المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بالتعاون بين قسم التربية في جمعية حقوق المواطن في إسرائيل ومعلمات ومعلمين وأكاديميات وأكاديميين صدر حديثًا كتاب بعنوان "درس للحياة- التربية لمناهضة العنصرية من رياض الأطفال حتى الثانوية".

يدمج الكتاب بين النظرية والتطبيق من عدة زوايا نظر. وإلى جانب المعرفة الأكاديمية ونقاشات معمقة في قضايا تربوية، يوفر الكتاب أدوات عملية لمواجهة تربوية مع سلوكيات عنصرية في الصف والروضة، ويقترح جُملة أدوات للدمج بين التربية لمناهضة العنصرية ومواضيع التعليم المختلفة بما فيها تلك التي لا تُعتبر مناسبة لهذا الموضوع مثل اللغة الانكليزية والرياضيات والعلوم.

ولا يُغفل الكتاب الجانب الاجتماعي للمدرسة، ويقترح جملة أفكار لتحويل التربية الاجتماعية وحصص المربي إلى حيز هام للتربية للديمقراطية ومناهضة العنصرية.

وينشط قسم التربية في جمعية حقوق المواطن في جهاز التعليم ومؤسسات تأهيل المعلمين بهدف تطوير التربية للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والنضال لمناهضة العنصرية. ويقوم قسم التربية بتنظيم استكمالات مهنية، وإصدار مواد تربوية، وتطوير مناهج تدريس في إطار موضوع المدنيات، وإدارة موقع "الورشة" الذي يُشكّل حيزا تربويا للديمقراطية وحقوق الإنسان ويتضمن الكثير من الأدوات والمواد التربوية.

وتصدّرت الكتاب مقدمة كتبها الأديب سامي ميخائيل، رئيس جمعية حقوق المواطن، قال فيها إن القرن العشرين الفائت سيُسجَّل في التاريخ كقرنٍ تفشّى فيه وباء العنصرية بأوسع شكل في تاريخ البشرية. ولم ينتشر هذا الوباء في المناطق المستضعفة من الحاضرة الإنسانية وإنما في قلب أوروبا القارة الأكثر تنوّراً على وجه الأرض، ثم أضحى له صدى وفروع في الدول النامية. وهناك عامل مُخجل فيما حدث يتمثّل في ذلك العدد الهائل من المثقفين والعلماء والمؤرخين الذين تجنّدوا في سبيل نشره.
وأضاف:

على مدار التاريخ كنا نحن اليهود والعرب أبناء الشعوب السامية أحد الأهداف المركزية التي تم توجيه سهام هذا الوباء إليها.

لقد هالني أن أكتشف، وأنا فتى في بغداد، أنه حتى دول ديمقراطية وليبرالية ظاهريا صمتت صمت القبور حيال العنصرية. ويخيّل لي أنه من ناحية ثقافية استحوذت الكراهية العنصرية على تلك الحقبة من أقاصي الأرض إلى أقاصيها. واكتسح جدل قوامه التصنيف على أساس العرق والأصل ولون البشرة والتقاليد العقل البشري دون أي عائق.

ثمة عامل مُخجل آخر في هذا الوباء العنصري تجسّد في ضحايا التصنيف العرقي النازي بالذات، كالعرب واليهود مثلاً، الذين أرادوا اعتماد نظرية العرق كسياسة الواحد تجاه الآخر. من الصعب أن نفهم كيف أن ضحايا العنصرية يُمكن أن يكونوا عنصريين بأنفسهم. وكنت في طريقي إلى المدرسة في بغداد صادفت كتابات جرافيتي على الجدران فحواها: "هتلر يُبيد الحشرات". كم كان مؤلماً أن أكتشف أن أيدي عدد من العرب التي جاء عنها في كتاب "كفاحي" لهتلر أنها أيدي أناس هم دون البشر، هي التي كتبت هذا الشعار. بمعنى، أن العرب الذين كتبوا الشعار تبنوا بأنفسهم هذه النظرية المقيتة. واكتشفت لاحقاً أن عدداً من آباء الصهيونية كانوا ملوّثين بهذا الوباء إلى حدّ النُخاع. وقد سُمّي على اسم أحدهم شارع عزيز علي في حيفا ربط بين بيتي على الكرمل وبيتي السابق في وادي النسناس. والقصد أرثور روبين الذي كان من المروجين لنظرية "طهارة العرق". وقد شكّك روبين هذا بانتماء اليهود الشرقيين إلى "العرق اليهودي"، واعتقد أن اليهود من أصل يمني ليسوا يهوداً لأنه وفق حُكمه لا وجود ليهود سُمر البشرة. وكان طالب في تلك الأيام الظلامية بحظر الزواج بين الِأشكناز وبين اليهود من أصل يمني.

لقد كانت الولايات المتحدة الأميركية الدولة العُظمى الغربية الأخيرة التي حظرت التجارة بالعبيد وواصلت اعتماد سياسة عنصرية تجاه السود حتى بعد هزيمة ألمانيا النازية. وفقط في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وبفضل نضالات بطولية تم منح السود حق السفر في الحافلات مع البيض والتعلّم معهم في المدارس ذاتها. فكيف حصل بعد نصف قرن أن انتخبت الدولة التي تجرّ في عقبيها كل هذه المسوخ العنصرية رئيساً أسود؟

ما زلت أذكر الشخصيات السوداء التي عرضتها السينما في الولايات المتحدة في الخمسينيات المتأخرة. كانت النساء دائما خدّامات وبدينات هائلات الكِبَر وعلى وجوههن ترتسم نظرة بلهاء. وبالنسبة للرجال، شغل هؤلاء أدوار ماسحي أحذية وعمال زراعة أميين. لعل الأمر الأكيد أن باراك أوباما لم يُنتخب رئيساً للولايات المتحدة بين عشية وضحاها، وإنما سبق ذلك انقلاب في الوعي الأميركي العام. لقد حدث ذلك في استوديوهات السينما التي كانت عنصرية جداً. أتذكّر فيلماً قديماً ولمّاحـاً بعنوان: "الضيف الذي أتى ليتغدى". في أحد مشاهد الفيلم تُخبر الابنة أباها الأبيض الليبرالي أنها دعت حبيب قلبها إلى غداء عائلي. وكاد والدها أن يُصاب بسكتة قلبية عندما اكتشف في الباب بذلة فاخرة طالع منها شاب أسود. نشأ على الفور توتّر غير معلن لكنه موجع بين الابنة المتيّمة وبين أبيها الليبرالي المصدوم. عندها توجّه الأب المضيف المثقف إلى الضيف العاقل طالباً أن يخلّصه من الورطة، فقد توقّع منه أن يفهم بنفسه أن الزواج المختلط في أميركا العنصرية هو بمثابة كارثة لهما. أجابه الشاب الأسود بما معناه: إذا كنتَ أنت الليبرالي والإنساني سترفض قبولي كعريس لابنتك، سأحترم إرادتك. فردّ الأب على الضيف بانفعال وعصبية ظاهرين. عملياً، أجبره الضيف على أن يخوض المواجهة بين مشاعره الدفينة وبين وعظه الإنساني. كانت المكانة الاجتماعية لهذا الأب مهمة جداً بالنسبة إليه إلا إنه في نهاية المطاف اضطر مرغما إلى مباركة زواج ابنته من الشاب الأسود.

وتابع: إذن، شكلت الفنون والثقافة في الولايات المتحدة رأس حربة في موجة أفضت إلى التغيير في الوعي العام وإلى انتخاب شخص أسود للمنصب الأعلى في العالم بأسره. وتغيّرت تدريجيا أدوار الشخصيات السوداء البشرة في السينما الأميركية من خلال استبدالها بشخصيات ناجحة في المجتمع ومن مجالات مختلفة: قُضاة محترمون، علماء رائدون، محاضرون في الفلسفة، قادة عسكريون مشهورون، مثقفون وأدباء لامعون. كما أن حقول الأدب والموسيقى والغناء والمسرح جارَت السينما الأمريكية في هذا الباب. أوباما مدين إذن بالكثير لعالم الثقافة الذي خلق صورة جديدة للإنسان الأسود.

وتساءل ميخائيل: هل حدث تغيير كهذا في الثقافة الإسرائيلية منذ أن راجت أفكار روبين وزملائه الذين وصفوا اليهودي الشرقي بأنه حسود ويركض وراء المال من خلال شخصية صالح شباتي المنفّر وصولاً إلى الصورة الأدبية لهذا التوجّه التي تجسدت في شخصية العربي واليهودي الشرقي في الأدب العبري؟.

وأجاب قائلاً: إن للتصريحات التنميطية التي يُطلقها مصممو الرأي العام أثرها الهام في تجذير العنصرية. فقبل مُدة صرّح أحد الصحافيين على الملأ أن الموسيقى الشرقية بوصفها كذلك هي موسيقى عنيفة. وقد غاب عنه أن فرقة "الأحجار المتدحرجة" أبصرت النور في بريطانيا المتنورة وأن طبول القيامة في موسيقى Hard rock نمت في الولايات المتحدة الأميركية واستحوذت على العالم الغربي كعاصفة. منذ متى كانت الدموع والموسيقى المليئة بالأسى عنصراً عنيفاً؟


منذ بداياتهما توجد في إسرائيل وفي الولايات المتحدة عنصرية وفجوات اجتماعية عميقة. وقد لوّحت الولايات المتحدة براية الدستور الذي يضمن المساواة للجميع وتباهت إسرائيل بوثيقة الاستقلال القائلة بالمساواة. لكن هذه وتلك أخطأتا فيما يتعلق بالمساواة وحقوق الإنسان. ومن المؤسف أن نُشير كذلك إلى أنه في إسرائيل حدثت سيرورة مغايرة لما حدث في الولايات المتحدة. فلا نزال في إسرائيل حيال تمثيل متدنٍ بارز لمواطنين إسرائيليين مختلفين في الصروح الثقافية وفي مواقع السلطة والحكم: في القيادات الحزبية والسياسية، في الكنيست، في السلك الوزاري، في المسارح والجهاز القضائي. في هذه الصروح لا يزال هناك ميل عنيد إلى التمسّك بالنظرية التي ترى "الغير"على أنه أدنى. لو أنه تمت إقامة جدار في مدرسة ما لغرض حظر التواصل بين التلاميذ على أساس لون البشرة أو الانتماء في مكان آخر من العالم بعيداً عن إسرائيل، لكنّا سنحتج بصوت عال وبحقّ. وكنا سنُقيم الدنيا ولا نُقعدها لو أن تلاميذ يهودا في لندن أو باريس حُشِروا وراء جدار كهذا. إلا أن هذا هو ما حدث عندنا في دولة إسرائيل في الألفية الثالثة.

أرى أن الوعي لمواطن الضعف الاجتماعية هذه ينطوي على أهمية من الدرجة الأولى لاجتثاث العنصرية. يُمكن قياس مستوى العنصرية بطُرق أخرى، مثلاً من خلال فحص منظومة الإنكار. لقد ثارت ثائرة إسرائيل عندما أعلنت الأمم المتحدة عن الصهيونية حركة عنصرية. ووقّعت إسرائيل في العام 1966 المعاهدة الدولية لاجتثاث التمييز العنصري لكن يبدو أننا لم نقم بواجبنا كما تقتضيه هذه المعاهدة تجاه العرب والنساء والمهاجرين من البلدان العربية والإسلامية ومن أثيوبيا وروسيا وتجاه اللاجئين ومهاجري العمل وتجاه مجتمع المثليين والمثليات وما إلى ذلك.

ليس فقط المروّج للعنصرية مسؤول عن زرع بذور الفتنة، إذ يشاركه في المسؤولية أولئك الذين يُنكرون وجود جريمة العنصرية. حتى ذاك الذي لا يُشارك في الجريمة العنصرية لكنه لا ينبسّ ببنت شفة حيالها، من منطلق خوف أو لامبالاة، مسؤول عما يحدث في هذا الشأن. هؤلاء أيضاً قد يجدون أنفسهم غدا ضحايا العنصرية. وقد يفقدون غدا حرياتهم ونمط حياتهم الليبرالي. هذا ما حدث منذ وقت ليس ببعيد في أوروبا المتنورة. وإذا لم نُدرك وننفض عنّا وباء العنصرية فقد يحدث عندنا ما حدث في أوروبا.

أعتقد أن دور وزارة التربية والتعليم في اجتثاث العنصرية هام جدا. لدينا مربون ذوو قيم إنسانية وفي متناول يد وزارة التربية والتعليم أدوات متنوعة للعمل بشكل مكثّف على تمرير رسالتنا وهي: كلنا ننتمي إلى عرق واحد هو عرق الإنسان. ليس هناك عرق أعلى أو أدنى وليس هناك عرق نقيّ أو عرق غير نقيّ.
وختم ميخائيل:

يتضمّن هذا الكتاب مقالات متنوّعة تضيء القلب وتضطرّ المجتمع بأسره إلى مواجهة العنصرية التي يقع في خطيئتها أناس من شتى المشارب. عملياً تريد المقالات الواردة هنا من كل واحد فينا أن يُصغي إلى صوت العقل وأن يتعاون من أجل بناء مجتمع خال من العنصرية. تعمل في إسرائيل جهات لها أهميتها ليل نهار من أجل مجتمع أفضل وأكثر عدلاً، من أجل مجتمع سويّ يحترم حقوق كل الذين يعيشون فيه، جهات تُؤمن بكل جوارحها أن الدماء التي تجري في عروقنا وعروق الآخرين والمختلفين عنّا هي الدماء ذاتها وأن القلب هو ذات القلب أيضاً.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, باراك, انقلاب, صالح شباتي, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات