المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

وسط استمرار التصعيد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي يندرج في إطار ما يسميه كثيرون محاولات حسم الصراع بالقوة العسكرية وليس عن طريق المفاوضات والاتفاقيات، برز موضوع "عنف المستوطنين" إلى واجهة الأحداث لعدة أسباب أبرزها تبنيه والدفاع الصريح عنه من قبل أوساط رسمية نافذة ومن قبل حركات سياسية تشارك في حكومة الائتلاف اليميني ما يؤشر إلى خيارات هذه الجماعات ورؤيتها لحسم الصراع، ثم تكرار وانتشار حوادث عنف المستوطنين على مساحة الأراضي المحتلة بحيث بات ينذر بأن يكون شكلا رئيسا للمواجهات ولم يعد ممكنا الادعاء بأنه مجرد حوادث فردية متفرقة، إلى جانب الاهتمام الدولي بهذا التصعيد إلى درجة بدت فيها المواقف الدولية جاهزة ومهيّأة لإدانة هذا الشكل من العنف دون تردّد.

لا شك في أن عنف المستوطنين، أو إرهابهم ضد الفلسطينيين، ليس ظاهرة جديدة في يوميات الاحتلال والصراع، ولا هو وليد مرحلة وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، بل هو كامن في جوهر سياسات الاحتلال والاستيطان التي دشنتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ويمكن العثور على عشرات الحالات النافرة التي ما تزال حاضرة بقوة في الذاكرة الفلسطينية ومن بينها مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل التي نفذها (الدكتور) باروخ غولدشتاين عضو حركة (كاخ) التي أسسها الحاخام مائر كهانا في شباط 1994. ومن نفس هذه البيئة، أي من تنظيم "كهانا حي"، أحد مشتقات حركة (كاخ)، خرج الإرهابي نتان زادة من مستوطنة تبوح المقامة على أراضي قرية زعترة، مرتكب مذبحة شفاعمرو التي قتل فيها أربعة أفراد من فلسطينيي هذه المدينة الجليلية، ومرت ذكراها الخامسة عشرة قبل أسابيع. وكذلك المستوطنون منفذو جريمة إحراق عائلة دوابشة في تموز 2015، والتي أفلت منفذوها من العقاب في إثر صفقات مع النيابة إما بسبب كونهم قُصّرا أو بذريعة انتزاع اعترافاتهم تحت الضغط والتعذيب المزعوم.

 

عنف مرتبط بتنظيمات إرهابية

يمكن النظر إلى الحالات السابقة على أنها حوادث فردية متفرقة مع أنها في الغالب اقترنت بتنظيمات موصومة بالإرهاب مثل حركة "كاخ" أو تشكيلات ميليشوية تتبنى العنف مثل "شبيبة التلال"، وجماعة "تدفيع الثمن" (تاغ محير)، وإلى جانب ذلك هناك من يرى بأن الاستيطان بحد ذاته هو عمل مخالف للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة كما نص على ذلك قرار مجلس الأمن رقم 2334 في كانون الأول 2016 الذي استرشد بدوره بفتوى محكمة العدل الدولية في لاهاي في تموز 2004 بشأن الجدار والاستيطان.

يربط كثير من المراقبين تصاعد عنف المستوطنين بالثقل الذي اكتسبه هؤلاء والثقة التي باتوا يتمتعون بها بعد صعود حكومة ائتلاف اليمين المتطرف إلى الحكم في إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو ومشاركة ممثلي تيار الصهيونية الدينية، أبرز ممثلي المستوطنين، بوزن ملحوظ ومؤثر في هذه الحكومة. ومع هذا يمكن لأي متابع ملاحظة أن حوادث العنف والإرهاب المنسوبة للمستوطنين سبقت ذلك، وهي ظلت في تصاعد إلى الدرجة التي أقلقت ممثلي الإدارة الأميركية. حيث سبق لمساعدة وزير الخارجية الأميركي فيكتوريا نولاند أن بحثت هذا الموضوع في كانون الأول 2021 في عهد حكومة نفتالي بينيت، مع وزير الأمن الداخلي آنذاك عومر بارليف. وما كاد هذا الوزير المنتمي لحزب العمل أن يذكر مصطلح "عنف المستوطنين" حتى انهالت عليه الانتقادات من داخل الحكومة ومن خارجها، حيث وبخه رئيس الحكومة بينيت بالقول إن وجود عناصر هامشية ضمن مجتمع اليهود في المناطق المحتلة يجب ألا يدفع إلى التعميم على مجتمع بأكمله. ووصفت زميلته في الحكومة أييلت شاكيد المستوطنين بأنهم "ملح الأرض" بينما اتهمه الوزير الحالي بتسلئيل سموتريتش وزعيم حزب الصهيونية المعارض حينها بأنه يشارك في حملة كاذبة ومعادية للسامية لتشويه سمعة المستوطنين،  أما بنيامين نتنياهو فاتهم الوزير بارليف بأنه يشوّه سمعة إسرائيل بدلا من الحديث عن تصاعد موجة "الإرهاب" الفلسطيني (1).

في وقت أبكر من ذلك رصدت حركة "السلام الآن"، بشكل إحصائي وملموس، ظاهرة تنامي عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين، حيث أظهرت بيانات المتابعة من العام 2012 وحتى العام 2021 والتي بلغ عددها أكثر من ألف ومئتي حالة، ازدياد عدد حالات العنف من قبل المستوطنين ضد الفلسطينيين خلال العام 2021 بمقدار مرتين ونصف المرة عن العامين اللذين سبقا، وخلصت بعد تحليل مئات البيانات والمعطيات التي جمعتها منظمة "يش دين" إلى وجود ارتباط وثيق بين ما يسمى "البؤر الاستيطانية غير القانونية" وبين عنف المستوطنين، حيث تبين أن 63% من بين 1256 حالة عنف وقعت في جوار تلك البؤر العشوائية التي استمرت في التوسع والتطور دون تدخل السلطات. وشملت تلك الحالات الاعتداءات الجسدية على الفلسطينيين، والإضرار بالممتلكات والمحاصيل الزراعية، إلى جانب الاستيلاء على الأراضي واغتصابها بالقوة.(2)

ويظهر معدو التقرير دهشتهم لعدم قيام الضحايا الفلسطينيين في معظم الحالات بتقديم شكاوى للشرطة أو الجهات الرسمية الإسرائيلية على هذه الاعتداءات، ويعزون ذلك لعدم ثقة الفلسطينيين بجدوى هذه الشكاوى، وتظهر الإحصائيات أنه في نصف حالات العنف المسجلة فقط قدمت شكاوى، وقامت الشرطة بإغلاق الغالبية الساحقة من الشكاوى، في حين قدمت لوائح اتهام في 47 واقعة فقط.

وقد سجل معدل مشابه لهذه الاعتداءات في النصف الأول من العام 2023، بحسب تقرير لهيئة تنسيق المساعدات الإنسانية في الأراضي الفلسطينية التابع للأمم المتحدة، الذي أورد أن 591 اعتداء سجلت خلال الشهور الستة الأولى من العام 2023. وفي تقرير أورده حنان غرينوود في صحيفة "يسرائيل هيوم" أشار إلى أن النصف الأول من العام 2023 شهد وقوع 680 حادث "احتكاك" مقابل 950 حادثا على امتداد العام الأسبق.

 

قفزة نوعية مع حكومة اليمين المتطرف

من المؤكد أن تشكيل حكومة نتنياهو من ائتلاف اليمين واليمين المتطرف مع الأحزاب الدينية المتزمتة شكل نقطة تحوّل نوعية في سياسات الاحتلال تجاه الأراضي المحتلة والشعب الفلسطيني بشكل عام، ولظاهرة عنف المستوطنين بشكل خاص، نظرا للمكانة التي بات يحتلها تيار الصهيونية الدينية الممثل الأبرز لجماعات المستوطنين، ثم في الحقائب الوزارية والمسؤوليات التي تسلمها ممثلو هذا التيار وعلاقتها ببرامج تعزيز الاستيطان من جهة، وقمع الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر من جهة أخرى. حيث تولى هؤلاء وزارات المالية، وموقع الوزير المسؤول عن شؤون الاستيطان والإدارة المدنية وشؤون الفلسطينيين تحت الاحتلال في وزارة الدفاع، ووزارة الأمن القومي بعد ضم الإشراف على حرس الحدود لاختصاصها وتكليف وزيرها إيتمار بن غفير بالإشراف على تأسيس الحرس الوطني، ووزارة تطوير النقب والجليل التي يمكن دون مبالغة تفسير مهمتها بأنها وزارة تهويد النقب والجليل.

كما شملت الاتفاقيات الائتلافية بين حزبي الليكود وحزبي الصهيونية الدينية، مزيدا من التفاصيل والبنود التي تهدف إلى توسيع الاستيطان وشرعنة البؤر الاستيطانية غير القانونية، وكل ما يتعلق بقضايا الأرض ومشاريع التخطيط والبناء وهدم المنازل وشؤون السكان الفلسطينيين في المناطق المصنفة (ج) بالإضافة إلى تسييس جهاز الشرطة وإخضاعه لتوجيهات وزير الأمن القومي والأولويات التي يراها هذا الوزير لعمل الشرطة.

لم تتأخر ثمار هذا التشكيل الحكومي والاتفاقيات الائتلافية، ففي الشهور الستة الأولى من عمر هذه الحكومة جرت المصادقة على مخططات لبناء 13 ألف وحدة جديدة في المستوطنات وهو رقم قياسي لم يسجل في عهد أي من الحكومات الإسرائيلية السابقة. وفي مطلع شهر شباط جرى شرعنة 9 بؤر استيطانية عشوائية من أصل 77 بؤرة طالب الوزير بن غفير بشرعنتها، ثم وقع الحدث الأبرز في نهاية الشهر وهو محرقة حوارة، التي تخللها استشهاد فلسطيني وإصابة العشرات إلى جانب إحراق عشرات البيوت والمحلات التجارية والسيارات، وقد وصفها عدد من الكتاب الإسرائيليين والعالميين بـ"ليلة البلور" (الكريستال) تشبيها لها بالمحارق التي  نفذتها الميليشيات النازية ليلة التاسع والعاشر من تشرين الثاني 1938 ضد اليهود وممتلكاتهم في مدن ألمانيا والنمسا الرئيسية وخاصة في برلين وفيينا.

 

التغني بمحرقة حوارة!

محرقة حوارة شكلت دليل إدانة دامغا ضد حكومة نتنياهو وجيشها وأذرعها الأمنية، التي راقبت على مدى ساعات استعدادات المستوطنين واتصالاتهم للهجوم على حوارة ولم تحرك ساكناً، بل إن نتنياهو لم يتدخل إلا بعد أن أكمل المستوطنون هجومهم، فدان الهجوم الذي نفذه فلسطيني قبل المحرقة وطالب المستوطنين بعدم أخذ القانون بيدهم وألا يعيقوا عمل الجيش، وعلاوة على ذلك قام بتشبيه انفلات المستوطنين وهجومهم الوحشي على حوارة بما أسماه الفوضى والتعرض لرجال الشرطة في مظاهرات تل أبيب الاحتجاجية.

كان يمكن لمحرقة حوارة أن تكون حادثة منفردة ومنقطعة في تاريخ المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية لولا التبني الرسمي لهذه المحرقة من قبل عدد من المسؤولين وأبرزهم وزير المالية ورئيس حزب الصهيونية الدينية المسؤول عن الاستيطان وعن الإدارة المدنية للاحتلال، وهو الذي دعا صراحة إلى محو قرية حوارة، واعتبر أن ما قام به المستوطنون يشكل أداة ردع فعالة للفلسطينيين الذين لم تردعهم الأساليب الأخرى. صحيح أن سموتريتش عدّل تصريحه وأعاد صياغته مرتين بعد ذلك بادعاء أنه يقصد دعوة الجيش إلى القيام بهذه المهمة بدل المستوطنين، لكن أقواله شكلت دليل عمل ومرشدا لسلوك مجموعات المستوطنين الذين مجّدوا المحرقة بأغنية ما زالت تتردد على الشبكات، وهم قاموا بتكرار نفس سناريو العدوان في عدد من القرى الفلسطينية أبرزها ترمسعيا في العشرين من حزيران 2023، وشملت هجماتهم عددا كبيرا من القرى الواقعة بين نابلس ورام الله وفي محيطهما ومنها قرى حوارة (مرة أخرى) وبورين واللبّن وعصيرة القبلية وعوريف وكفر الديك وجالود، بالإضافة إلى سلسلة متواصلة من حوادث الاعتداءات الفردية وقطع الطرق في قرى شرق رام الله وخاصة سلواد وبرقة ورمون ودير جرير والمغيّر.

في كثير من حالات الاعتداء سابقا، كان يجري تسويغ هذه الاعتداءات بأنها ممارسات فردية منعزلة وليست سلوكا منهجيا، أو نتيجة لعوامل ظرفية محددة، مثل الانفعالات وهياج الخواطر وانفلات الأعصاب، ثم يجري تمييع هذا الأحداث في الإجراءات القضائية والمحاكم من دون أن تترتب عليها أي إجراءات عملية. الاتجاه الذي بات مألوفا ومعتادا هو الدفاع الصريح عن عنف المستوطنين وتبنيه رسميا أو التقليل من شأنه وتجاهله، وقد ظهر ذلك بشكل فاقع في جريمة استشهاد الشاب الفلسطيني قصي معطان (19 عاما) من قرية برقة شرق رام الله، على يد المستوطن إليشا يارد الذي عمل مساعدا ومتحدثا رسميا باسم عضو الكنيست ليمور سون هار ميلخ من حزب "عوتسما يهوديت" وشريكه في الجريمة يحيئيل أندور، وقد أطلقت الشرطة الإسرائيلية سراحهما بعد خمسة أيام من توقيفهما، واستبدلت وصف جريمتهما من الشروع بالقتل إلى التسبب بالموت.

وزير الأمن القومي بن غفير المعروف بماضيه المدافع عن جرائم المستوطنين كمحام متخصص في هذا المجال، دافع عن القتلة بشكل صريح وطالب بإعطاء المستوطنين المعتقلين أوسمة شرف، وقال " سياستي واضحة، كل من يدافع عن نفسه من إلقاء الحجارة يجب أن يمنح وسام شرف".(3)

وسائل الإعلام الإسرائيلية المقربة من الحكومة حرصت على تصوير الأمر على أنه "مواجهات" بين قرويين فلسطينيين ورعاة إسرائيليين، من دون أن تشير إلى أن هؤلاء المستوطنين الرعاة اعتدوا على الأراضي والأملاك الخاصة بالفلسطينيين.

قوبلت جرائم المستوطنين بإدانات علنية من قبل الدبلوماسيين الغربيين في الأراضي المحتلة، مع ميل الأميركيين بشكل خاص إلى المساواة بين عنف المستوطنين والفلسطينيين، لكن الحكومة ورئيسها نتنياهو تجاهلا هذا العنف، فقد تزامن اندلاع هذا العنف مع زيارة وفد من ممثلي الحزب الديمقراطي الأميركي في الكونغرس للمنطقة، حيث سأل أعضاء الوفد نتنياهو عن موقفه من عنف المستوطنين فأغفل سؤالهم مفضلا الحديث عن أمله بالتطبيع مع السعودية!

في الأسابيع القليلة الماضية، أفردت الصحف العبرية مساحات واسعة من مقالات الرأي والتقارير الإخبارية والتحليلات لتغطية اعتداءات المستوطنين، بعضها ربط بين ما تفعله حكومة اليمين والتطرف بعموم الإسرائيليين ونظامهم السياسي من مدخل التعديلات القضائية، وبين ما تفعله الحكومة والمتطرفون بالفلسطينيين. يؤكد يوعنا غونين في مقال بجريدة "هآرتس" بتاريخ 8/8/2023 أنه لن يجري تقديم قتلة الشاب معطان إلى العدالة، تماما مثلما حصل في واقعة قتل الفلسطيني مثقال ريان في قراوة بني حسان في شباط 2023، قدم القتلة ادعاءات مماثلة بأنهم فعلوا ذلك دفاعا عن النفس. وتغض الجهات الأمنية النظر عن عنف المستوطنين الممنهج، ورأى الكاتب بأن هؤلاء القتلة يساعدون السلطات الرسمية على تحقيق هدفها وهو إبعاد الفلسطينيين والتطهير العرقي في الضفة، وبالتالي فإن المشاغبين اليهود ليسوا مجرد ذراع عسكري لحزب قوة يهودية، بل هم ذراع عسكرية لدولة إسرائيل(4).

ويرى الكاتب ناحوم بارنياع في مقال له في "يديعوت أحرونوت" بتاريخ 7/8/2023 أن مرحلة جديدة بدأت بتعيين سموتريتش، صاحب خطة الحسم، مسؤولا عن الاستيطان في الحكومة، فالأمر لم يعد مرتبطا بمجموعات من المشاغبين الذين أخطأوا، وإنما بجنود نظاميين في جيش الرب، وهؤلاء لهم أب هو بتسلئيل وأم هي الحكومة (5).

مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة بتسيلم، كان حاسما وواضحا منذ وقت طويل في النظر لعنف المستوطنين باعتباره جزءا لا يتجزأ من عنف الدولة، وقد أفرد المركز بابا خاصا على موقعه لهذا العنوان تحت مسمى عنف المستوطنين = عنف الدولة، يواكب فيه الوقائع التفصيلية لهذا العنف، وجاء فيه: ظاهريا يبدو أن ثمة مسارين هما عنف الدولة التي تسيطر على أراضي الفلسطينيين وعنف المستوطنين الذين يرغبون بالسيطرة ويستخدمون لأسباب تخصهم العنف ضد الفلسطينيين، ولكنه في الواقع مسار واحد وهو جزء من استراتيجية الأبارتهايد الإسرائيلي، وبالتالي فإن عنف المستوطنين هو جزء من سياسة حكومية، والقوات الرسمية للدولة تسمح به وتتيح تنفيذه وتشارك فيه (6).

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات