المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

حذر تقرير جديد صادر عن قسم الأبحاث في الكنيست الإسرائيلي من أن الاقتصاد الإسرائيلي سيكون عرضة لأضرار كبيرة في حال تطبيق قرارات المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل على نطاق واسع، على الرغم من أن كل القرارات التي صدرت حتى الآن لم تؤثر مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي.

وصدر التقرير مع انتهاء عام (2014) شهد حراكا أوروبيا ملحوظا لفرض مقاطعة على بضائع المستوطنات الإسرائيلية ومحاصرتها في الأسواق الأوروبية.

وجرى إعداد البحث بطلب من رئيس اللجنة المالية في الكنيست، نيسان سلوميانسكي، وعُرض عليه في الشهر الجاري، وتضمّن خطوطا عريضة لأشكال المقاطعة لإسرائيل في الجانب الاقتصادي، وأيضا في الجانبين العلمي والثقافي، ولكن كان هناك تركيز خاص على جانب الصادرات، بضائع وخدمات، إضافة إلى الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الإسرائيلي.

وجاء في مقدمة البحث أن دول العالم شهدت من العام 1914 وحتى العام 2000 نحو 174 حالة مقاطعة اقتصادية، وأن فقط 34% من هذه الحالات حققت المقاطعة الاقتصادية هدفها إن كان تغييرا سياسيا عاما، أما إذا كانت المقاطعة لتحقيق هدف عيني موضعي، فإن النسبة ترتفع إلى 50%.

ويستعرض البحث باختصار محطات من المقاطعة التي واجهتها إسرائيل، وأولها كانت حتى قبل تشكيل دولة إسرائيل، في العام 1946 حينما فرضت الجامعة العربية مقاطعة عامة على المستوطنات الصهيونية في فلسطين التاريخية في ذلك العام، وتحولت المقاطعة لاحقا لتصبح ضد "الدولة"، وأخذت أشكالا كثيرة، وكانت الولايات المتحدة الأميركية تسعى دائما إلى تقليص أضرار مثل هذه المقاطعة، وفي العام 1977 سن الكونغرس الأميركي قانونا يقضي بمعاقبة كل شركة أميركية تشارك في مقاطعة إسرائيل، ووصل الأمر إلى حد فرض عقوبات على المسؤولين في المسار الجنائي.

وكانت إسرائيل قد شهدت فترة من "الهدوء" في أجواء الدعوات لمقاطعتها، وكان هذا في سنوات التسعين من القرن الماضي، وساهم في هذا اقامة علاقات دبلوماسية كاملة، أو جزئية، أو تجارية مع ثماني دول عربية، وعلاقات مع دول إسلامية أخرى، وهذا بحد ذاته تراجع كثيرا في سنوات الألفين، بفعل اندلاع العدوان الإسرائيلي على الضفة والقطاع، والذي جوبه بانتفاضة ثانية.

ويقول التقرير إنه في السنوات الأخيرة نشر الاتحاد الأوروبي خطوطا عامة حول سياسة تعامله مع المستوطنات في جميع المناطق المحتلة منذ العام 1967، الفلسطينية والسورية، وبموجب هذه السياسة فإن البضائع الإسرائيلية المنتجة في تلك المناطق لن تحظى بالإعفاء الجمركي في دول الاتحاد الأوروبي، الذي تحصل عليه البضائع الإسرائيلية الأخرى، وجرى الحديث مرارا عن وضع شارة معينة على بضائع المستوطنات، إلا أن هذا ظهر بقوة في العام الماضي كما تفيد تقارير كثيرة.

فقد قرر الاتحاد الأوروبي منع استيراد المنتجات الزراعية العضوية، واللحوم والحليب والبيض والدجاج، من المستوطنات، ابتداء من الثلث الأخير من العام الماضي، وبحسب تقديرات إسرائيلية فإن الاتحاد الأوروبي لن يكتفي بأنظمة المقاطعة الجديدة التي فرضها على إسرائيل في مجال صناعة الحليب والمنتجات الحيوانية، والفروع التالية، حسب التقدير في إسرائيل، هي صناعة الخمور والدجاج.

وعبّرت إسرائيل عن خشيتها من توسيع نطاق القرار ليشمل أيضا الفواكه والخضروات والمواد الغذائية المصنعة الأمر الذي من شأنه أن ينعكس على مجمل الصناعات الغذائية التي تعتمد على مواد خام تنتج في المستوطنات. وقالت تقارير إسرائيلية، غداة صدور ذلك القرار، إن هذا قد يكون ككرة الثلج المتدحرجة، بمعنى أن تتوسع المقاطعة وتصبح جارفة، على كل البضائع، المنتجات والخدمات التي مكانها أو مصدرها أو مصدر جزء من المواد الخام فيها في جميع المناطق المحتلة منذ العام 1967، الفلسطينية والسورية.

وبحسب التقديرات الإسرائيلية، فإن الضرر المباشر من القرار الأوروبي، الذي لم يتم توسيعه حتى الآن، سيكون نحو 20 مليون دولار، ولكن الآثار الخطيرة حقا، من ناحية إسرائيل، هي أن القرار يشكل سابقة.

لكن ليس هذا فحسب، فقد شهد العام الماضي أيضاً تراجع شركات أوروبية عن المشاركة في مشاريع إسرائيلية بنيوية، ومن بينها انسحاب شركتين إيطالية وهولندية من عطاءين لبناء ميناءين بحريين في مدينتي حيفا وأسدود، في ظل تكاثر عدد الشركات والمؤسسات الأوروبية التي تعلن مقاطعتها لاقتصاد المستوطنات، أو للاقتصاد الإسرائيلي ككل.

كما توقف أكبر بنك ألماني وثالث أكبر بنك في العالم "دويتشي بنك" عن التعامل مع الاقتصاد الإسرائيلي، إذ يعتبر أن نشاط البنوك الإسرائيلية في المستوطنات هي أنشطة "غير أخلاقية". وقد تعهد "دويتشي بنك" لزبائنه بعدم استثمار أموالهم في شركات لا تستجيب "لمواصفات أخلاقية" ضمن قائمة شملت 16 شركة كهذه في أنحاء العالم، في مقدمتها "بنك هبوعليم"، وهو أكبر بنك إسرائيلي، وتليه 13 شركة تعمل في مجال التجارة بالأسلحة والمواد المتفجرة والعتاد العسكري، إضافة إلى شركة "نيسان" اليابانية.

وكان تقرير سابق في وزارة المالية الإسرائيلية قد حذر في أوج موجة الدعوات الأوروبية لمقاطعة بضائع المستوطنات الإسرائيلية، من أن اتساع المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل والمستوطنات مستقبلا قد يتسبب بخسائر تصل إلى مليارات الدولارات، وأن الضرر سيطال 30 بالمئة من الشركات الإسرائيلية ما سيؤدي إلى فصل آلاف العاملين.

وحسب تقدير اقتصاديين في وزارة المالية الإسرائيلية وغيرها من الوزارات ذات الشأن، فإن المقاطعة الحقيقية واسعة النطاق، اذا ما فرضت، على هيئات اقتصادية تعمل في المناطق المحتلة، من شأنها أن تتسبب بفرض مقاطعة على قرابة 30 بالمئة من الهيئات والشركات العاملة في إسرائيل. ووضعت لجنة مختصة تقريرا أمام الوزراء يشير إلى أن عشرات شبكات الغذاء الأوروبية كفت عن طلب الفاكهة والخضار ومنتجات الغذاء التي مصدرها غور الاردن، والضرر يقدر بنحو 40 مليون دولار سنويا. كما ان شركات حكومية كبيرة قد تتضرر من المقاطعة، وعلى رأسها شركة مكوروت للمياه وشركة الكهرباء. وتقدير المالية هو أن الضرر كفيل بأن يصل إلى نحو 20 مليار دولار وإقالة قرابة 10 آلاف عامل.

ويزداد قلق إسرائيل من أن الدعوات لمقاطعة إسرائيل تتسع في القواعد الشعبية، فمثلا من المفترض أن ينطلق بعد بضعة اسابيع وللسنة الـ 11 على التوالي، نشاطات "أسبوع الأبارتهايد الإسرائيلي"، الذي تقوده الحركة العالمية التي تشجع المقاطعة "BDS". وتدعي الخارجية الإسرائيلية منذ الآن بأن هذه الأحداث لم تعد ذات مغزى وأن قوة المنظمات تضعف مع الوقت.

ويؤكد منظمو النشاط الدولي أنه في السنوات الأخيرة يوجد ارتفاع في عدد الأبحاث حول السياسات الإسرائيلية، وكلها تؤكد أن إسرائيل هي بالفعل دولة أبارتهايد. وتعمل الحركة على اطلاع زعماء في العالم على هذه السياسات، وبهذه الطريقة يمكن للبرلمانات المختلفة أن تتضامن مع كفاح الشعب الفلسطيني وتمارس الضغط على إسرائيل لمنعها من أن تكون "دولة أبارتهايد".

ولم تكن الولايات المتحدة الأميركية خارج أجواء المقاطعة، ولكن في الجانبين العلمي والثقافي، ونذكر أنه في العام الماضي وقع أكثر من 400 بروفسور أميركي في مجال الدراسات الإنسانية معظمهم من جامعات أميركية مشهورة، على مذكرة دانوا فيها انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان وطالبوا بانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية وانهاء الاحتلال فورا، وضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم التي أبعدوا عنها واعطاء حقوق كاملة للمواطنين العرب داخل إسرائيل.

وتعهد الموقعون في مذكرة مطوّلة بعدم التعاون في المشاريع والفعاليات التي تشمل المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، وعدم التدريس أو حضور المؤتمرات وغيرها من الأحداث في هذه المؤسسات، وعدم النشر في المجلات الأكاديمية ومقرها في إسرائيل وسيستمر ذلك حتى تنهي المؤسسات الإسرائيلية تواطؤها في انتهاك الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في القانون الدولي، واحترام الحقوق الكاملة للفلسطينيين من قبل إسرائيل.

جوانب تأثر إسرائيل من المقاطعة

يقول البحث إن الحركة العالمية "BDS" سيكون لها تأثير مباشر على شركات ومرافق اقتصادية مباشرة، وليس على حكومات، ولهذا سيكون من الصعب تقييم الأضرار التي سيسببها نشاط هذه الحركة، ولكن بشكل عام، فإن المقاطعة لإسرائيل ستنعكس مباشرة على قطاعي الصادرات والاستثمارات المالية الأجنبية أكثر من غيرها.

وكانت الصادرات الإسرائيلية قد شهدت في السنوات الـ 15 الماضية قفزة لربما لم تتوقعها إسرائيل، فقد ارتفع حجم الصادرات بالدولار من العام 1999 إلى العام 2013 بنحو 250%، ولكن الأهم أن مساهمة الصادرات في الناتج العام في سنوات التسعين، كانت في حدود 22% بالمعدل، وفي سنوات الثمانين التي سبقتها كانت على الأغلب ما دون نسبة 20%، أما في سنوات الألفين، وبحسب ما يتبين من البحث، فإن الصادرات باتت تساهم بنسبة 35% من الناتج العام، وهذه نسبة هائلة.

كما شهدنا في سنوات الألفين تأرجحا في الميزان التجاري بين الصادرات والاستيراد، للبضائع والخدمات معا، فقبل سنوات الألفين كان العجز في الميزان التجاري يميل لصالح الاستيراد، وبنسبة تتراوح ما بين 18% وأكثر من 20%، أما في سنوات الألفين الأخيرة فشهدنا في عدة سنوات تفوق الصادرات على الاستيراد. ويظهر من رسم بياني تضمنه بحث قسم الأبحاث في الكنيست أن الصادرات الإسرائيلية ارتفعت سنويا منذ العام 1999 بنسب سنوية أعلى من معدل ارتفاعها في منظومة الدول المتطورة OECD.

لكن ما يقلق إسرائيل بشكل خاص من دعوات المقاطعة المنتشرة في القارة الأوروبية، هو أن أوروبا كلها تشتري 36% من الصادرات الإسرائيلية، ثم القارة الأميركية الشمالية التي اشترت في العام قبل الماضي 2013، ما نسبته 31% من اجمالي الصادرات الإسرائيلية، وهذا بحد ذاته هبوط عما كان في سنوات مضت، ففي العام 2000 كانت القارة الأميركية الشمالية تشتري 41% من الصادرات الإسرائيلية، وهبطت في العام 2007 إلى 39%، ولكنها واصلت هبوطها بفعل الأزمة الاقتصادية.

ولذا، فإن نحو 70% من الصادرات الإسرائيلية مرتبط أساسا بقارتي أوروبا وأميركا الشمالية، ما يعني أن كل قرار بالمقاطعة صادر عن القارة الأوروبية سيكون له وقع مباشر على الاقتصاد الإسرائيلي.

والجانب الآخر المهم، والذي من شأنه أن يكون متأثرا من المقاطعة في حال تطبيقها، هو جانب الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الإسرائيلي، التي شهدت في العقدين الماضيين قفزة بعشرات الأضعاف، ولربما المعطيات العددية توضح أكثر عما يجري الحديث، ففي العام 1990 كان حجم الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الإسرائيلي 200 مليون دولار، في ذلك العام كانت إسرائيل ما تزال تغوص في أزمة اقتصادية خلفتها انتفاضة الحجر الفلسطينية.

ونرى في التقرير أن الاستثمارات الأجنبية تأرجحت ما بين العام 1990 والعام 1994 ما بين 200 مليون دولار إلى 600 مليون دولار، وبعدها شهدنا القفزة الملموسة الأولى، التي جاءت في اعقاب الانفراج السياسي الاقليمي، فقد تأرجحت الاستثمارات ما بين العامين 1995 و1998 ما بين 4ر1 مليار إلى 7ر1 مليار دولار، وفي العام 1999 قفزت الاستثمارات الأجنبية إلى 2ر4 مليار دولار، وفي العام 2000 إلى 8 مليارات دولار، وهذا أيضا متأثر من أجواء الانفراج السياسي، التي تفرقعت في نهاية العام 2000، لتهبط الاستثمارات في العامين التاليين 2001 و2002 إلى 8ر1 مليار و6ر1 مليار دولار على التوالي. وتأرجت الاستثمارات في الأعوام الثلاث التالية ما بين 3ر3 مليار إلى 2ر4 مليار دولار.

أما العام 2006 فقد شهد قفزة تاريخية، وبلغ الحجم الاجمالي للاستثمارات الأجنبية ذروة لم تحققها إسرائيل حتى اليوم، وهذا يعود سياسيا إلى وصول حزب "كديما" إلى الحكم، ما أوحى بانفراج سياسي، رغم أن ذلك العام شهد حربين على قطاع غزة ولبنان، وبلغ حجم الاستثمارات 3ر15 مليار دولار، وفي السنوات التالية تأرجحت الاستثمارات ما بين 8ر8 مليار إلى 8ر11 مليار دولار كما كان في العام 2013، ولم يشمل تقرير أبحاث الكنيست معطيات عن العام 2014.

ما هو بارز أيضا في هذه الإحصائيات أن حجم الاستثمارات الأجنبية المتراكمة والباقية في الاقتصاد الإسرائيلي، شهدت على مدار السنين ارتفاعا متواصلا، على الرغم من التأرجحات في الاستثمارات السنوية، ففي العام 2000، كان حجم الاستثمارات الأجنبية المتراكمة والباقية في الاقتصاد الإسرائيلي 6ر52 مليار دولار، لترتفع في العام 2013 إلى أكثر من 88 مليار دولار.

ونرى أن أكثر من 26% من هذه الاستثمارات تأتي من الولايات المتحدة الأميركية، ومع كندا يرتفع الاستثمار إلى نسبة 33% تقريبا، تليها القارة الأوروبية بنسبة تتجاوز 16%، ثم أميركا اللاتينية بقرابة 13%، ولكن ما لم يوضحه التقرير هو مدى نسبة المستثمرين الأجانب اليهود من اجمالي هذه الاستثمارات، والذين مصير استثماراتهم تحكمه الأوضاع الاقتصادية، وليس الأجواء السياسية، بمعنى أنهم لن يكونوا منصاعين إلى حملات مقاطعة، ولكن في المجمل، فإن التقرير يحذر من أن تأثيرات المقاطعة الفعلية على الاستثمارات الأجنبية، في حال حصولها، ستكون جسيمة على مجمل الاقتصاد الإسرائيلي.

ويقول البحث في تلخيصه إن متانة الاقتصاد الإسرائيلي وازدهاره مرتبطان بحجم التجارة الدولية والاستثمارات الأجنبية في إسرائيل، والاحصائيات الواردة في التقرير تؤكد مدى عُرضة الاقتصاد الإسرائيلي لأي خلل في هذا الجانب الاقتصادي، إلا أن التقرير يشير إلى أن وجهة علاقة الاقتصاد الإسرائيلي مع العالم باتت تتغير جغرافيا في السنوات الأخيرة، في إشارة إلى امكانية المناورة بين الأسواق العالمية. فمثلا قبل سنوات عديدة كان حجم الصادرات إلى القارتين الأميركية والأوروبية يتجاوز نسبة 75% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية، ليهبط في العام 2013 إلى نسبة 54%، بسبب الأزمات الاقتصادية، لكن من جهة أخرى، وبسبب فتح أسواق جديدة أمام الاقتصاد الإسرائيلي، فإن حجم الصادرات المالي لم يتراجع بهذه النسبة في هاتين القارتين، بل إن زيادة الصادرات وفتح أسواق جديدة خاصة في آسيا ساهما في اختلاف النسب.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات