المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 2261
  • برهوم جرايسي

بادرت الحكومة الإسرائيلية قبل انتهاء دورة الكنيست الصيفية مؤخرا، إلى تشريع قانون يلغي القانون الذي يشترط تعليم المواضيع الأساسية في شبكات مدارس جمهور المتدينين المتزمتين (الحريديم)، من أجل الحصول على تمويل كامل من وزارة التربية والتعليم. وكان هذا القانون قد أقرته حكومة بنيامين نتنياهو السابقة،

التي استبعدت كتلتي الحريديم، ضمن سلسلة قوانين وإجراءات، كان الغرض منها محاولة تفكيك جمهور الحريديم المنغلق على نفسه، ودفع الرجال للانخراط في سوق العمل. فهذا الجمهور بوضعيته القائمة يشكل تهديدا اقتصاديا واجتماعيا على مستقبل إسرائيل، والمؤسسة الحاكمة تبحث طيلة الوقت في الأساليب التي من الممكن أن تفكك هذا الجمهور.

وفي الآونة الأخيرة بدأت سلسلة من التقارير تعترف بحجم الحريديم من إجمالي السكان، إذ أن كل التقديرات الرسمية السابقة كانت تقل في تقديراتها بفجوة كبيرة، بينما عددهم اليوم وفق تقديرات ترتكز على تقارير متنوعة، اكثر من 1ر1 مليون نسمة، ما يعني 5ر13% من إجمالي السكان، وقرابة 16% من إجمالي اليهود الإسرائيليين. وتعيش نسبة عالية جدا منهم، خاصة الحريديم الغربيين (الأشكناز)، في مجتمعات منغلقة على نفسها، وفي أحياء وبلدات خاصة بها.

وما يساند الاستنتاج بشأن عددهم اليوم، هو ما نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية قبل أيام، إذ قالت إنه وفق المعطيات الرسمية، فإنه في العام الدراسي 2018 من المفترض أن يكون في جهاز تعليم الحريديم، بمعنى من عمر 6 سنوات وحتى 18 عاما، 440 ألف طالب وطالبة، وهذا يعني أن عدد الذين هم دون سن 18 عاما لدى الحريديم، هو قرابة 640 ألفا بالحد الأدنى، وهؤلاء يشكلون حوالي 51% إلى 52% من إجمالي الحريديم في إسرائيل، نظرا لنسبة التكاثر العالية- 8ر3%. وهذا يعني أن عدد الحريديم الإجمالي سيتجاوز 2ر1 مليون نسمة في العام 2018.

ويعيش الحريديم في نمط حياة تقشفية قائمة على الشرائع، وغالبية الرجال منهم لا تنخرط في سوق العمل المفتوحة، إذ تقدّر نسبة المنخرطين في سوق العمل من الرجال بحوالي 40%، في الشريحة العمرية من 15 إلى 64 عاما، بينما النسبة في الجمهور الواسع تصل إلى 72%، أما بين نساء الحريديم فتصل نسبة انخراطهن في سوق العمل إلى 52%. وهذا الانقلاب في المعطيات نابع أيضا من خلفيات دينية، إذ أن الرجال يمضون أوقاتهم في معاهد دينية. ونشير أيضا إلى أن الحريديم يرفضون الخدمة العسكرية الإلزامية لشبانهم من منطلقات دينية محضة رغم مواقفهم اليمينية المتشددة، وبالأساس التيارات التي تشارك في العملية السياسية الإسرائيلية.

وينبع القلق الإسرائيلي من أمرين أساسيين بذات القدر من الأهمية: الجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي. وهذا القلق هو الدافع الأساس من وراء سلسلة من المبادرات، التي كانت في المحصلة تهدف إلى إحداث انقلاب في مجتمع الحريديم، وجعله مفتوحا على العالم. وهذا ما يدركه كبار الحاخامات الذي يعملون على صد مثل هذه المبادرات.

فمن ناحية اقتصادية ترى المؤسسة الحاكمة، ومعها مؤسسات اقتصادية رسمية وخاصة، أن جمهور الحريديم المتنامي بنسبة تكاثر 8ر3%، ليس منتجا بموجب مفاهيم اقتصاد السوق. فعدم مشاركتهم في سوق العمل والانتاج يبقيهم شريحة ضعيفة اقتصاديا تعتمد على المخصصات الاجتماعية، ما يشكل عبئا على الخزينة العامة. كذلك فإن هذه الشريحة ليست مستهلكة بموجب مفاهيم الاستهلاك العصرية، نظرا لحياتها التقشفية، وانحسار استهلاكها في الاحتياجات الاستهلاكية التي تنتجها غالبا شركات تحت اشراف شرائع الحريديم الدينية وأيضا لضعف قدرتها الشرائية. بكلمات أخرى هذا جمهور ليس منتجا وليس مستهلكا، وكلما ازدادت نسبته في المجتمع انعكس تأثيره سلبا على وتيرة النمو الاقتصادي.

ولربما أن من أقوى الدلائل على القلق الاقتصادي من الحريديم، هو أن التقارير الصحافية الأوسع التي تعالج شكل تعامل الحكم مع الحريديم، تنتشر في الصحافة الاقتصادية بالذات.

أما على الصعيد الاجتماعي، فإن تكاثر هذا الجهور من شأنه أن ينعكس سلبا على نمط الحياة العلماني في المدن الكبرى، إذ أن بعض المدن باتت تحت سطوة الحريديم، مثل "روش هعاين" عند مداخل القدس الغربية، ولاحقا مدينة أسدود. ونجحت الحكومات الإسرائيلية قبل عقدين، في إغراء الحريديم بمستوطنات خاصة بهم في الضفة الغربية المحتلة، رغم رفضهم قبل ذلك أخذ دور في الاستيطان. وحتى الآن لهم تسع مستوطنات، وهم باتوا يشكلون ثلث المستوطنين، ولكنهم يشكلون 40% من مواليد المستوطنات. وأكبر المستوطنات هي للحريديم: "بيتار عيليت" و"موديعين عيليت". وما يميز هذه المستوطنات أن غالبيتها الساحقة جدا قريبة من خط التماس بين الضفة ومناطق 1948، وبالذات في محيط القدس شمالا وشرقا وجنوبا.

وتسعى الحكومة إلى توطين الحريديم في الداخل، إلا أنه من المشكوك فيه أن ينجح المخطط كما هي حال المستوطنات في محيط القدس. وتخطط الحكومة لتوطين عشرات آلاف الحريديم في تجمعين: الأول قرب مدينة أم الفحم (المثلث) في المستوطنة الجديدة "حريش"، وثانيا بناء حي سكني لهم في مدينة نتسيرت عيليت الجاثمة على الأراضي المصادرة من مدينة الناصرة والقرى المجاورة.

وتحاول الحكومات من خلال هذا التوطين المنفصل، أن تبعد الحريديم عن المجتمعات العلمانية المفتوحة والعصرية كي لا يؤثروا على نمط الحياة مستقبلا وكي لا يفرضوا قيودهم الدينية على تلك المدن. وهذه رغبة أيضا لدى الحريديم، ليسيطروا على نمط حياتهم في مستوطنات ومدن بأكملها.

أساليب الكسر التي فشلت حاليا

في السنوات الأخيرة سعت حكومات إسرائيل إلى هدف "خفي" هو تفكيك مجتمع الحريديم وجعله ينخرط بمئات ألوفه في الحياة العامة وخاصة اقتصاديا، وذلك في ثلاث مسارات مركزية متوازية:

1- مسار تعليم المواضيع الأساسية

استهدف هذا المسار إلزام شبكات التعليم المدرسية الخاصة بتيارات وطوائف الحريديم المتعددة بتعليم المواضيع الأساسية في مدارسهم، بمعنى اللغات والرياضيات. والغرض هو انفتاح الأطفال والأجيال الناشئة على عالم المعرفة العصرية، إذ أن لهذه المدارس منهاجها الخاص، حتى في اللغة العبرية، إذ تبتعد عن اللغة العصرية، وعن أدوات التعليم العصرية، فيما تعليم اللغة الانجليزية هو في ما ندر، وبدلا منها ينتشر تعليم لغة "الييديش"، بالذات في مدارس الأشكناز، وهي لغة ابتكرها اليهود في أوروبا، خاصة ألمانيا والنمسا، تمزج بين العبرية والألمانية، مع الكثير من التلاعب بأحرف الكلام. أما الرياضيات والحساب، فإن هذه المدارس تعلم الحساب التوراتي أولا.

وتعرف المؤسسة الحاكمة أن عدم تعليم المواضيع الأساسية، ناهيك عن العلوم التي لا مكان لها اطلاقا في تلك المدارس، يقف عقبة أساسية أمام انخراط طلاب الحريديم لاحقا في معاهد التعليم العالي، وانخراطهم لاحقا في سوق العمل. وبحسب آخر احصائيات فإن نسبة الحريديم من بين إجمالي طلاب الجامعات والكليات، لا يصل إلى 2%، بينما هم يشكلون نسبة 12% من الشريحة العمرية للتعليم العالي.

وبحسب تقارير أخيرة، ففي إسرائيل حاليا قرابة 70 ألف شخص خرجوا من مجتمع الحريديم، وغالبيتهم الساحقة إلى المجتمع العلماني، والباقي إلى التيار الديني الصهيوني، الذي يبدو أكثر ليبرالية دينيا من الحريديم. كما أن 20 ألفا من هؤلاء في جيل الشباب والتعليم العالي، إلا أنهم يجدون صعوبة في مواصلة تعليمهم أو الانخراط في أماكن عمل عصرية.

وتقول صحيفة "هآرتس" في مقال لأسرة التحرير قبل أيام "إن عدم تعليم المواضيع الأساسية في المدارس الأصولية للبنين هو خطوة انتحار اقتصادي وطني. فالدولة تمول المدارس بأموالها، وهذه تربي الجيل التالي من الناس الجهلة والفقراء. وتخطئ الدولة من ناحية الواجب الاخلاقي لدولة الرفاه، في أن تضمن بأن يكون كل طفل متساويا في الحقوق، فهي بهذا تخلد استمرار تخلف إسرائيل مقارنة بالدول المتطورة. وهكذا تواصل إسرائيل التدهور من ناحية أخلاقية، اقتصادية واجتماعية. نتنياهو يعرف هذا بل ويقود هذا الميل، كالمعتاد، لغرض البقاء السياسي".

وكانت حكومة نتنياهو السابقة قد ربطت التمويل الكامل لهذه المدارس، بقدر التزامها بتعليم المواضيع الأساسية، ما خلق صداما كبيرا بين قيادة الحريديم والحكومة. وفي الأسبوع الماضي، كما ذكر أعلاه، أقر الكنيست قانونا يلغي هذا الشرط ليعيد إلى المدارس الحريدية كامل التمويل، من دون شرط تعليم المواضيع الأساسية.

2- مسار حجب مخصصات اجتماعية

قلصت حكومة نتنياهو السابقة المخصصات الاجتماعية التي تدفعها حكومات إسرائيل على مر السنين لعشرات آلاف طلاب المعاهد الدينية لدى الحريديم، وحينما نقول طلابا فهم من كل الأجيال بعد جيل التعليم المدرسي، من الشباب وحتى جيل الشيخوخة، فهؤلاء يمضون أوقاتهم في المعاهد الدينية، تحت غطاء "دراسة التوراة"، دون أن ينخرطوا في سوق العمل.

وعلى مدى السنين، بحثت المحاكم الإسرائيلية مرارا قضية التمويل الحكومي لهؤلاء "الطلاب"، ردا على التماسات أطر شعبية علمانية، وصدرت عدة قرارات تلزم حكومات إسرائيل بوقفها، إلا أن هذا كان جزئيا. وقد جاءت حكومة نتنياهو السابقة فقررت تقليص المخصصات لهؤلاء "الطلاب"، وهو ما حصل جزئيا ولفترة محدودة إبان حكومة أريئيل شارون (2003- 2005) حينما كان نتنياهو ذاته وزيرا للمالية.

وكان الهدف الضغط على رجال الحريديم للتوجه إلى سوق العمل والانخراط فيه. لكن مع تشكيل الحكومة الحالية تم إلغاء كل القرارات السابقة، وعادت المخصصات إلى مستواها السابق.

3- مسار الخدمة العسكرية

مسألة الخدمة العسكرية هي الأكثر جدلا في الشارع الإسرائيلي، وبحسب إحصائيات سنوية للجيش فإن نسبة الذين ينخرطون في جيش الاحتلال ممن يسري عليهم قانون التجنيد الالزامي، بمعنى كل اليهود، والشبان الذكور من الطائفة العربية الدرزية (بضع مئات سنويا)، بالكاد تتجاوز نسبة 70%، والغالبية الساحقة من الذين لا ينخرطون هم من الحريديم شبانا وشابات، وتحريرهم يتم بأمر عسكري دوري، وهذه النسبة آخذة بالازدياد.

ورفض الحريديم الانخراط في الجيش نابع من منطلقات دينية رغم مواقفهم السياسية اليمينية، ولكن إلى جانب هذه المنطلقات، هناك خوف لدى قادة الحريديم من أن تكون الخدمة العسكرية مدخلا للحريديم لمغادرة مجتمعهم المنغلق نحو العالم المفتوح، وبالذات العلماني، فكلما كان الانفصال بين المجتمعين أشد، حافظ الحريديم على انغلاق مجتمعاتهم.

وقد سنّت حكومة نتنياهو السابقة، بمسار تشريعي سريع نسبيا، قانونا يفرض الخدمة العسكرية على شبان الحريديم، ولكن تدريجيا حتى العالم 2020. ومسألة التدريج جاءت بالذات من نتنياهو والليكود، في محاولة للتخفيف من حدة مطلب كتلة "يوجد مستقبل" العلمانية، ومن كتلة تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، التي يسيطر عليها التيار الديني الصهيوني. وأراد نتنياهو وحزبه من التدريج، إبقاء الباب مفتوحا للتراجع عن القانون، في حال احتاج الحريديم في حكومته. وهذا بالفعل ما حصل في الحكومة الحالية، التي سارعت إلى سن قانون يلغي عمليا القانون السابق، ويعيد الإعفاء للحريديم.

وهذه القضية خلقت أجواء مشحونة تظهر لأول مرّة بهذه الحدة بين الحريديم والتيار الديني الصهيوني، إلا أن قادة التيار الديني الصهيوني استوعبوا لاحقا الأزمة، ورفضوا الدخول بمسار صدامي مع "الحريديم" ودعموا بقوة مسألة التدريج.

قبل أيام قليلة أعلن الجيش الإسرائيلي أنه نجح في الآونة الأخيرة في ضبط 4 آلاف شاب، كانوا قد أبلغوا الجيش أنهم من طلاب المعاهد الدينية التابعة للحريديم، كي يسري عليهم الاعفاء من الخدمة العسكرية، إلا أن أجهزة الرقابة ضبطتهم في صفحاتهم الاجتماعية، خاصة في شبكة الفيسبوك، بمظاهر اجتماعية علمانية كليا، ومناقضة بالمطلق لطبيعة حياة الحريديم، مثل نشر صورهم بلباس السباحة، وفي شواطئ بحر مختلطة للرجال والنساء، وحتى منهم من هم منخرطون ضمن مجموعات مثليي الجنس وغيرها من المشاهد. وأعلن الجيش أنهم سيلزمهم بالخدمة العسكرية.

تأجيل الأزمة المفترضة

بات واضحا أن الحريديم، ومن خلال ذراعهم البرلمانية، انتصروا في المعركة للحفاظ على انغلاق مجتمعاتهم. ولكن هذا لا يعني نهاية المطاف، وإذا استمر الوضع القائم في هذا المجتمع على حاله، ستتفاقم الأزمة بينهم وبين المؤسسة الحاكمة في السنوات المقبلة مع تزايد نسبتهم من بين السكان، وبشكل خاص بين اليهود الإسرائيليين.

وإذا اعتمدنا سلسلة التقارير الاقتصادية الحالية، والتوقعات المستقبلية، فإن هذا الجمهور كلما تزايد، سيزداد عبئه على الخزينة العامة، ومن ثم على الحياة العامة، وبالتالي ستعود العلاقة من جديد إلى المسار التصادمي بين الجانبين ربما في غضون عقد من الزمن أو أكثر بقليل.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات