المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بعد أن انقشعت سحب الغبار التي أثارتها حرب الـ 33 يوماً، التي خاضتها إسرائيل ضد "حزب الله"، أخذت تنجلي شيئاً فشيئاً نتائج هذه الحرب.

والحقيقة البادية للعيان هي أن منظمة "حزب الله" تمتنع عن شنّ هجمات "إرهابية" ضد قوات الجيش الإسرائيلي المنتشرة حتى الآن في جنوب لبنان، وذلك حتى لا تعطي إسرائيل ذريعة لخرق اتفاق وقف إطلاق النار. يبدو إذن أن منظمة "حزب الله" تحتاج لوقف إطلاق النار أكثر من إسرائيل، علماً أن الأخيرة بحاجة ماسة جداً، كما نعلم جميعاً، لمثل هذا الاتفاق.

من الصعب، وربما حتى من المستحيل، تحقيق حسم عسكري في حرب ضد منظمة تعتمد أسلوب "حرب العصابات" من طراز منظمة حزب الله، وبالتالي من الصعب تحقيق انتصار جليّ وواضح. ومن ناحية مثل هذه المنظمة، فإن حقيقة صمودها أمام هجوم جيش متقدم وجبّار كالجيش الإسرائيلي، تُعد في حد ذاتها بمثابة إنجاز إن لم نقل نصرًا.

من هنا نجد أن "حزب الله" يلوّح، محقاً من وجهة نظره، بإنجازاته العسكرية في مواجهة إسرائيل، وأهمها نجاح مقاتلي الحزب في مواصلة إمطار مدن وبلدات الشمال وصولاً إلى حيفا بزخات من الصواريخ حتى آخر يوم من أيام الحرب. بالإضافة إلى ذلك فقد نجح مقاتلو الحزب، خلال المعارك البرية التي دارت في منطقة الشريط الحدودي، في تكبيد قوات الجيش الإسرائيلي خسائر جسيمة، ومنع تقدم القوات الإسرائيلية داخل أراضي الجنوب اللبناني، حسبما صرّح متحدثون باسم المنظمة.

غير أن هذه الإنجازات لا تستطيع إخفاء حقيقة أن "حزب الله" تلقى ضربة قاسية من ناحية إستراتيجية. في الواقع من المألوف لدينا فهم وتحليل حسن نصر الله من خلال نظرة ضيقة له كزعيم لـ "ميليشيا إرهابية" تضم بضعة آلاف من المقاتلين المسلحين بأكثر من 15 ألف صاروخ. إن من يتفحص وضع نصر الله عبر هذا المنظور الضيق يمكن أن يتوصل إلى استنتاج مؤداه: طالما أن نصر الله استمر في إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل حتى آخر يوم في الحرب فإنه يمكن اعتباره منتصراً في هذه الجولة. لكن نصر الله ليس مجرد زعيم ميليشيا مسلحة، وهو شخصياً لا ينظر إلى منظمته بهذه الطريقة أو الصورة، ومن ناحية عملية فقد كان "مشروع حياته" منذ تعيينه زعيماً للمنظمة سنة 1992 تحويلها (أي منظمة "حزب الله") إلى شيء مختلف تماماً. وبالفعل فقد كان نصر الله لغاية اليوم الذي وقعت فيه عملية اختطاف الجنديين الإسرائيليين، زعيماً لحزب سياسي واجتماعي ضارب الجذور في العمومية الشيعية في لبنان. حزب له وزير في الحكومة و 14 نائباً في البرلمان وأكثر من أربعة آلاف عضو في المجالس المحلية، البلدية والقروية في أنحاء الدولة اللبنانية، وشبكة تعليم تشمل عشرات المدارس التي يتلقى تعليمه فيها أكثر من 155 ألف طالب، وجهاز صحي يضم عشرات المشافي والعيادات التي تقدم العلاج لنحو نصف مليون نسمة في السنة، فضلاً عن سلسلة من المصارف وشبكات التسويق وصناديق التقاعد وشركات التأمين. وكان نصر الله يعول كثيراً على هذه الإنجازات في الوصول بعيداً، وربما حتى بسط سيطرة ونفوذ الحزب على لبنان بأكمله. فهذه الإنجازات منحت المنظمة وزعيمها الثقة المطلوبة للشروع بنضال واسع يهدف إلى تغيير الواقع اللبناني وصولاً إلى سيطرة المنظمة على لبنان عن طريق الانتخابات الديمقراطية. وفي المحصلة فإن أبناء الطائفة الشيعية الذين يؤيدون في غالبيتهم الساحقة "حزب الله"، يشكلون حالياً قرابة نصف سكان لبنان لكن تمثيلهم في مجلس النواب لا يتعدى الربع فقط (25%) وذلك نتيجة لأسلوب الحكم الطائفي المتبع في لبنان.

في الحرب الأخيرة ألحقت إسرائيل ضرراً شديداً بـ "مشروع حياة" حسن نصر الله، وبإمكان من شاهد صور الدمار والخراب في لبنان أن يدرك إلى أي حد تعتبر هذه النتائج (مشاهد الدمار) قاسية ومضرة بالنسبة لمشروعه المذكور. فالضربة التي تلقتها منظمة "حزب الله"، والتي نجح نصر الله في تحويلها إلى إمبراطورية سياسية واقتصادية واجتماعية، أعادته (أي نصر الله) إلى النقطة التي بدأ منها مشواره قبل أكثر من خمسة عشر عاماً.

صحيح أن نصر الله يحظى بتأييد شعبي واسع في العالم العربي، لكن الذين يرون فيه بطلاً هم نفس الذين رأوا في صدام حسين المنتصر في حرب الخليج الأولى وربما حتى الثانية. وهم أيضاً نفس الذين يصفقون لأسامة بن لادن بعد كل عملية إرهابية تنفذها منظمته. هؤلاء هم المضطهدون والمحرومون في العالم العربي الذين يتحمسون لأي ضربة أو أذى يلحق بمن يعتبرونهم مسؤولين عن معاناتهم وعذابهم. لكن تأييد هؤلاء لا يمكن التعويل عليه، ومن الصعب بشكل خاص ترجمته إلى أفعال ملموسة.

من هنا فإن حسن نصر الله يحتاج إلى وقت، وبالأساس يحتاج إلى هدوء من أجل إعادة ترميم مشروعه، وقبل كل شيء إعادة ترميم البنية التحتية المدنية لمنظمته. إن حقيقة كونه ما زال منزوياً في خندقه المحصن، خشية على حياته، ستضر بشدة بقدرته على التقاط أنفاسه واستجماع قواه لإعادة منظمته إلى مكانتها السابقة في لبنان.

لقد كان ظهوره العلني وسط الجماهير بمثابة الأوكسجين الضروري والرئة الرئيسية التي يتنفس منها، لكن هذه الرئة تعطلت الآن في ضوء تهديدات حكومة إسرائيل باستهدافه إذا خرج من مخبأه. غير أن الشيعة في لبنان سيتحولون خلال سنوات قليلة إلى أغلبية واضحة وقوية في لبنان، وبالتالي سوف يطالبون بحصة منصفة أكثر في كعكة الحكم، وربما حتى كل "الكعكة". وسوف تبقى منظمة "حزب الله" المنظمة الأكبر في أوساط هذه الأغلبية الشيعية، وهذه حقيقة غير قابلة للتغيير أو النكوص. بيد أن هذا التحدي ينتصب أمام لبنان والمجتمع اللبناني. وبعبارة أخرى فإن استمرار تجاهل حكومة لبنان والمجتمع اللبناني لضائقة أبناء الطائفة الشيعية هو الذي سيحدد وجهة أبناء هذه الطائفة.

على ذلك فإن "حزب الله" سيبقى إذن متواجداً على حدودنا الشمالية، حتى إذا جمد نشاطه في الفترة القريبة التي سيسعى خلالها إلى إعادة تنظيم صفوفه وبناء قوته. ومن هنا فإن كل ما بقي أمام إسرائيل هو مواصلة إدارة أمورها بصورة حكيمة، في مواجهة هذه المنظمة، وذلك من خلال إقامة ميزان رعب يردع قادة "حزب الله" عن القيام بأية استفزازات من طراز عملية اختطاف الجنديين أو شن هجمات على امتداد الحدود، وبشكل خاص منع المنظمة من إعادة بناء ترسانة الصواريخ التي مكنتها من إجبار مليون ونصف المليون إسرائيلي على الاختباء في الملاجئ، والتهديد ولو نظرياً بقصف تجمعات سكانية أخرى تضم أكثر من مليون إسرائيلي في منطقة "غوش دان" بصواريخ بعيدة المدى.

لقد واجهت إسرائيل تحدياً مشابهاً عقب انسحابها من جنوب لبنان في أيار 2000، لكنها فشلت في مواجهة هذا التحدي طوال السنوات الست المنصرمة منذ ذلك الوقت. والسؤال المطروح الآن هو: هل ستنجح إسرائيل في مواجهة تحد مماثل من الآن فصاعداً؟!

___________________________

(*) البروفيسور إيال زيسر - رئيس قسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات