المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.


"اعتدال" قضائي في مواجهة الحكومة والكنيست وتضييق الخناق على التماسات المنظمات الحقوقية!

غرونيس، الذي أتيحت له رئاسة المحكمة بفضل "قانون شخصي خاص" بادر إليه اليمين في إسرائيل، جسّد موقفه المعارض لـ"الفاعلية القضائية" في سلسلة من القرارات التي رفض فيها إلغاء عدد من القرارات والقوانين نظرا لعدم دستوريتها

أنهى رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، القاضي آشير غرونيس، يوم 17 كانون الثاني الجاري، مهام منصبه وخرج إلى التقاعد من سلك القضاء الذي عمل فيه طيلة 26 عاما بدأها في أيلول العام 1988 بتعيينه قاضيا في المحكمة المركزية في بئر السبع، ثم قاضيا في المحكمة المركزية في تل أبيب (ابتداء من تشرين الأول 1996) ، ثم قاضيا في المحكمة العليا ابتداء من نيسان 2002 وحتى تقلده منصب رئيس المحكمة العليا ابتداء من 28 شباط العام 2002، وهو الرئيس العاشر لهذه المحكمة منذ تأسيسها.

وبهذه المناسبة، وكما جرت العادة من قبل، أقيم في مقر المحكمة العليا في القدس، يوم 15 كانون الثاني الجاري، "حفل الوداع" لغرونيس بحضور حشد من المسؤولين الرسميين، في الحكومة والكنيست، إلى جانب رؤساء وقضاة المحكمة العليا السابقين. وخلال الحفل، ألقيت كلمات شارك فيها: المستشار القانوني للحكومة، المحامي يهودا فاينشتاين، المستشار القانوني للكنيست، المحامي إيال يانون، القاضية مريام ناؤور، التي خلفت غرونيس في رئاسة المحكمة العليا (جرت مراسم تأديتها اليمين الدستورية في اليوم نفسه في مقر رئيس دولة إسرائيل ـ إقرأ عنها مادة خاصة في هذه الصفحة). وكان آخر المتحدثين في الحفل، بالطبع، غرونيس نفسه الذي خصص الجزء الأكبر والمركزي منه للحديث عن أهمية "الحفاظ على هامش عمل كل واحدة من السلطات الثلاث في الدولة" ـ التشريعية (الكنيست)، التنفيذية (الحكومة) والقضائية (المحاكم، وعلى رأسها المحكمة العليا)،

قرار غرونيس الأخير بشأن دعوى مصطفى الديراني

وفي الحفل نفسه، قرأ غرونيس ملخص قرار الحكم الأخير الذي كتبه هو كقاض في المحكمة العليا (وهو تقليد متبع في هذه المناسبات، دائما). وقرار الحكم الأخير الذي كتبه غرونيس بتّ فيه بموضوع دعوى التعويضات التي كان قدمها الأسير اللبناني مصطفى الديراني ضد دولة إسرائيل جراء ما تعرض له خلال التحقيقات التي أجراها معه محققو المخابرات العسكرية في أعقاب اختطافه من لبنان في العام 1994 وإحضاره إلى إسرائيل وسجنه فيها حتى إطلاق سراحه ضمن صفقة تبادل الأسرى مع "حزب الله" في العام 2004.

وفي قراره هذا، ألغى غرونيس حق الديراني في مواصلة النظر في دعوى التعويضات هذه أمام محكمة إسرائيلية، مسوغا قراره هذا بالقول إن "أبواب المحاكمة الإسرائيلية كانت مفتوحة أمام ديراني طالما كان رهن الاعتقال في داخل إسرائيل... أما وقد تم الإفراج عنه وأصبح مواطنا في دولة عدو وعاد إلى الانخراط في صفوف منظمة إرهابية تضع نصب عينيها إبادة دولة إسرائيل، فقد تغيرت الصورة"!!

حدود العلاقة المتبادلة مع الحكومة والكنيست

الموضوع المركزي الذي أفرد له غرونيس الجزء الأكبر من "خطاب الوداع" هو موضوع "الفصل بين السلطات" وطرح فيه رؤيته بشأن دور المحكمة كسلطة رقابة على عمل السلطتين الأخريين وأدائهما وحدود العلاقة المتبادلة بين الجهاز القضائي، من جهة، والحكومة والكنيست من جهة أخرى، ومؤداها بصورة جوهرية: محدودية المحكمة في قدرتها على التدخل في قرارات وممارسات الحكومة والكنيست، وخاصة ما يتعلق بقدرتها على إلغاء قوانين يسنها الكنيست، معتبرا أن "السيرورات الاجتماعية هي التي ينبغي لها تعبيد الطريق نحو التغيير"!

وأوضح غرونيس أن "مبدأ حق الأغلبية في اتخاذ القرارات والحسم في الأمور هو أحد المقومات الأساسية في النظام الديمقراطي، ومع ذلك فإن نظام الحكم في دولتنا يقوم، أيضا، على الفهم والإقرار بأن ثمة حاجة إلى وضع حدود لسلطة الأغلبية والدفاع عن الأقلية في وجه نزعة الاستبداد والتعسف لدى الأغلبية". وأضاف: "علينا أن نتذكر أن ليس كل القرارات التي تتخذها الأغلبية هي قرارات شرعية. ومن هنا، الوعي والإقرار بأن أي قانون يشرّعه الكنيست ليس محصنا من الرقابة القضائية"، ثم قال إنه "ليس سرا أن موقفي حيال إلغاء تشريعات الكنيست هو أكثر اعتدالا من مواقف غالبية زملائي على كرسي القضاء"!

وتمثل هذه الجمل القصيرة المدونة أعلاه زبدة موقف غرونيس وخلاصته في معارضة ما يُعرف في الأوساط القضائية والحقوقية، اصطلاحا، باسم "الفاعلية القضائية" التي أرسى أسسها الأولية ورسخ قواعدها الرئيس الأسبق للمحكمة العليا الإسرائيلية، القاضي أهارون براك. ومن المفارقات، في هذا السياق، أن غرونيس انضم إلى هيئة قضاة المحكمة العليا قبل إنهاء براك مهام منصبه في رئاستها بأربع سنوات. وكان أن طرح غرونيس موقفه هذا في سلسلة من قرارات الحكم التي وضعها خلال تلك السنوات، حتى بدا الأمر في حينه نوعا من "الصراع" بين التوجهين بحيث مثلت آراء غرونيس، كما عبر عنها في قراراته تلك، ما يمكن وصفه بأنه "صورة مرآة" عكسية لمواقف أهارون براك: فبينما رأى براك أن "كل شيء خاضع للقضاء" وأن القضاة يتمتعون بمزايا تبرر منحهم مساحة واسعة من حرية تحكيم الرأي (القضائي) والتدخل في قرارات وممارسات المؤسسات والهيئات الرسمية المختلفة في السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست)، في مختلف ميادين الحياة، رأى غرونيس عكس ذلك معتبرا أن منح القضاة مثل تلك المساحة المذكورة "بدرجة مبالغ فيها كهذه" من شأنه أن يمسّ، وهو يمسّ فعليا، بمبدأ "اليقينية القضائية" الذي اعتبره غرونيس "مبدأ أساسا حيويا في القضاء الإسرائيلي".

وشكل هذا الموقف المبدئي الذي تبناه غرونيس منطلقا في العديد من المواقف والقرارات التي صدرت عن المحكمة العليا خلال فترة رئاسته لها، سواء تلك التي كتبها هو بنفسه وأملى فيها "موقف الأغلبية"، فضلا عن التي بقي فيها "رأي أقلية" أو "رأيا وحيدا" ضمن هيئات القضاة التي نظرت في القضايا المختلفة وقررت بشأنها. وقبل المضي في توضيح ما ذهبنا إليه، ولكي نضيء خلفياته، يجدر بنا التذكير بعملية انتخاب غرونيس لمنصب رئيس المحكمة العليا.

"محافظ، عزيز اليمين"!

لم يكن تولي آشير غرونيس منصب رئيس المحكمة العليا أمرا طبيعيا انسجاما مع "مبدأ الأقدمية" الذي كان ساريا (وما زال) في إشغال رئاسة هذه المحكمة. وهو مبدأ يقول بأن القاضي الأكثر أقدمية من بين قضاة المحكمة العليا هو الذي "يُنتخب" لرئاستها عند خروج رئيسها إلى التقاعد، ولكن شريطة أن تكون قد تبقت له 3 سنوات كاملة على الأقل حتى موعد خروجه إلى التقاعد (وهذا الشرط هو تعديل أدخله الكنيست بمبادرة من وزير العدل الأسبق دانيئيل فريدمان). ولدى خروج الرئيس السابقة للمحكمة، دوريت بينيش ، إلى التقاعد (في 28 شباط 2012) كان غرونيس الأكثر أقدمية (بعد نائب رئيس المحكمة آنذاك، إليعازر ريفلين، الذي كان سيخرج إلى التقاعد بعد ذلك بثلاثة أشهر فقط، أي في 28 أيار 2012). لكن الفترة التي تبقت لغرونيس، آنذاك، حتى الخروج إلى التقاعد كانت أقل من 3 سنوات بـ 41 يوما.

وحيال ذلك، تجند أعضاء الكنيست من اليمين واستطاعوا سن قانون خاص يلغي شرط الثلاث سنوات المذكور، وذلك لتمكين غرونيس من تولي منصب رئيس المحكمة العليا. وقد أقرت الكنيست هذا القانون، الذي قدم اقتراحه عضو الكنيست يعقوب كاتس (من حزب "الاتحاد الوطني" اليميني المتدين)، بأغلبية 57 عضوا ومعارضة 37، وأصبح يعرف باسمه الشخصي: "قانون غرونيس".

وكان هذا القانون قد أثار صراعا سياسيا ـ حزبيا عنيفا بين السلطة التشريعية (الكنيست) من جهة، والسلطة القضائية (الجهاز القضائي) والأوساط القضائية والحقوقية الأكاديمية من الجهة الأخرى، إذ عارض الأخيرون بشدة هذا التعديل لما فيه من "شخصنة التشريع" وما يحمله هذا من إسقاطات وأبعاد. وبين هذين الطرفين المتصارعين، بقي غرونيس نفسه في "موقف الحياد"!

وبإقرار الكنيست هذا القانون ("قانون غرونيس")، فتح الطريق أمام توليه منصب رئيس المحكمة العليا بوصفه "عزيز اليمين"، إذ بنت عليه أوساط وكتل اليمين المختلفة في إسرائيل آمالا عريضة جدا في أن يكون ردا وكابحا لنهج "الفاعلية القضائية" وفي "وقف تسلط المحكمة العليا واستبدادها وتدخلها في مختلف شؤون الحياة، وخاصة السياسية منها"، من خلال اتهام قضاتها بأنهم "مبعوثو اليسار وكارهو إسرائيل"!

تشديد معايير الالتماس إلى المحكمة العليا

تشديد غرونيس على "اليقينية القضائية" تجسد، في الممارسة القضائية التطبيقية، في جملة من القرارات والتوجهات القضائية التي وضعها، سواء من خلال رفضه الإقرار بعدم دستورية بعض القرارات الحكومية والقوانين التي سنها الكنيست ورفض الحكم بإلغائها بالتالي (خلافا لآراء ومواقف زملائه في هيئة المحكمة)، أو من خلال تشديد معايير "حقوق الالتماس" في تقديم التماسات إلى المحكمة العليا، طرق أبوابها والتماس مساعدتها. وهذا، بالرغم من حديثه عن دور هذه المحكمة في "حماية الأقلية من استبداد الأغلبية وعسفها".

ففي الجانب الأول (الرقابة على قرارات الحكومة وقوانين الكنيست)، اعتمد غرونيس منهجا أوضحه مرات عدة بقوله إنه "حينما يقود نص القانون إلى اتجاه معين بينما يدفع شعور العدالة بالاتجاه المعاكس، فليس ثمة مبرر لأن تتعدى المحكمة حدود المشرّع إذا كان نص القانون واضحا"!! وترجم غرونيس منهجه هذا في عدد من القرارات التي رفض فيها الحكم بعدم شرعية قانون ما والأمر بإلغائه، وكان آخرها موقفه (رأي الأقلية) المعارض لإلغاء "قانون منع التسلل" الذي يرمي إلى طرد اللاجئين الأفارقة في إسرائيل ويتيح وضعهم قيد الاعتقال لفترات طويلة من دون تقديمهم إلى المحاكمة. وسبق هذا القرار، قرارات أخرى أيضا رفض غرونيس فيها إلغاء تشريعات "غير دستورية"، من أبرزها "قانون لجان القبول" الذي يرمي إلى حرمان المواطنين العرب في إسرائيل من إمكانية السكن في "بلدات جماهيرية" وغيره.

لكن هذا لا يعني، في المقابل، أن غرونيس لم يشارك إطلاقا في تأييد قرارات قضائية تقضي بإلغاء قوانين، أو بنود محددة منها، بدعوى عدم دستوريتها وتناقضها مع "قوانين أساس". وكان من بين هذه، قرار يلغي بنودا من قانون "تطبيق خطة الانفصال" عن قطاع غزة، نظرا لأن تلك البنود تضمنت تقليصا لحقوق المستوطنين الذين تم إخلاؤهم من هناك في الحصول على تعويضات، وقرار يلغي قانون خصخصة السجون في إسرائيل، وقرار يلغي بنودا في قانون يمنع الفلسطينيين سكان الضفة الغربية من تقديم دعاوى تعويضات ضد دولة إسرائيل جراء تضررهم من ممارسات "قوى الأمن" الإسرائيلية حتى لو كان ذلك "في سياق عملية غير حربية"، وقرار يلغي بنودا في قانون ضريبة الدخل تمنح بلدات محددة تسهيلات وامتيازات ضريبية بدون معايير متساوية، وقرار يلغي أمرا قانونيا يتيح النظر في تمديد اعتقال شخص مشتبه به بارتكاب "مخالفة أمنية" غيابيا. كما كتب غرونيس أيضا قرار المحكمة العليا الذي ألغى قرار لجنة الانتخابات المركزية للكنيست الـ 19 شطب ترشيح عضو الكنيست حنين زعبي من قائمة مرشحي "التجمع الوطني الديمقراطي" في تلك الانتخابات، مؤكدا أن "شطب قائمة مرشحين، أو مرشح بعينه، هو إجراء استثنائي في حدته ينبغي اللجوء إليه في حالات استثنائية الخطورة فقط، والتي لا يكون في الإمكان مواجهتها ومعالجتها بالأدوات الديمقراطية العادية".

أما في الجانب الثاني (تشديد معايير الالتماس أمام المحكمة العليا)، فقد أثار غرونيس موجة من الغضب العارم بين عدد من المنظمات الحقوقية غير الحكومية الناشطة في إسرائيل ولدى أوساط واسعة من الحقوقيين الأكاديميين على خلفية ما وصفوه بأنه "إقدام المحكمة العليا (بهيئتها "محكمة العدل العليا") على رفع العلم الأسود في وجه الالتماسات التي تقدمها منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل، وهو ما قد يسبب ضررا جسيما للمجتمع المدني في إسرائيل"، على حد تعبير البروفسور غادي برزيلاي، عميد كلية الحقوق في جامعة حيفا، وذلك بعد سلسلة من قرارات الحكم التي أصدرتها هذه المحكمة ولم تكتف فيها برفض الالتماسات التي تقدمت بها تلك المنظمات في قضايا حقوقية مختلفة، بل فرضت عليها أيضا دفع "مصاريف محاكم" بمبالغ باهظة جدا (بلغت عشرات آلاف الشواكل في كل التماس!)، علما بأن وجود تلك المنظمات ونشاطها يقومان، بصورة أساسية، على ما تجمعه من تبرعات من مصادر مختلفة، ناهيك عن أن هذه التبرعات قد تضاءلت كثيرا خلال السنوات الأخيرة، على خلفية الضغوطات الهائلة التي تمارسها أوساط يمينية مختلفة ضد هذه المنظمات وضد الصناديق التي تمولها.

وأكد منتقدو هذا التوجه من جانب المحكمة العليا أن من شأنه أن يشكل عنصر ردع في وجه تلك المنظمات الحقوقية يمنعها من تقديم التماسات في قضايا حيوية وهامة جدا تتعرض فيها حقوق الإنسان والمواطن المختلفة إلى الغبن والدوس من جانب المؤسسات الحكومية والهيئات الرسمية المختلفة.

واعتبر برزيلاي أن "فرض هذه المصاريف الباهظة على هذه المنظمات هو الطريقة التي استخدمتها المحكمة العليا سعيا إلى تقليص عدد الالتماسات المقدمة إليها"، وهذا خلافا لما درجت عليه هذه المحكمة منذ أواسط الثمانينيات، وفي النصف الثاني من التسعينيات بشكل خاص، في منحى تشجيع المنظمات والجمعيات الجماهيرية، غير الحكومية، على تقديم التماسات إلى المحكمة العليا في قضايا لا تخصها بصورة مباشرة ولا مصلحة مباشرة لها فيها.

وكان المحامي دان يكير، المستشار القانوني لجمعية حقوق المواطن في إسرائيل، قد حمّل رئيس المحكمة العليا، آشير غرونيس، شخصيا مسؤولية مباشرة عن هذا المنحى الجديد، إذ قال (يكير) إن "رئيس المحكمة العليا أبدى، في عدة جلسات، تحفظا صريحا من التماسات تقدمها منظمات جماهيرية"!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات