المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

من المؤكد ان عملية السلام بيننا وبين الفلسطينيين تمر حاليا بمأزق، ليس بسبب الافتقار لخطط السلام، بل لانعدام الثقة بين شركاء السلام. فاسرائيل ـ وليست فقط اسرائيل ـ لم تعد تثق بياسر عرفات ، وربما ان الفلسطينيين أيضا باتوا غير واثقين من تصريحات أرييل شارون المتعلقة بتقديم "تنازلات مؤلمة" من أجل السلام. كما ان العديد من الاسرائيليين باتوا يشككون في قدرة الفلسطينيين على التصرف كشركاء سلام.هل هذا هو واقع الحال؟

هناك ثلاثة ملايين ونصف المليون فلسطيني (1.2 مليون في غزة، وما يقرب من مليونين في الضفة الغربية، أما البقية ففي القدس وضواحيها) يعيشون في "الأراضي" ـ الفلسطينية، الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وقد باتت الهجمات الارهابية ذات المرجعية الفلسطينية ضد اسرائيل أمرا متوقعا كل يوم. حيث ان معظمها نفذت بواسطة خلايا التفجير الانتحاري أو أفراد ارهابيين. وخلال العامين الماضيين قتل مئات الاسرائيليين كما أصيب الالاف بجروح. ونتيجة لذلك، تقرر فرض الحصار على هذه الأراضي، وفقد العديد من الفلسطينيين حياتهم ومنازلهم، مما تسبب في أزمة اقتصادية خانقة وفي تنامي مشاعر الكراهية.

وفي ظل هذه الظروف، أصبح الجميع عاجزين عن فعل ما يريدون القيام به. وباتوا مرغمين على التصرف وفقا لما لا يفضلون القيام به.

وفي الوقت نفسه، يعيش العدد نفسه من الفلسطينيين (قرابة 3.2 مليون) في الضفة الأخرى من نهر الأردن، أي في المملكة الأردنية. لكننا لم نسمع تقريبا عن أية مشاكل أمنية بين اسرائيل والأردنيين. وهناك بلدتان ـ ايلات والعقبة ـ تقع كل منهما في الطرف الجنوبي من اسرائيل والأردن، تفصل بينهما عدة أميال فقط. وخلال أعوام اسرائيل الـ54، لم تطلق احداهما رصاصة واحدة ضد الأخرى.

وهناك مسافة 120 ميلا تمر بوادي عربة وتربط البحر الأحمر بمياه البحر الميت. هذه المنطقة الحدودية الواسعة تخلو أجزاء كبيرة منها من الأسلاك الشائكة أو حقول الألغام أو الخنادق، لكنها مأمونة كما أرادت لها الأحوال الطبيعية. وهناك نهر الأردن، الذي يفصل حدود اسرائيل عن الأردن، حيث تأتي مياهه من نهر اليرموك وتصب في البحر الميت وتنتهي.

يقوم الأردنيون بمنع المتسللين من دخول اسرائيل، كما يتم استخدام الجسرين اللذين يربطان بين البلدين لتنقل الأشخاص والبضائع.

كيف تسنى اقامة علاقة معقولة ـ وأحيانا حميمة ـ بين اسرائيل والأردن (حيث أغلبية مواطنيه من أصول فلسطينية)، فيما تبدو الأمور مختلفة مع الفلسطينيين؟

للاسباب ثلاثة أبعاد:

ـ فقد أمكن تأمين الحدود بيننا وبين الأردنيين، لكن لم يتسن بعد وضع الحدود بين اسرائيل والفلسطينيين.

ـ وفي الأردن هناك حكومة فعالة، لكن في الجانب الفلسطيني، لم تنجح السلطة الفلسطينية بعد في فرض سلطتها على عناصر ارهابية عديدة. وهناك من الجماعات من يطلق الرصاص باتجاه مختلف، بطريقة تقلل من مصداقية الادارة الفلسطينية.

ـ وبوضوح، لا توجد أية مستعمرات اسرائيلية في الجانب الاردني. وفي كل الأحوال، لا يوجد نزاع على الأراضي بين الاسرائيليين والأردنيين، كما لا يوجد نزاع على الحدود.

هنا ستكون المحصلة طبيعية. اذ لا بد من وضع الحدود بيننا وبين الفلسطينيين. فعندما لا تكون الحدود موجودة ميدانيا، فانها أيضا ستكون معدومة بين السلام والعنف. وبغض النظر عن اختلاف وجهات النظر بشأن موضع علامات الحدود، الا انني أعتقد بان هناك امكانية للتوصل الى اتفاق بشأن الحدود الآمنة، استنادا على رؤية الرئيس بوش المتعلقة بالدولتين ـ الاسرائيلية والفلسطينية ـ وعلى خريطة الطريق التي وضعها التجمع الرباعي، والتي تطرقت لهذه المسألة. على ان الادارة الفلسطينية تعد أكثر تعقيدا من هذه المسألة. فقد وقعنا مع عرفات على اتفاق أوسلو في عام 1993، وكان الهدف من الاتفاق أن نتوصل في نهاية المطاف الى سلام دائم. حينها، كان عرفات يتولى رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت، حتى ذلك الوقت، تلجأ للعنف من أجل تحقيق أهدافها. وفي أوسلو الزم نفسه بوقف أعمال العنف، ونحن من جانبنا بدأنا الانسحاب من الأراضي حسب مقتضى الأمر.

لكن، تبين فيما بعد، ان عرفات، الذي كان قد اختير بلا منافس زعيما لمنظمة التحرير الفلسطينية، لم يتمكن من الوفاء بوعوده ، وبأن يصبح رئيسا مؤثرا للدولة الفلسطينية المنتظرة. فالمنظمة كانت تضم مجموعة من التنظيمات المسلحة. وقد امتنعت هذه التنظيمات عن التخلي عن أسلحتها بعد انشاء السلطة، مع زعمها قبول زعامة عرفات. ويبدو ان عرفات اعتقد بأنه يستطيع استمالتهم سياسيا واقناعهم بالتخلي عن أسلحتهم والتأقلم مع اسلوب ادارة السلطة الفلسطينية. لكن ذلك لم يحدث. ومع ان التنظيمات المناوئة تعد في حكم الأقلية الا أن هناك أقلية أخرى تؤمن بالرصاص أكثر من ايمانها بصندوق الاقتراع.

كما ان عرفات لم يجرؤ على تأسيس هيئة مركزية تتولى السيطرة على استخدام جميع الأسلحة من قبل جميع الأجنحة. وهكذا فقدت السلطة الفلسطينية كل صلاحيتها الفعالة، وباتت جميع اتفاقات وقف اطلاق النار التي وقعت معها غير مؤكدة. ففي بعض الأحيان كانت تنفذ فقط من قبل جماعة واحدة من مجموع التنظيمات الـ12، ذات العلاقة، كما انها في أحيان أخرى كانت تنفذ من قبل الجميع.

والواقع ان سلطة عرفات وهيبتها تضررتا من قبل نفس الجماعات التي تجاهلت تعليمات السلطة واعتبرتها اضحوكة.

المحصلة التي لا يمكن تجاهلها هنا، هي انه من أجل اقامة سلطة فلسطينية فعالة، يحتاج الفلسطينيون لتبني الاصلاح في نظام ادارتهم. أما أن يعتمد كل شيء على فرد واحد فهو وضع لا يقبله عقل، خاصة عندما لا تتوفر لدى ذلك الفرد القدرة على اتخاذ الاجراءات اللازمة لضمان الأمن واحياء عملية السلام.

لقد أدركت معظم دول العالم حاجة السلطة الفلسطينية للاصلاح. وأدركت ذلك أيضا الدول العربية الثلاث التي تسعى لدفع السلام في المنطقة: وهي مصر والسعودية والأردن. كما ان مسألة الاصلاح باتت مقبولة من قبل قطاعات واسعة من الفلسطينيين وقياداتهم. وهذه الحاجة للاصلاح التي أقرتها كل الأطراف ذات العلاقة تتعلق بالآتي:

ـ الفصل بين السلطات الثلاث ـ التشريعية والقضائية والتنفيذية ـ لكي تتمتع كل منها باستقلالها، بدون أن تكون عرضة لأهواء فردية.

ـ تعيين رئيس للوزراء يتحمل مسؤولية شؤون السلطة بفعالية.

ـ السيطرة على التنظيمات الفرعية والجماعات المسلحة في اطار هيكل قيادي متماسك. ثم تبني الشفافية في جميع الأنشطة المالية.

لقد وافق عرفات على هذا الاصلاح، وأكد مجددا الحاجة الى تعيين رئيس للوزراء خلال الاسبوع الماضي. لكنه لم يحول هذه المسألة الى واقع، كما هو الحال مع وعود أخرى عديدة. فتنفيذ التأكيدات الشفهية لم يتم حتى الأن. وقد آن الأوان لكي نطلب من الفلسطينيين وضع جدول زمني لللاصلاح. لأن عدم حدوث ذلك سيؤدي الى تواصل حالة الارتباك في المنطقة، كما ستتواصل زيادة أرقام الضحايا والمعاناة الشاقة لدى الجانبين.

يتوجب على اسرائيل أن تستأنف المفاوضات للتوصل الى اتفاق بشأن الحدود المقبولة، بحيث يتسنى الانسحاب من الأراضي طبقا للاتفاق. ولا بد من كسر الطوق العقيم الناتج عن مفهوم وقف اطلاق النار أولا، ثم مفاضات السلام لاحقا. فمن غير الممكن التوصل لوقف اطلاق النار باللجوء فقط لاستخدام القوة. صحيح انه يتم قتل الارهابيين خلال عمليات وقف اطلاق النار بالقوة، الا أن الارهاب بحد ذاته يتغذى من الاجراءات التي تستهدف وقفه.

وأنا هنا لا أقترح وقف الحرب ضد الارهاب، لكنني في الوقت نفسه، أشعر بأنه من المهم أن يترافق ذلك مع القضاء على دوافع هذا الارهاب، وبالتحديد مع التفاوض، وتوفير فرص للأمل، وتخفيف الضغوط. ذلك ان وقف اطلاق النار لا بد أن يكون مدعوما بدوافع مدنية. فالتصدي للارهاب، مع تهيئة الظرف السياسي الملائم لوضع حد له، ليسا مسألتين متعارضتين.

النزاع شاق ومعقد. لكن وجود خطة سلام، على الأقل ـ حتى ولو اختلفت درجة قبولها من قبل معظم أطراف العلاقة ـ يمكنه المساهمة في حل النزاع.

ذات يوم اعتقد البعض ان الشركاء وضعوا معا خطة بهذا الخصوص، وما ندعو اليه اليوم هو أن تؤدي الخطة ـ ولنسمها من نوع خطة الطريق ـ الى وجود شركاء من الجانبين، تتوفر لديهما القدرة على تنفيذها.

* رئيس وزراء ووزير خارجية اسرائيل سابق.

(الشرق الأوسط – لندن – 3 آذار)

المصطلحات المستخدمة:

ايلات

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات