المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

رغم الملاحظة التي أطلقها يارون، أحد الناشطين الاسرائيليين ضد الاحتلال، لا يمكن تجاهل مدى حضور هذا النشاط من حيث الزمان، والأهم، المكان. ليس من حيث عدد الحضور (مُحرج!)، بل من حيث ما عكسه الحدث في الخلفية المركبة التي يندرج فيها.

يوم الجمعة في مركز تل أبيب. نظم "ائتلاف النساء من أجل السلام" هذه المظاهرة تحت شعار واضح "الاحتلال يقتلنا جميعًا.. النساء يقلن كفى!". وفي باحة أحاطتها الشرطة بأسوار من كل الجهات تاركة عدة منافذ قليلة للجمهور تجمّع ناشطات وناشطون غالبيتم بلباس أسود وفوقهم ارتفعت أعلام سوداء عليها شعارات بروح النشاط. بينهم توزّع مختلف المنشورات، عن رفض الخدمة في الجيش، الدعوة لمقاطعة منتجات المستوطنات، وحول كل ما يفرزه الاحتلال من موبقات. قلب تل أبيب بدا هنا كجزيرة فاعلة وسط بحر من اللامبالاة أو الاحباط. ويمكن اقتباس كلمات الناشط يارون الذي التقيته في طريق الخروج من الباحة: "المظاهرة بائسة"، قال مردّداً، وبعد الاستفسار أوضح أنه لا يشير الى قلة عدد المشاركات والمشاركين هنا، بقدر ما يقصد الصورة الكبرى والأعمق: أين المجتمع الاسرائيلي؟ لماذا لم الى الان يخرج بجموعه ليقول: كفى؟

لن نخوض في الأسباب الآن، ولكني سأورد ما نُقل على لسان دبلوماسي أوروبي كبير الأسبوع الفائت. فقد سئل: لقد رأيناكم فعالين جدًا خلال الحرب على العراق فأين أنتم الآن أمام الاحتلال الاسرائيلي؟ جوابه كان كالتالي: لا يمكننا القيام بالكثير علنًا طالما لم يتحرك الاسرائيليون أنفسهم.

قد يكون جواب الدبلوماسي دبلوماسيًا، لكنه لا يفتقر الى الصحة. فمن جهة، لا يزال الاسرائيليون بغالبيتهم يعلمون ويقرون بأن نهاية المطاف لن تكون سوى في اقامة دولة فلسطينية بهذا الشكل أو ذاك، ولكنهم خاملون بغالبيتهم من الجهة الأخرى. الشيء ونقيضه. قناعة لا تغطيها الممارسة. ومن الملائم، مثلا، التوقف عند الاستطلاعات التي لا تزال تؤكد هذا الموقف حتى في سنتي الاحتلال الداميتين الأخيرتين، حين ارتفع منسوب الانجرار خلف مصطلحات الاجماع القومي الصهيوني الى درجات شبه مرَضيّة. آخر المعطيات وفرتها صحيفة "معريف" نهاية الاسبوع: 62% من الاسرائيليين مع انهاء الاحتلال (كلام عام جدًا. صحيح!). إذن، حسب هذه الأرقام هناك قاعدة قوية لأية حكومة إسرائيلية تسعى بجدية لانجاز تسوية مع الشعب الفلسطيني. هنا ينتقل السؤال من الارقام الى السياسات. فـ "الجديّة" تطرح السؤال عن نوايا أرئيل شارون الحقيقية. وبينما يتحدث البعض عن أنه يمرّ بانقلاب ويقارنونه باسحاق رابين، يشكك البعض في هذا الاحتمال. "أهو انقلاب في النهج أم أنه نفس النهج المتقلب؟"، تساءل أحد المعلّقين في "هآرتس". آخرون لا يزالون يستحضرون تاريخه لتوضيح نواياه: أين يمكن أن يصل أصلا مَن تمر دربه السياسية في قبية (1953) وصبرا وشاتيلا (1982) حتى مخيم جنين (2002)؟

المتحدثات في المظاهرة لم يتعاطين كثيرا مع مسألة / لعبة الاحتمالات هذه. كناشطات منذ سنوات طويلة ضد الاحتلال، من خلال حركة "نساء بالسواد" وغيرها، أكّدن المواقف المبدئية. وقد جاء أحد الشعارات ليجمِل كل المسألة. فعلى أحد الجدران التي سوّرت مكان المظاهرة وُضع ما يشبه "وصايا عشر" جديدة. وهي تفصّل الموقف من الاحتلال دون الخوض في الخطاب الرسمي أو هشاشة الوضوح في المعطيات الاستطلاعية بشأن دقّة موقف الجمهور. الوصايا كانت كالتالي:

لا تقتل.

لا تجوّع.

لا تعذّب.

لا تغتَل.

لا تشتهِ أرض فلسطين.

لا تدمّر البيوت.

لا تقطع شجرة مزروعة.

لا تمنع سيارات الاسعاف من الدخول.

لا تغلق الاراضي المحتلة.

لا للاحتلال.

هذه الوصايا التي تتجاوز التعميم، سواء ذلك المنهجي الحكومي المشبوه أو الجماهيري الموسمي الغائم الُمنقاد، كتبت باللغات الثلاث، العربية والعبرية والانجليزية. وهكذا كانت لغة المتحدثات. الناشطة يالي قالت بسخرية إن بعض التوجهات تدعو الى "اقامة سلام مع النفس" وكأن مسألتنا نفسيّة. هذا الكلام في الروحانيات لا ينفع لأن القضية سياسية "والسلام يُصنع في الخارج أولا وطالما لم يتم فلن نكون في سلام مع أنفسنا. ستظل نفوسنا مليئة بالغضب". ممثلة حزب الشعب الفلسطيني فدوى خضر خاطبت شارون: سمعنا تصريحاته فماذا ينتظر وننتظر، فلتعترف الحكومة الاسرائيلية بحقوقنا لنقيم دولتنا المستقلة الى جانب اسرائيل. داليت باوم ربطت العنف الاحتلالي بالعنف ضد النساء وضد الشرائح المستضعفة في المجتمع الاسرائيلي، إثنيًا وطبقيًا. إنه عنف تجاه الخارج ينتج عنفًا في الداخل الاسرائيلي. رسالة والدة المناضلة المغدورة ريتشل كوري التي قتلها المحتلون دهسًا حين تصدت بجسدها لبلدوزر في غزة، خاطبت الجمهور المتأثر: بعد وفاة ريتشل شهدنا كثيرين بدأوا يفهمون ما يجري، ولماذا يجب المجيء الى غزة، ولماذا يجب دعمكم، فلسطينيين واسرائيليين، لانهاء الاحتلال. لديّ مسؤولية شرح هذه القيم من أجل كل انسان لكي يعيش في ظل العدالة. هذا واجبنا جميعًا. ريم تلحمي غنّت للقدس بالعربية في مركز تل أبيب. في وضع عادي سيكون الأمر عاديًا، ولكن حين يحاصر الاحتلال تل أبيب تكتسب الكلمات معاني غير عادية. فالكلمات أيضًا تتلاءم مع ما يحيطها من عنف منهجي ومجنون في آن. شولاميت ألوني، الوزيرة السابقة، كانت حادة وغاضبة كعادتها. بدأت بالسخرية المرّة: شارون تحدث عن احتلال وجاءت المغسلة اللغوية.. فالمستشار القضائي للحكومة نبهه الى أن المصطلح الملائم هو أرض مختلف عليها والاحتلال على السكان فقط. فأين يعيش الفلسطينيون، في الجو؟ تساءلت ألوني.. وختامًا طرحت سؤالا صعبًا على مجتمعها من خلال القصة التالية المأخوذة من تاريخه: يُحكى أن الراب يهودا ليفي تجادل مع ملك الخزر وقال له: نحن نتعرض للقتل دومًا ولا نمارسه. نُقتل ولا نَقتل. فردّ الملك: هذا حين تكونون ضعفاء، فلنرَ ما ستفعلونه لو صرتم أقوياء. ألوني أضافت بحدّة: نحن اليوم فاشلون في هذا الامتحان!

الصورة تكتمل بنقل الكاميرا الى مكان آخر من تل أبيب الغنية. في "ساحة الدولة". حيث الاحياء القوية اقتصاديًا والمحلات التي يحتاج المشتري أحيانًا الى ما يصل مقدار معدل متوسط الأجور في اسرائيل حتى يقتني منها غرضًا. هنا في مساحة محصورة أقيم "دوّار الخبز". خيم مبعثرة. والاصطلاح يحمل بالعبرية معنى مزدوجًا، فهو يعني "ساحة الخبز" وأيضًا "رغيف الخبز". وعنه يقول الناشط يسرائيل: لقد جئنا هنا في آب 2002 حتى نؤكد خطورة الهوة الاجتماعية الاقتصادية في اسرائيل. نحن هنا يهود وعرب. لا فرق. فلكل انسان الحق في الحياة بكرامة. ولكن اسرائيل تحتل المراتب الأولى في الفقر والتقاطب الاجتماعي. فهي تموّل بعشرات الملايين حماية مستوطنات لا تقطن فيها سوى بضع عائلات. نحن نسيطر على أرض ليست لنا، وهنا في تل أبيب تأتي السلطات لتقول إن هذه الخيم التي أقمناها غير قانونية وتهدد بإخلائنا. يا للعار.الخيمة بحاجة الى رخصة حسب رأيهم، فماذا بشأن المستوطنات؟ ولكن إذا نفذوا تهديدهم وأخلونا بالقوة فسنتوجه الى السلطة الفلسطينية علّها تسمح لنا بمواصلة احتجاجنا هذا على أرضها..

يسرائيل يعقّد الصورة المعقدة أصلا!

وهكذا فمن مظاهرة ائتلاف النساء وحتى مخيم الفقراء في "ساحة الدولة"، تكون كمن يتنقل بين جزيرتين. لكن الأرضية في الحالتين واحدة: الاحتلال الاسرائيلي الذي وصل إلى ذروة عنفه، وربما إلى ذروة ضعفه أيضًا.

(حيفا)

المصطلحات المستخدمة:

انقلاب, هآرتس, نساء بالسواد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات