكري بسرديات توراتية أو وطنية تعزز الشرعية وتؤسس للذاكرة الجماعية.[4]
أما من حيث الإجراءات المؤسسية، فتبيّن الصحيفة أن اختيار الأسماء لا يتم بشكل عشوائي ولا عبر أنظمة ذكاء اصطناعي كما يُشاع، بل من خلال آلية بشرية متعددة المستويات:
أولاً، يقترح الضابط الميداني اسماً أولياً ضمن أمر العمليات.
ثانياً، في العمليات الكبرى، تُحال المقترحات إلى وحدات متخصصة لدراستها.
ثالثاً، تُرفع الأسماء إلى هيئة الأركان العامة للمصادقة النهائية.
وبشكل أكثر تفصيلاً نشرت صحيفة "يسرائيل هيوم" بتاريخ 24 أيلول 2024 مقالاً في ذات الشأن، جاء فيه أن معظم الأسماء تُختار من قبل قسم المتحدث باسم الجيش، وتحديداً من قِبل خبراء الاعلام الذين يحرصون على صياغة اسم يتناسب مع احتياجات الخطاب الدعائي. وتُصاغ الأسماء بحيث تعكس غاية العملية، أو ما يُسمى بـ"نية الشاعر"، مع مراعاة تأثيرها على الطرف الأحمر (العدو) والطرف الأزرق (الجمهور الإسرائيلي).[5]
في بعض الحالات، يرتبط الاسم بالتوقيت الزمني – كعملية "الرصاص المصبوب" التي بدأت قبيل عيد الأنوار، أو يرتبط بهدف العملية أو الرمزية التي تحملها. ويقترح الخبراء عدة أسماء، ليُتخذ القرار النهائي من قبل رئيس هيئة الأركان، لا سيما في العمليات الكبرى.
أسماء الحروب: هندسة الوعي من بوابة اللغة
في دراسة تحليلية نوعية تناولت 81 اسماً لعمليات وحروب خاضها الجيش الإسرائيلي، توصلت البروفيسورة دافنا غبريئيلي - نوري إلى أن اختيار أسماء العمليات العسكرية لا يتم بشكل عشوائي، بل يستند إلى أنماط دلالية وثقافية محددة.
وأشارت إلى أن ما نسبته 38% من هذه الأسماء استُمدت من الكتاب المقدس، بينما جاءت 27% من مفردات الطبيعة والحيوانات. وباقي الأسماء تعبّر عن القوة العسكرية أو الحرب بوضوح. يندرج هذا الاختيار ضمن استراتيجية رمزية تهدف إلى "تطبيع" العمليات العسكرية وتخفيف وقعها العنيف، من خلال صبغها بمضامين تراثية أو جمالية تحجب العنف الكامن فيها.[6]
تُقسم الباحثة أهداف التسمية إلى طريقتين: الأولى سلبية، تهدف إلى التعتيم على الجوانب الوحشية للحرب – مثل القتل والدمار، وإسكات الانتقادات الأخلاقية وإخفاء التساؤلات الصعبة. مثال على ذلك اسم "ربيع الشباب"، وهو اسم لا يثير الشبهات. أما الطريقة الإيجابية فتهدف إلى تجميل العملية، وربطها بالطبيعة بدل ربطها بقرارات صناع السياسة، وإضفاء شرعية على أهدافها، كما في اسم "المطر الأول" الذي يحمل دلالة إيجابية عامة.
في حين أن أسماء العمليات في غزة تهدف غالباً إلى توصيل رسائل واضحة للرأي العام في إسرائيل وقطاع غزة، فإن أسماء العمليات العسكرية في لبنان كانت – في السابق – تبدو أقرب إلى تداعيات ذهنية حرّة للمخططين العسكريين. على سبيل المثال، سُميت جولة القتال في جنوب لبنان العام 1996 بـ"عناقيد الغضب"، وهو اسم مقتبس من رواية للكاتب الأميركي جون شتاينبيك.
كذلك، كلما كانت الحرب ذات طابع مفصلي، أصبح من الأسهل على الرأي العام أو الإعلام إطلاق اسم يعكس أحد أبرز سماتها، كما في حالة "حرب يوم الغفران" (1973). رئيس الحكومة مناحيم بيغن اقترح أن يُطلق على حرب 1967 اسم "حرب الفداء"، في حين تلقّى رئيس الوزراء ليفي أشكول مقترحات مثل "عملية السلام" و"حرب الانتصار"، إلا أن الاسم الذي استقر عليه الإعلام كان مرتبطاً بسرعة الحرب: "حرب الأيام الستة".
نماذج من تسميات الحروب وأبعادها اللغوية
تُظهر تسميات العمليات العسكرية الإسرائيلية تنوعاً دلالياً يعكس مقاصد دعائية ونفسية ومن الأمثلة على هذه المسميات[7]، على النحو الآتي:
1. قوس قزح (2004) وأمطار أولى (2005): تستمد هذه الأسماء من مفردات الطبيعة، بهدف التخفيف من وقع العمليات وإضفاء طابع غير قتالي عليها، ما يسهم في "تطبيع" العنف وتهدئة الرأي العام من خلال شعور زائف بالأمان.
2. ضربة البرق ( 2006): اسم ينتمي إلى نمط القوة والعقاب، ويُستخدم لتحفيز الجنود ورفع معنويات الجبهة الداخلية، من خلال إيحاء بالحسم والسرعة والتفوق.
3. الرصاص المصبوب (2008 -2009): يرتبط الاسم بتوقيت العملية المتزامن مع عيد الأنوار، ويُزاوج بين الإطار الزمني والرمزية العقابية، بما يعزز من مشروعيتها في الوعي الديني والشعبي.
4. الجرف الصامد (2014): يعكس هذا الاسم تحوّلاً في الخطاب، حيث يُستدعى المجتمع الإسرائيلي بكامله للتماهي مع الجيش، ويبرز البُعد الاجتماعي والتضامني للعملية من خلال دعوة مباشرة للثبات والصمود.
5. حارس الأسوار (2021): يحمل الاسم دلالات دينية- قومية، إذ يربط العملية بمسؤولية الدفاع عن القدس في "يوم القدس"، ويُسهم في تعزيز خطاب السيادة والهوية المرتبطة بالمدينة.
[1] غريغوري سيمينسكي، "تسمية العمليات العسكرية هي حرب كلمات"، منظمة الخدمات المتحدة (USO). 21 نيسان 2013. https://www.uso.org/stories/1798-naming-military-operations-is-a-war-of-words
[2] المرجع السابق.
[3] ماثيو هكمان، "كيف تحصل العمليات العسكرية على أسمائها الرمزية"، منتال فلوس، 8 أيلول 2011، https://www.mentalfloss.com/article/28711/how-military-operations-get-their-code-names
[4] إيتاي غال، "مرة واحدة وللأبد: من يبتكر أسماء عمليات الجيش الإسرائيلي؟"، معاريف، 1 تشرين الأول 2024. https://www.maariv.co.il/economy/tech/article-1136782
[5] ليلاخ شوفال. "خلافاً للأسطورة: هكذا تُختار أسماء عمليات الجيش الإسرائيلي"، يسرائيل هيوم، 24 أيلول 2024. https://www.israelhayom.co.il/news/defense/article/16500527
[6] شاحر إيلان. "من سلام الجليل إلى درع وسهم: كيف تُقرّر أسماء العمليات العسكرية". كالكاليست، 12 أيار 2023. https://www.calcalist.co.il/local_news/article/by1xop9e2
[7] RGB Strategy. كيف يُختار اسم لعملية عسكرية؟، 23 تموز/ 2014. تم التحديث في 11 أيار 2021. https://2h.ae/QnTy