الأزمة الداخلية الحالية، بما في ذلك طريقة إدارتها، هي حدث تدميريّ متواصل وغير مسبوق في إسرائيل، لا من حيث حدته ولا من حيث نطاقه ولا من حيث إسقاطاته المستقبلية. من الصعب جداً تقدير كيفية تطور هذا الحدث ووجهات تطوره، إلا إن الفرضية المتفق عليها هو أنه قد نشأ في إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة "ميزان رعب" غير مستقرّ ما بين الحكومة والحركة الاحتجاجية. ومن المشكوك فيه، جداً، إن كانا، كلاهما أو كل منهما على حدة، معنيين بالبحث عن إمكانيات التجسير على الفجوات العميقة بينهما، أو مدركين لضرورة هذا البحث أو قادرين عليه. ذلك أن القضية لا تنحصر في المواضيع العينية المتعلقة ببرنامج "الإصلاح" الحكومي في المجال القضائي، وإنما هي تطال، في العمق وبقوة كبيرة، الشرخ الاجتماعي العميق، السابق على الأزمة الحالية بكثير.
المواقف القائلة إنّ العديد من القضايا والمشاكل الجدية تتفاعل وتتضخّم خلف صخب الصدام السياسي في إسرائيل، ما بين الحكومة ومعارضي خطواتها الموصوفة بالانقلاب على الحكم، تتخذ تجليات ملموسة في مسائل الصحة ومجمل الحقوق الصحية. وتكشّفت مؤخراً معطيات، وصفتها لجنة الصحة التابعة للكنيست بأنها مقلقة، وتخصّ معدل إشغال الأسرّة في أقسام الأمراض الباطنية في المستشفيات في أنحاء البلاد. وقد بلغت في مستشفى بيلينسون الواقع بين تل أبيب وبيتح تكفا 133%، وفي هداسا الواقع في القدس بلغت النسبة 114%.
قال بحث أكاديمي إسرائيلي جديد إن جمهورا واسعا، قد يكون الأغلبية، من أتباع التيار الديني الصهيوني لم يعد يجد بيتا سياسيا مناسبا له، إذ إن من يدّعي تمثيل هذا التيار في الكنيست، التحالف الانتخابي السابق "الصهيونية الدينية"، الذي جرف 51% من أصوات هذا الجمهور، حسب البحث، لا يمثل هذا الجمهور، بسبب نهجه الديني المتزمت، وتعامله مع مؤسسات الحكم. كما يضيف البحث أن نسبة التأييد الأكبر في هذا التحالف الانتخابي كانت لحزب "قوة يهودية" بزعامة إيتمار بن غفير، إلا أنه في استطلاعات الأشهر الأخيرة، خسر هذا الحزب نصف شعبيته. وفي سياق متصل يقول بحث آخر، إن 45% من اليهود الإسرائيليين يعرّفون أنفسهم بالمحافظين، لكن غالبيتهم تؤيد التعددية المجتمعية، وترفض قوانين وأنظمة الإكراه الديني.
"من يحترق الآن؟ حوّارة؛ بيوت وسيارات – حوّارة؛ مسنّات نساء وطفلات – حوّارة؛ تحترق كل الليل – حوّارة"، سمعت كلمات هذه الأغنية البغيضة، المركّبة على لحن مألوف، عبر مكبرات الصوت في المظاهرات المضادة التي نظمها اليمينيون في أمسيات السبت في بيت شيمش، أمام المظاهرات الاحتجاجية ضد الانقلاب القضائي. من المفترض أننا سنسمعها في الأيام القادمة في أماكن أخرى أيضاً. يجب أن نقرأها مرة أخرى، نقرأها ولا نصدق؛ أو، في الواقع، نعم نصدّق. فقبل أسابيع تسبب مستوطنون يرتدون القلنسوات بأعمال شغب في أم صفا وعوريف، أعمال شغب تابعت سابقاتها في حوارة وترمسعيا.
تجد موجة الاحتجاجات التي تجتاح شوارع إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين أسبوعا تفسيرا لها في تفشي شعور جمعي بالتهديد وحالة من عدم اليقين والثبات واقتراب النهاية، عبر عنها المفكر الشهير يوفال نوح هراري في خطابه أمام المتظاهرين في تل أبيب في الثامن من تموز 2023 حيث اعتبر أن هذه المجموعة المتطرفة والظلامية ستحول إسرائيل "إلى أكبر دولة معادية للسامية في العالم" وأن وجود هذه المجموعة التي تجمع بين تأييد "الاحتلال وكراهية النساء والعنصرية والتطرف القومي والعداء للمثليين" سينتج "منظومة ديكتاتورية" لا يمكن التعايش معها.
ظاهرياً، تبدو الصورة التي ترتسم من النقاش العام عن واقع اللامساواة القائم في إسرائيل واضحة تماماً وتحظى باتفاق شبه إجماعيّ، عناصرها الأساسية المكوِّنة هي التالية: اليهود الغربيون (الأشكنازيون) في أعلى الهرم، يليهم اليهود الشرقيون (السفاراديم)، ثم يأتي العرب الفلسطينيون المواطنون في إسرائيل في أسفل الهرم. لكن، كيف حدث هذا وتكرّس واقعاً؟ هنا، أيضاً، تبدو الإجابة، في الظاهر وكما هي متداولة في إطار النقاش العام، واضحة تماماً وتحظى باتفاق شبه إجماعيّ: الثقافة هي السبب، بالتأكيد ـ ذلك أنّ "الشرقيين، والعرب بدرجة أكبر منهم بكثير، يجدون صعوبات جمّة وبالغة في الانخراط في الحياة العامة في إسرائيل الحديثة، لأنهم ترعرعوا في/ جاؤوا من بلاد فقيرة ذات خلفيات ثقافية غير عصرية".
الصفحة 65 من 338