المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يشير التلمود البابلي إلى كتبة أسفار الأنبياء الأوائل، يشوع (أو يوشع) والقضاة وصموئيل الأول والثاني والملوك الأول والثاني. ووفقا للتلمود البابلي فإن يشوع كتب سفر يشوع حتى وفاته، وأكمل كتابة هذا السفر الكاهن إليعازر ونجله الكاهن بنحاس. وكتب صموئيل سفر القضاة وسفر صموئيل حتى وفاته، وأكمله النبيان جاد ونتان. وكتب سفر الملوك النبي إرميا.

والسؤال الذي يُطرح هنا هو، كيف تمكن كتبة التلمود أن يعرفوا في القرن الخامس الميلادي هوية كتبة أسفار الأنبياء الأوائل، الذين سبقوهم بألف عام؟ والإجابة على ذلك تكمن في التراث اليهودي القديم، وتفيد بأن هذه المعلومات عبارة عن أحاديث دينية منقولة، انتقلت من جيل إلى آخر على مدار مئات السنين على ألسن سلسلة طويلة من الحاخامين وتلاميذهم، حتى تم تدوينها. ووفقا للتراث الديني اليهودي، فإن أقوال كبار حاخامي اليهود، الذين وضعوا الأحاديث الدينية المنقولة (الشفهية) بحلول القرن السادس الميلادي، الموجودة في التلمود، عبارة عن رسالة مقدسة مصدرها الله.

لكن البحث العلمي في التوراة يعرض صورة مختلفة تماما عن تلك الموجودة في التلمود. إذ يجمع الباحثون، رغم وجود خلافات صغيرة بينهم، على صيغة متطورة لنظرية وضعها الباحث الألماني في كتاب "العهد القديم"، مارتن نوت، إبان الحرب العالمية الثانية، وبموجبها أن سفر التثنية وأسفار الأنبياء الأوائل تشكل جميعها نتاجا أدبيا واحدا جرى تحريره في نهاية الفترة التي تتناولها هذه الأسفار. وأطلق نوت على هذا النتاج اسم "التاريخ التثنيوي"، وهو مصطلح متفق عليه في البحث العلمي اليوم، كما أشار إلى ذلك الكاتب والمحرر في صحيفة "هآرتس"، إيلون غلعاد، في مقال، نشره قبل أسبوعين، حول من كتب أسفار الأنبياء الأوائل.
"التاريخ التثنيوي"

يرفض باحثو التوراة الاعتقاد بأن شخصيات قصص الأنبياء الأوائل هم الذين كتبوا هذه الأسفار، لأن مضمونها يشير إلى عكس ذلك تماما. فهذه الأسفار ليست مكتوبة بضمير المتكلم، مثلما يحدث عندما يتكلم شخص ما عن تجاربه، وإنما هي مكتوبة من وجهة نظر راوٍ يعرف كافة الأحداث التي وقعت في الماضي البعيد.

إضافة إلى ذلك، فإن محاولة تقسيم أسفار الأنبياء الأوائل والقول إنه كتبها عدد من الكتبة على مدار مئات السنين، مثلما ورد في التلمود، ليست مقنعة، لأن الأسلوب واللغة في هذه الأسفار، وخاصة قصة إطارها، مشابهة لأسلوب ولغة سفر التثنية، الأمر الذي يدل على أنها كتبت بأيدي كتبة في نقطة تاريخية واحدة.

ويدل على ذلك استخدام عبارة "إلى هذا اليوم"، وهي عبارة نادرة نسبيا في باقي أسفار التوراة حيث استخدمت 13 مرة، بينما تتكرر كثيرا في كتب التاريخ التثنيوي، وتُذكر ست مرات في سفر التثنية و13 مرة في سفر يشوع و11 مرة في سفر صموئيل و13 مرة في سفر الملوك. وليس فقط أن استخدام هذه العبارة يشكل دليلا على لغة وأسلوب واحد من بين أدلة أخرى على وحدة النتاج الأدبي كله، إنما يشكل استخدامها دليلا على أن الكاتب وصف الماضي البعيد وليس حاضره هو.

كذلك فإن تكرار عبارة "إلى يومنا هذا" تشير إلى هدف الكاتب. فهو لا يروي أحداثا من الماضي من خلال الالتزام بالبحث التاريخي، وهذه ظاهرة حديثا، وإنما من أجل تمرير رسالة إلى أبناء عصره حول عالمهم.
مثال على ذلك، هو قطع قصة احتلال البلاد بقصة قصيرة حول الجواسيس الذين أرسلهم يشوع بن نون ولقائهم مع راحاب الزانية. إذ أن هذه القصة القصيرة لا تفيد القصة الكبرى، لأنه لا يجري الحديث فيها حول حصول الجواسيس على معلومات تساعد على احتلال مدينة أريحا. لماذا، إذاً، أدخل الكتبة هذه القصة القصيرة في القصة الكبرى؟ الإجابة موجودة في الآية التالية التي تنتهي بعبارة "إلى يومنا هذا": "واستحيى يشوع راحاب الزانية وبيت أبيها وكل ما لها. وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم. لأنها خبأت المُرسليْن اللذين أرسلهما يشوع لكي يتجسسا أريحا" (يشوع، الإصحاح السادس الآية 25).


ويفسر الكاتب هنا سبب بقاء الكنعانيين في أريحا رغم احتلالها على أيدي يشوع بن نون. وتسمى مثل هذه القصص التي تعدد أسباب الواقع كما هو في فترة كتابة الأمور، بعلم العلل والأسباب، أو "إتيولوجي"، والتاريخ التثنيوي مليء بها. وينتشر نوع ثانوي من القصص الإتيولوجية التي توفر تفسيرات أسطورية لإقامة مواقع وتجمعات سكنية ويرافقها شرح لأسباب تسميتها، مثلما جاء في الآية: "وكان أبشالوم قد أخذ وأقام لنفسه وهو حي النصب الذي في وادي الملك لأنه قال ليس لي ابن لأجل تذكير اسمي. ودعا النصب باسمه وهو يُدعى يد أبشالوم إلى هذا اليوم" (صموئيل الثاني، الإصحاح 18 الآية 18).


لكن ما هو "هذا اليوم" الذي تتحدث عنه هذه الأسفار، وما هي الفترة التي كُتبت فيها؟ تدل اللُقى (أي الموجودات) الأثرية، التي يعود تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد، على أن المنطقة التي تسميها التوراة "يهودا"، أي تلك الواقعة بين القدس والخليل في جنوب الضفة الغربية، كانت منطقة صغيرة ومتخلفة لدرجة أنه من الصعب إطلاق تسمية "مملكة" عليها. كذلك يدل ندرة اللُقى الأثرية من هذه الفترة والتي تشمل كتابة، على أن هذا كان مجتمعا ذا مستوى حضري منخفض جدا وعلى ما يبدو أن أشخاصا معدودين فقط فيه كانوا يعرفون الكتابة، وإذا كتبوا شيئا ما فإن هذه كانت بالأساس قصصا قصيرة جدا. ويعتبر الباحثون أن "التراث الثقافي" لهذه المنطقة انتقل بصورة شفهية بالأساس ومن خلال قصص كما حصل في مجتمعات ما قبل التحضر الأخرى.


وفي العام 722 قبل الميلاد، احتل الآشوريون "شومرون"، أو "السامرة"، عاصمة ما تصفها التوراة بـ"مملكة إسرائيل"، في القسم الشمالي من الضفة الغربية، ودمروها بالكامل. وأغرق المهاجرون من "مملكة إسرائيل" منطقة "مملكة يهودا" وجلبوا معهم "معرفة ذات قيمة كبيرة"، الأمر الذي أدى إلى ازدهار ثقافي ومادي غير مسبوق في "مملكة يهودا" في القرن السابع قبل الميلاد. وبنيت أسوار وحفرت قنوات واندمجت "يهودا" في الاقتصاد الإقليمي.

سوية مع هذا التقدم، وفقا لأساطير التوراة، جاء إلى "يهودا" كهنة – كُتّاب يتقنون القراءة والكتابة، وأخذوا يدمجون في كتاباتهم الكتابات القليلة التي كانت موجودة في "يهودا"، إلى جانب الأحاديث الدينية المنقولة (الشفهية) في كلتي "المملكتين". وبين القصص التي جرى تدوينها في بداية القرن السابع قبل الميلاد، كانت صيغة أولية لسفر القضاة، الذي اشتمل على قصص تراثية مختلفة ومتناقضة أحيانا عن أبطال أسطوريين، أي "القضاة" الذي عاشوا في فترة ما قبل "الملكية".

من قتل جوليات؟

إن معظم كتابة التاريخ التثنيوي، وفقا للرأي السائد لدى الباحثين المعاصرين، دُوّنت بأيدي أبناء وأحفاد أولئك الكتبة الذين جاؤوا من "إسرائيل" إلى "يهودا"، واندمجوا في الأخيرة، وجرى ذلك في النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد، وفي فترة "الملك ياشياهو". وكان بحوزتهم مصدران خطيان، هما "كتاب تاريخ ملوك إسرائيل" و"كتاب تاريخ ملوك يهودا"، اللذان يرجح أنهما كانا عبارة عن قائمة بأسماء "ملوك" مع تفاصيل قليلة حول سير حياتهم.

وأخذوا المعلومات من هذين المصدرين. ويبدو أن قائمة "ملوك يهودا" شملت أسماء أمهاتهم، خلافا لقائمة "ملوك إسرائيل". وتم تسجيل عدد سنوات حكم "ملك" بدقة، الأمر الذي يدل، وفقا لباحثين، على أن هذه التفاصيل كانت مدونة. لكن في مقابل ذلك، فإن سنوات حكم "الملكين" داوود وسليمان، سجلت بأرقام نمطية، ما يعني، وفقا للباحثين، أن فترتي حكمهما لم تكن مدونة في المصادر. ويرجح الباحثون أنهما شخصيتان أسطوريتان.

ويذكر كتبة أسفار الأنبياء الأوائل مصدرا آخر هو "سيفِر هَيَشار" ("سفر ياشَر)، وهو كتاب قصائد قديمة مفقود، وأخذت منه "مرثية داوود"، والآية: "فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه" (يشوع 9، 12). وليس مستبعدا أن يكون قد تم أخذ قصائد أخرى من الكتاب نفسه من دون الإشارة إلى ذلك.

إضافة إلى هذه المخطوطات، فإنه من الجائز أنه كانت بحوزة الكتبة مخطوطات أخرى تداخلت قصصها في النص التوراتي، كما كانت هناك مصادر من التراث المنقول (الشفهي)، بيد أنه واضح أن الكتبة الذين دونوا التاريخ التثنيوي استخدموا مصادر متنوعة في كتابة أسفارهم. وتوصل الباحثون إلى هذه النتيجة لأن التوراة تدمج بداخلها قصصا تراثية متنوعة، أي لأنها تحتوي على تناقضات وتغيرات في الأسلوب والأيديولوجيا. وبالإمكان إيجاد أدلة على ذلك في أسفار الأنبياء الأوائل. ومثال على ذلك، هو أن سفر صموئيل الأول يحافظ على ثلاث قصص مختلفة تماما حول تنصيب شاؤول.

ومثال آخر هو قتل جوليات. فتارة يقتله داوود (صموئيل الأول 17، 50) وتارة أخرى يقتله إلحنان بن يعري (صموئيل الثاني 21، 19). ويتبين من تحليل الأسفار أن الكتبة أخذوا قصصا من قصص تراثية مختلفة، وربطوها سوية بغلاف كتاباتهم التي شملت مقاطع نثرية، خاتمات، تفسيرات وملاحظات، وخصوصا في بداية الأسفار ونهايتها وأيضا في المقاطع التي تربط بين القصص المتنوعة. ويمكن من تحليل هذه النصوص التعرف على الأيديولوجيا التي حاول الكتبة دفعها.

ويدور الحديث هنا عن تاريخ يبدأ بعهد بين الرب و"بني إسرائيل" في سيناء، والذي يلزم الشعب بعبادة الرب وحده وفي معبد واحد فقط. بعد ذلك "احتلال" البلاد، الذي يشمل سلسلة طويلة من خروقات العهد من جانب "بني إسرائيل" ثم التوبة. كذلك يشمل هذا التاريخ عهدا آخر بين الرب وبيت داوود، ثم سلسلة من خروقات العهد من جانب "الملوك"، وفي النهاية صعود ياشياهو إلى الحكم، واكتشافه للعهد المفقود وينفذ إصلاحات لكي يطبق "شعب إسرائيل" عهده القديم.

لدى قراءة التاريخ التثنيوي قراءة نقدية، بالإمكان فهم الأهداف التي كُتب من أجلها. فهذه محاولة من جانب "الملك" ياشياهو، الذي حكم "يهودا" في النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد، ومن جانب كتبته لوضع أيديولوجيا تكون في مركز "إمبراطورية" مركزية واحدة. ويرى الباحثون، أنه بالإمكان النظر إلى الادعاء بأن "إسرائيل" و"يهودا" كانتا مرة "مملكة" واحدة موحدة تحت حكم آباء ياشياهو، أي داوود وسليمان، هو دعاية ملكية من أجل تبرير توسع إقليمي لـ"مملكة يهودا" من الحيز الضيق في الجبال والسهل الساحلي باتجاه المروج والتلال الخصبة التي كانت سابقا تحت سيطرة "مملكة إسرائيل". وواضح أن العهد بين الرب وداوود، وأيضا "الوعد الإلهي" بإعطاء البلاد إلى "بني إسرائيل" يدفع هدفا كهذا.

وبحسب باحثين، فإن الهدف الثاني هو وقف عبادة الأوثان في المعابد المنتشرة في أنحاء البلاد وتركيزها في معبد في القدس، وهو "إصلاح" أجراه ياشياهو في العام 622 قبل الميلاد، بموجب "كتاب التشريع"، الذي تحدث عنه سفر التثنية، و"الموجود" في المعبد في تلك الفترة.
والتاريخ التثنيوي مليء بكوارث وهزائم مني بها "شعب إسرائيل" عندما عبد آلهة أخرى ثم تاب تحت قيادة زعماء مخلصين للرب. والاستنتاج المطلوب من ذلك هو أن التعاون مع "إصلاحات" ياشياهو سيقود إلى نجاحات بينما عدم تطبيق العهد بين الرب و"بني إسرائيل" سيؤدي إلى كوارث.

نهاية العناية الإلهية

الاعتقاد السائد هو أن الكتبة الذين دونوا التاريخ التثنيوي كانوا يؤمنون به، لكن التاريخ صفعهم. إذ أنه على الرغم من أن ياشياهو كان ملكا قويا وعبد الله بإخلاص ("ولم يكن قبله ملك مثله قد رجع إلى الرب بكل قلبه وكل نفسه وكل قوته حسب كل شريعة موسى وبعده لم يقم مثله" – الملوك الثاني، 23، 25)، إلا أن حكمه انتهى بكارثة. ففي العام 609 قبل الميلاد قاد ملك مصر ماخاو الثاني جيشه في معركة ضد البابليين. وياشياهو الذي كان حليفا للبابليين، حاول إيقاف زحف الجيش المصري عندما قطع مرج بن عامر بالقرب من مجيدو، معتقدا أنه يحظى بعناية إلهية. ووفقا لسفر أخبار الأيام الثاني، فإن ماخاو أرسل رسلا إلى ياشياهو ليقولوا له باسم الملك المصري "ما لي ولك يا ملك يهوذا. لست عليك أنت اليوم ولكن على بيت حربي والله أمر بإسراعي. فكف عن الله الذي معي فلا يهلكك" (الإصحاح 35، الآية 21). لكن ياشياهو لم يتراجع ومات في ميدان القتال.

ولم يتحسن وضع "مملكة يهودا" في أعقاب موت ياشياهو، ودمرها البابليون ودمروا معها التاريخ التثنيوي. وأكمل كاتب أو مجموعة كتبة، في بابل، المهمة ودونوا بإيجاز الأحداث التي وقعت بعد موت ياشياهو. وحاول هذا الكاتب، أو الكتبة، إنهاء السفر بنوع من التفاؤل، إذ ينتهي التاريخ التثنيوي بتحرير حفيد ياشياهو، يهوياكين، من السجن البابلي وحصوله على احترام ملوكي: "رفع أويل مرودخ ملك بابل في سنة تملكه رأس يهوياكين ملك يهوذا من السجن. وكلمه بخبر وجعل كرسيه فوق كراسي الملوك الذين معه في بابل" (الملوك الثاني، 25، 27-28).

تحرير يهوياكين من السجن مؤرخ بالعام 561 قبل الميلاد، ما يدل على أن تحرير هذا الجزء من السفر تم تنفيذه في هذا العام أو بعده بفترة قصيرة. وبالعودة من سبي بابل عاد التاريخ التثنيوي إلى البلاد، وتحول إلى جزء من الكتابات المقدسة اليهودية. وكباقي الكتب المقدسة اليهودية، وجد الباحثون في أسفار التاريخ التثنيوي تغييرات طرأت على نصوصه لاحقا، وهي تغييرات أدخلت بصورة متعمدة وأخرى وُضعت في النص خطأ، لكن تم الحفاظ على معظم النص القديم كما هو، وهو النص الموجود في كتب التوراة اليوم.

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات