المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ثارت ضجة في إسرائيل في الأيام القليلة الماضية، في أعقاب دعوة أحد حاخامي المستوطنين البارزين الجنود إلى عدم تأدية الخدمة العسكرية، إذا ما فرض على الجندي أن يخدم في وحدة عسكرية مختلطة للرجال والنساء. ووجد الحاخام فورا من يسانده، إلا أنه في المقابل أثار حفيظة حاخامين آخرين لدى المستوطنين، وردود فعل غاضبة لدى السياسيين. في حين حذر باحث بارز مختص بشؤون الجيش من عملية التديين التي يواجهها الجيش الإسرائيلي منذ مطلع سنوات الألفين، وأكد أن هذه العملية، وما يرافقها من تطرف ديني وسياسي، تنعكس على أداء الجنود ميدانيا ضد الفلسطينيين.

 

وقد بدأت القضية مع إعلان الجيش عن ترقية مجندة في سلاح الطيران إلى رتبة عقيد، وضابطة لسرب طيران، في حين تحدثت التقارير الصادرة عن الجيش الإسرائيلي عن ارتفاع حاد في نسبة الشابات المتدينات، اللاتي يمنحهن القانون اعفاء فوريا من الخدمة العسكرية الالزامية، إلى جانب ارتفاع نسبة المجندات اللاتي يخترن وحدات عملية وقتالية. وهذا كما يبدو أجج من غضب الحاخامين المتطرفين.

وبحسب التقارير العسكرية الدورية، فإن نسبة تجند الشابات في الخدمة العسكرية الالزامية، تصل إلى حوالي 62%، مقابل 72% لدى الشبان، وهذا يعود الى الاعفاء الفوري للمتدينات من كافة التيارات الدينية. وهناك ظاهرة بأن قسما من الشابات العلمانيات يدعين التدين لغرض عدم أداء الخدمة العسكرية، إلا أن هذه الظاهرة تجري محاصرتها في السنوات الأخيرة، إذ يجري التحقيق مع من تظهر شكوك حول تدينها.

وقال تقرير أخير إن 25% من الشابات المتدينات من التيار الديني الصهيوني يقررن تأدية الخدمة العسكرية الالزامية، التي تمتد 24 شهرا للشابات. كما أن 12% من المتدينات اللاتي يقررن تأدية الخدمة، يتجهن نحو كليات الضباط. وقال تقرير آخر إن الجيش بات يستعد لاحتمال أن ترتفع نسبة المتدينات المجندات إلى 50%، إذ حسب هذا التقرير الأخير فإن نسبة المجندات من بين المتدينات بلغت في آخر فوج في الصيف الماضي 34%.

وقد قال الحاخام شلومو أفنير، من أبرز الحاخامين المؤثرين على التيار الديني الصهيوني وبالذات في المستوطنات، في أحد مواقع الانترنت الدينية الخاصة بذلك التيار، وردا على سؤال، إنه يجب على الجندي المتدين أن يرفض الخدمة العسكرية في حال فرض عليه الجيش الخدمة في وحدات مختلطة بين الرجال والنساء. ولاقى أفنير دعما مباشرة من حاخام مدينة صفد شموئيل إلياهو المعروف بعنصريته الشرسة ضد العرب، وطالب إلياهو بإنهاء ولاية رئيس أركان الجيش غادي أيزنكوت. كما حاول عضو الكنيست المستوطن المتطرف بتسلئيل سموتريتش تفادي التأييد الصريح للحاخام أفنير، إلا أنه تحفظ كليا من ترقية المجندة الى رتبة ضابط في سلاح الطيران.

وهاجم وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان تصريحات الحاخام أفنير، وقال "إنها تصريحات تمس بشكل خطير بأمن الدولة، وبالحصانة القومية". وقال "إنني أدعو الحاخامين الياهو وأفنير إلى التراجع عن تصريحاتهما الظلامية، والامتناع مستقبلا عن تصريحات كهذه". كما اعترض على تصريحات أفنير، وزير التعليم، نفتالي بينيت، الذي يرأس تحالف احزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، في حين بادر عدد من حاخامي اليمين المتطرف والمستوطنين إلى إرسال رسالة دعم الى أيزنكوت.

ولاء الجنود أساسا للجيش

وبرأي المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هارئيل، فإنه لا جديد في تصريحات الحاخامين، وهي تكرار لخلافات قائمة من سنوات طويلة، وفي صلبها سعي حاخامين إلى فرض أصول لعبة جديدة على الجيش. وهذه المحاولة تجري على خلفية ارتفاع نسبة المتدينين جدا في سلك الضباط، أعلى بكثير من نسبتهم بين الجمهور. ويجري الحديث عن نسبة باتت تتراوح ما بين 30% إلى 35% من بين الضباط، في حين أن نسبة المتدينين من التيار الديني الصهيوني تصل إلى قرابة 13% من الجمهور وحوالي 16% من اليهود الإسرائيليين.

وبحسب هارئيل، فإن قسما كبيرا من تهجمات الحاخامين على رئيس الأركان أيزنكوت، نابع بالذات من حالة احباط داخلي لديهم، أو من عمل تكتلي ضده. في حين أن أيزنكوت يسعى في السنوات الأخيرة، إلى خفض وتيرة الصدام الديني في الجيش، وبالذات بين التيارات الدينية داخل الجيش، بحسب هارئيل، الذي قال أيضا إن أيزنكوت وافق على حالات محدودة جدا من الحلول الوسط في قضايا عينية، وخاصة في ما يتعلق بمسألة الوحدات المختلطة بين الرجال والنساء. ولكن في المقابل عمل على تقليص النشاطات التربوية التي تقدمها للجنود أطر مدنية يشتري خدماتها الجيش، وأعاد تلك الخدمات إلى جهاز التثقيف في الجيش، وأصدر أوامره بأن يتم التركيز على النشاط المشترك، بدلا من الفصل.

التديين ينعكس على الجنود ميدانيا

غير أن الباحث المعروف في شؤون الجيش في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة ياغيل ليفي، قال في مقال له نشر في الاسبوع الماضي في صحيفة "هآرتس"، إن رئيس الأركان الحالي غادي أيزنكوت، رفع وتيرة تديين الجيش، رغم ادعائه بغير ذلك، وهذا ما يظهر من سلسلة إجراءات اتخذها على مدى السنوات الثلاث الماضية، فتديين الجيش عملية بدأت في العام 2000 بشكل خاص، في فترة رئاسة أركان شاؤول موفاز، واستمرت من بعده، ولكن بشكل عفوي تارة، وفوضوي تارة أخرى، بينما أيزنكوت ذهب في هذا المسار بشكل منظم أكثر.

وقال ليفي في مقاله، إن عملية التديين بدأت في مطلع سنوات الألفين واتسعت أكثر لاحقا في كافة المستويات، بزعم أن زيادة مستوى الانتماء للهوية الدينية اليهودية من شأنه أن يرفع مستوى الجاهزية في الجيش، لمواجهة الانتفاضة الثانية. وعلى هذا الاساس تم تعريف الجيش على أنه جيش يهودي، وفي هذا السياق تم تعزيز مكانة الحاخامية العسكرية، وتهويد الرسائل التثقيفية الموجهة للجنود.

ويشدد ليفي على أن عملية تديين الجيش بدأت في القواعد الدنيا، وارتفعت إلى المستويات القيادية، بضغط من "معتمري القلنسوات"، حسب تعبير ليفي، في إشارة إلى التيار الديني الصهيوني، وقال إن أعداد هؤلاء يتعاظم، وبموازاة ذلك يرتفع عدد الحاخامين المتشددين دينيا في المعاهد العسكرية التحضيرية، والمعاهد الدينية في الجيش.

وحسب ليفي، فإن عملية التديين، منذ رئيس الأركان شاؤول موفاز، في مطلع سنوات الألفين، وحتى رئيس الأركان غابي أشكنازي، الذي بقي في منصبه حتى العام 2011، تمت بشكل عفوي. وقد تعاظمت هذه العملية في فترة رئاسة بيني غانتس، بين العامين 2011 إلى 2014، ومن ثم أكمل العملية خلفه الحالي غادي أيزنكوت، الذي بداية حاول وضع سد في وجه عملية التديين، ولاحقا ارتدع وتراجع.

ويعطي ليفي سلسلة من الأمثلة التي تدعم استنتاجه، وتتمثل في عدة تصريحات وقرارات اتخذها أيزنكوت، يرى فيها ليفي أنها مسايرة للحاخامين والمتدينين في الجيش. كذلك فإن مراسم قسم يمين المجندين حديثا، باتت تسيطر عليها مع السنين ملامح التديين، وتدريجيا باتت تنتقل المراسم إلى الباحة أمام حائط البراق، المسمى إسرائيليا "الحائط الغربي" للهيكل المزعوم، حيث يتم توزيع كتب توراة على الجنود من كل الأديان، بقصد اليهود، وأيضا المجندين العرب إما قسرا كالدروز أو المتطوعين، وأيضا جنود من غير اليهود وليسوا عربا. وفي مطلع العام 2015، اعترض على هذا الامر ضابط قسم التثقيف في الجيش أفنير باز تسوك، إلا أن من كان وزيرا للدفاع في حينه موشيه يعلون، تصدى له واعترض على انتقاده. وعمل على رفع مكانة الحاخامية في الجيش.

ويقول ليفي، إن عملية تديين الجيش ليست مسألة ثقافية، بل لها انعكاسات سياسية، وبها يبلور الجيش طابعه المستقبلي. فالحاخامون الذين يبلور أيزنكوت معهم مستقبل الجيش، أمثال حاييم دروكمان وغيره، هم أيضا مرشدون لحاخامين في الجيش أيضا. وهم أنفسهم الذين دعاهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في الآونة الأخيرة، لدعمه سياسيا وتجنيد الدعم السياسي له.

وقسم من الحاخامين في المعاهد يرى أنه لا صلاحية للحكومة بإخلاء مستوطنات، وهم يعظون ويرشدون الجنود لرفض الخدمة بأشكال مختلفة. ففي أعقاب اخلاء قطاع غزة من المستوطنات (2005) طوروا أجندة، هدفها تعميق الديانة في صفوف الجيش من أجل منع أي إخلاء مستقبلي لمستوطنات.

ويتابع ليفي كاتبا أنه في السنوات الأخيرة، يحاول أولئك الحاخامون التأثير على أصول نهج الجيش، بشكل يعطي تفسيرات للشريعة تسمح بالمس بشكل واسع بالمواطنين الفلسطينيين، وعلى أساس أن الانضباط من شأنه أن يضر بالجنود. وهذا الأمر برز في خطاب الحاخام المدعو يغئال ليفينشتاين، رئيس المعهد التحضيري للجيش في مستوطنة "عيلي"، الذي عرض على طلابه التجند للنيابة العسكرية، التي تدعو للانضباط، من أجل التأثير من داخل جهاز النيابة العسكرية، وعلى أولئك الذين يقررون للجيش شكل إطلاق النيران ومتى.

ويقول الباحث ليفي إن هذه الرسائل التي يبثها الحاخامون تتغلغل في صفوف الجيش، حتى قبل خروج الجنود إلى القتال، إذ إنهم يعرضون الفلسطينيين على أنهم "العمالقة الفلستييم" (الذين ورد ذكرهم في التوراة)، بمعنى أن دماءهم مباحة. ويشدد الباحث على أن عناصر الاحتلال الناشطين في الضفة معرّضون لتأثير عملية التديين في الجيش، من خلال تواصلهم الكبير مع المستوطنات والمستوطنين.

وقال ليفي إن مقولة رئيسة الأركان المأخوذة من التوراة "من جاء ليقتلك بكّر واقتله"، هي أيضا من مظاهر التديين، وهي تعابير ترسخ عملية التديين برعاية رئيس الأركان.

ويرد على هذا المحلل عاموس هارئيل في مقاله كاتبا أن استنتاجات ليفي لا تتوافق مع قسم من التوجهات القائمة ميدانيا. وبرأيه في فترة أيزنكوت انخفضت نسبة المجندات اللاتي يعملن كموظفات، وتم فتح فروع خدمة أكثر للنساء في الجيش، وارتفعت النسبة بعدة أضعاف للنساء في الوحدات القتالية، كما ارتفعت نسبة المجندات اللاتي شاركن في عمليات قتالية، إلى جانب ارتفاع نسبة النساء في سلك الضباط.

وأضاف هارئيل مدافعا عن أيزنكوت أنه صحيح أن رئيس الأركان ليس عضوا فخريا في الحركة النسوية، وأنه ليس أيقونة في النهج الليبرالي، إلا أنه يناور في حقل ألغام سياسي، وكل خطوة يُقدم عليها معرّضة للانتقادات، وأحيانا تكون الانتقادات حادة جدا.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات